الجمعة، 8 يوليو 2016

للمرة الأولى منذ عشر سنوات: روائي على غلاف «التايم» جوناثان فرانزن يعيد الألق إلى «الرواية الأدبية» الأميركية

ترجمة وإعداد: فوزي محيدلي


في آب الحالي وللمرة الأولى منذ عقد من السنين، تحتل صورة اديب بل روائي اميركي غلاف مجلة «تايم» الشهيرة في حزيران الماضي نشر الناقد الأميركي الكبير لي سيغيل مقالة في «النيويورك اوبزرفر» بعنوان» أين ذهب الروائيون الكبار من أمثال نورمان مايلر؟» معلناً بالتالي موت الرواية الأدبية الاميركية. وهكذا شكل ظهور جوناثان فرانزن على غلاف «التايم» حدثاً أدبياً كبيراً.

لقد حن الأميركيون الى الرواية الأدبية الأميركية التي اعطاها «الحرس القديم» أمثال فيليب روث، صول بيلو وجون ابرايك والتي احتلت المشهد الروائي الاميركي منذ 1950 حتى 2000، تحت عنوان «روائي اميركي عظيم» جاء في «التايم»: «انه ليس الأغنى او الأكثر شهرة، شخصياته لا تجد حلاً للألغاز، أو تتميز بطاقات سحرية أو تعيش في المستقبل، لكن في روايته الجديدة يرينا جوناثان فرانزن الطريقة التي نعيش فيها الآن.. فرانزن فرد من جنس مهدد بالانقراض، الروائي الأدبي الاميركي». ثمة قلق على جانبي الأطلسي هذه الأيام بخصوص دور الأدب في الثقافة المعاصرة، ثمة الأشكال الجديدة من الترفيه أو التسلية المنافسة للرواية فضلا عن ذلك الانحسار في مبيع الأعمال الروائية، اضافة الى المدونات ووسائل التعبير الالكترونية. اذن، الأدب الجدي ومقدرة القراء الثقافية على تقديره باتا عرضة للتهديد.

من هنا يتقدم اسم فرانزن كروائي في الانكليزية يمتلك الطموح والموهبة ليجعل الرواية الأدبية ذات معنى ثانية، سواء كمركبة حاملة للترفيه الجماعي وكذلك كسجل جدي للأزمنة الحاضرة. ولقد نجح فرانزن بادئ الأمر عام 2001 عبر روايته «التصويبات» التي شكلت دراما عائلية لأكثر من جيل في ايحاد طريقة لمصالحة مطالب السرد القديم الطراز مع اسلوب ادراك الفرد لنفسه، فنالت تلك الرواية جائزة «الكتاب الوطني»، وسيصار الى تحويلها قريبا الى فيلم سينمائي.

واذا كانت رواية «تصويبات» قد شكلت ظاهرة في الأدب الأميركي فان رواية فرانزن الجديدة «حرية» لا تقل عنها شأنا وأهمية. فهذه الرواية التي تتعدى كما اختها الخمسمئة صفحة هي نسيبة قريبة جدا لـ «تصويبات» هي اقرب الى ملحمة اجتماعية واقعية لعائلة من الغرب الأوسط الأميركي تلتهمها الأفعى الشرهة للمجتمع المعاصر وفي حين سردت «تصويبات» قصة آل لامبرت ـ آرثر، انيدير وأولادهما الثلاثة، تحكي «حرية» قصة آل بيرغلاندر ـ ولنر وباتي وولديهما. وبدلا من التفكير بالثراء السريع عبر الفوضى القائمة في ليتوانيا وأبعد السوفيات في الرواية الأولى لدينا في الثانية نفس النزعة من طلب الشرط السريع عبر استغلال الحرب في العراق، وتزخر «حرية» كسابقتها بالتحليل النفسي والعلاقات خارج الزواج والكلام حول الرأسمالية والتكاثر السكاني.

لا شك ان هذا العمل بنظر البعض عملاً عبقرياً يذكر بسبب تحمس كل شخص لفرانزن ويذكر ايضا بالسحر الذي لا يمكن نكرانه للعمل حتى في يومنا هذا، في ايامنا الترقمية ـ أجل يذكر بالرواية الأدبية للايام الخوالي.

قلة من الروائيين ينافسون فرانزن في مهارة خلق الحياة في شخصياته، في مهارة ايهامنا لنؤمن ان مجموعة من انماط التصرف العصبي، أو حدث عقلي صرف تشكل واقعاً شخصا محسوسا يمكن ان نحبه، نتعاطف معه، نكرهه، أو نعجب به، وربما نلتقيه في دكان الحي، شخصياته مرسومة بعمق وكثافة حتى ان الحياة العقلية لكل منها مخططة حتى آخر ذرة ذهنية، مخترقة تلك العتبة الدقيقة التي تفصل بين الفن والواقع انها تلمس وترا لدى القارئ كما يفعل اصدقاؤه وجيرانه وتلامذة صفه وأحباؤه.

كما باقي روايات فرانزن، القليلة بأية حال، تسرد «حرية» العديد من القصص، ناشرة اياها على عقود عدة من السنين وفوق اكثر من قارة. تتبع الرواية صعود نجم مغني روك، تحسين جوار مدينة سقوط مأساوي لاحداهن في مهنة كرة السلة، والولادة المشوهة لمحمية طيور دولية. اما الدراما أو القصة الاساسية للرواية فهي عبارة عن قصة حب قديمة الطراز: العلاقة الصاخبة والانفعالية التي تربط حياة ولتر وباتي بيرغلاند. ولتر شخص محب للطبيعة يعمل كل جهده لكبح غضبه وتأمين ما يلزم لكل من حوله، أما باتي فلاعبة كرة سلة تؤذي ركبتها لتتحول الى ربة منزل، يقوم كل منها بسد ثغرات روحية لدى الآخر الى ان تتحول علاقتهما في النهاية الى معقدة جداً. تسمي باتي العلاقة «اضطراب مريع للقلب». ومع توالي أحداث الرواية نرى الألم من وجهات نظر مختلفة ـ من وجهة نظر ولتر، باتي، ابنهما جوي، وصديقهما ريتشارد. وكل تحول يضغط على القصة، جالباً اللوم، كاشفاً البواعث، ومعيداً تجسيد الشخصية النذلة كبطلة والبطلة كنذلة.

لناحية الأسلوب يعتمد فرانزن الدقة في توصيف التسويات المؤلمة للحياة في الكبر. ثمة نظام يفرضه على ادراك شخصياته المؤلم لأنفسهم، ويحضر عنده ايضا التسهيل الغريب لتخريب الذات وما يرافق ذلك من مراكمة لحظات عصابية ولن ننسى ايضا الميل الى ارتفاع جرعة النزعة الكوميدية. ولناحية الجمل، نرى ان بعضها مكتوب بمنتهى الحدب.

يبدو فرانزن مهتما بعمق بسعادة شخصياته. وقد يجد القارئ نفسه يتماهى مع شخصيات الكتاب، بل قد يفكر بأحداث جرت في حياة اصحابه، وحياته هو وينطبق على رؤية فرانزن ما قاله مرة ديفيد فوستر والاس حول السرد: «المادة الجيدة يمكن ان تجعل القراء يشعرون بأنهم اقل وحدة».

«حرية» رواية ذات نوعية اصيلة وحقيقية. يقول الروائي جيون داير «ليس عبثا ان احد شخصيات فرانزن تقرأ رواية «الحرب والسلم» فرانزن هو الأقرب لتولستوي معاصر: شخصيات من لحم ودم تمر بتحولات عميقة فيما تبقى امينة لشخصياتها الأساسية. لكن لا بد من التشديد على المعاصرة، لذا فان فرانزن مربوط باللحظة الحاضرة سواء على صعيد التفاصيل او القوى التاريخية التي تحددها. واقعاً، انه يقدم نسخة تقليدية من القص. والشيء الذي يسجل له هو مقدرته في الحفاظ على مستوى عال من الدقة والتشويق جملة اثر جملة».

ـــــــــــــــــ
المصدر : المستقبل اللبنانية، 22 آب 2010م، العدد 3748.
    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق