الاثنين، 11 يوليو 2016

«رجل بلا ظل»... لجويس أوتس...الذاكرة... المخاوف والأسئلة الحيوية

الوسط - جعفر الجمري

تاريخ النشر: 20 فبراير 2016


«رجل بلا ظل»، رواية الكاتبة والشاعرة والناقدة الأميركية جويس كارول أوتس (ولدت العام 1938، وتقوم بتدريس الأدب في جامعة برينستون منذ العام 1978)، تظل «رواية المخاوف النابعة من الأسئلة الحيوية»، بحسب تعبير ليا هاغر كوهين، في المراجعة التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز»، يوم الجمعة (12 فبراير/ شباط 2016). رواية رجل يفقد الذاكرة بسبب عدوى تعرَّض لها وهو في سن السابعة والثلاثين. فقدان الذاكرة التقدُّمي غير القابل للعلاج. هذا يعني، أنه يتذكَّر معظم حياته قبل أن يوصله المرض إلى هذه المرحلة؛ ولكنه في الوقت نفسه غير قادر على تكوين أي من الذكريات الجديدة.
من الأسئلة الحيوية تلك: ما هي طبيعة النفس؟ وما هي العلاقة بين الذاكرة والنفس؟ أي نوع من الهوية الشخصية يكون ممكناً عندما لا نملك القدرة على الحفاظ على السرْد المستمر؟ أي نوع من الهوية ممكن عندما نختار الجمود والوهم عوضاً عن النهوض والواقع؟ ثم ما هي القوة المُتاحة لامرأة في مجال يسيطر عليه الذكور؟ كيف يمكنها أن تفاوض ما يصطدم مع طموحها المهني، ورغبتها الجنسية، وكذلك أخلاق وآداب مهنة الطب؟ كيف يمكن للشخص الذي لم تضعف ذاكرته أن يعمل على بناء سرد الذات لديه؟ معظم أعمال أوتس يتركَّز حول التقلُّب الذي تعاني منه ذاكرة الأميركيين. يبدو ذلك جلياً في الكثير من أعمالها، ولعل عملها الأخير «رجل بلا ظل» يمثل جانباً جليِّاً من ذلك الاشتغال غير المنقطع. بطبيعة ذلك الاشتغال يبرز موضوع الهوية كمرتكز في أعمالها المتنوعة. ذلك التوحُّد الذي تعيشه مع شخصيات رواياتها وقصصها. قوى العقل الباطن... الاغتصاب... العنف والإغراء، وهي الموضوعات التي تستهويها. هنا جانب من أهم ما ورد في المراجعة.

قراءة غير مريحة
أحدثُ روايةٍ للأميركية جويس كارول أوتس، تجعل القراءة غير مُريحة، كونها شائكة، حتى قبل أن يبدأ السرْد، ثمَّة تلميح بوجود قلق يُمكن رؤيته متسلِّلاً من خلال كتابة يتم صوغها وسبْكها بعناية: «إن الإبادة ليست إرهاباً. الرحلة هي الإرهاب. إنْسَ الإشارة الصريحة للإرهاب؛ إنه نوع، أو بمثابة دبق في حضرة غربة يجد القارئ نفسه مستقراً إزاءها في صورة مؤقتة، مُحاولاً البحث عن هويَّة. تكتب بأسلوب ذي طابع غامض، مع قدرة عالية على التحليل الاجتماعي، بذلك التدفق من المصادر التي كثيراً ما يتم افتراضها. في روايتها «رجل بلا ظل»، لا نحتاج إلى كبير جهد كي نكتشف أن أوتس في جُلِّ أعمالها تعاني وبشكل مُقيم ودائم من حال «التوحُّد» مع شخصيات رواياتها.
في هذا العمل سنقف على تقمُّص دور بطلة روايتها، طبيبة الأعصاب: مارغوت شارب، والتي سيتضح لنا من خلال تداعي الأحداث ارتباطها بعلاقة مع إليهو هوبز، فاقد الذاكرة، ليبرز سؤال الهوية المُلحُّ: ماذا لو لم تكن لي هوية؟ سؤال ينبثق من توهُّج وحراك تُريد أن تكون عليه، رفضاً لانطفاء ربما يلوح بين الفينة والأخرى. تأتي الإجابة في صياغة قريبة من السبْك الذي عُرفت به أوتس، وهنا وجه من أوجه القراءة التي ستبدو غير مُريحة في التعاطي مع العمل: «نخترع القصصَ، كي تكون الشمّاعة التي نعلّق عليها ما نحمله من هواجس. ينتابني شعور بأنني على تطابق تام مع مارغوت، في ميولها، وإخلاصها في العمل، ومجازفتها أيضاً».
زمن قصير هو الذي تتحرَّك فيه ذكريات إليهو (70 ثانية). تظل كل مُقابلة هي الأولى بالنسبة إليه كلما التقى مارغوت. تنجح أوتس في إيجاد تلك الرابطة والعلاقة بينهما. الأهم من كل ذلك، يتجلَّى في قدرة أوتس على تجديد العلاقة بين الاثنين مع كل مقابلة.

الدخان والمرايا
إليهو هوبز، الذي يتحوَّل إلى «رجل بلا ظل» (المجاز هنا يذهب باتجاه الذاكرة المفقودة. ذاكرة كل منا هي ظله في شكل من الأشكال، حتى لو تجاوزنا المجاز. لا أحد منا بمنأى عن ذاكرته/ ذكرياته. ذلك كلام يصح على الأسوياء، وحتى الذين تعرَّضوا إلى عطب ما في تلك الذاكرة، يظل شيء منها عالقاً هناك، وذلك هو ما تبقَّى من الظل) انطلاقاً من العنوان الذي اتخذته أوتس لروايتها. ولكي نتمكَّن من ولوج صفحات الرواية، سيكون ذلك بمثابة ولوج إلى عالم من الدُّخان والمرايا، فيما يشبه إصدارَ حكم هو أكثر غدْراً من أي وقت مضى، من خلال الإدراك بأن مثل ذلك الحكْم يهدف إلى أن يُقيمَ عالماً من الحقيقة الموضوعية، عالمَ البحث العلمي (ضمن اختبارات وفحوصات معهد الأعصاب).
هنالك مَيل كليٌّ من قبل الراوي إلى عزل الكلمات عن سياقها داخل الجُملة الواحدة؛ سواء من خلال إدخالها في علامات التنصيص، أو بوضعها بين قوسين، أو وضعها بين الشَرْطَة، وأحياناً منحها تمييزاً عن طريق نوعية الخط نفسه. الأثر المتمخِّض عن كل ذلك هو «الإبعاد/ المباعدة»؛ ما سينتج عنه ارتباك - مُقلق؛ كما لو كانت بعض الكلمات تحمل إشارات مشبوهة كأنْ تُوحي بمعانيَ دنيئة.
«رجل بلا ظل» تمتدُّ في أحداثها إلى ثلاثة عقود، وتجري أحداثها بالكامل تقريباً داخل حدود/ فضاء أحد المعاهد المتخصِّصة في علْم الأعصاب في دارفن بارك بولاية بنسلفانيا. تركِّز الحبْكة على العلاقة بين مارغوت شارب، والتي هي على وشك إكمال عامها الرابع والعشرين عندما نلتقي بها في العام 1965، طالبة الدراسات العليا، ومساعدة الأبحاث المستجدَّة في مختبر الذاكرة)، وإليهو هوبز، أو (EH) كما يُطلق عليه في الأدبيات العلمية.

الأشهر في تاريخ علْم الأعصاب
تسبَّب الالتهاب الذي تعرَّض له وهو في سن السابعة والثلاثين، في معاناته من فقدان الذاكرة التقدُّمي غير القابل للعلاج. (فقدان الذاكرة التقدمي، يعرَّف بأنه ناشئ عن مشاكل في تكوين ذكريات جديدة بعد حدوث الإصابة). هذا يعني، أنه يتذكَّر معظم حياته قبل أن يوصله المرض إلى هذه المرحلة؛ ولكنه في الوقت نفسه غير قادر على تكوين أي من الذكريات الجديدة. كان رجل أعمال ناجحاً في يوم من الأيام، فيما هو الآن يعيش مع عمَّته العجوز ويقضي أيامه خاضعاً لفحوص واختبارات، قاسية في أحيان، بل وسادية في أحيان أخرى، في معهد الأعصاب.
إليهو هوبز شخص نبيل. «من سحنته تنبثق كاريزما مليئة بالرجولة. طويل القامة. بشَرته «تنضح بالبريق». شخص فيه شيء من الفنان الذي يسكنه. سليل أسرة عريقة متميِّزة في صدارة الوجاهة في مجتمعها، إضافة إلى كونه طالباً نبيهاً وناشطاً سابقاً في مجال الحقوق المدنية.
وكما يقول الباحث الرئيسي في مشروع إليهو هوبز الدكتور ميلتون فيريس، «من المُحتمل أن يكون هوبز واحداً من أشهر الذين فقدوا الذاكرة في تاريخ علم الأعصاب».
في لحظة لم تخْلُ من الشراسة والاندفاع، عمدت مارغوت التي تعي تماماً ما يشكِّله النظام الطبقي، في ضرورة أن تكون إيجابية كي تستطيع تحقيق النجاح كامرأة عالمة. تبدأ بالتفكير في نفسها باعتبارها ابنة عفيفة تنتمي وبكل قوة اعتزاز إلى رب الأسرة ميلتون فيريس. عندما تدخل في علاقة جنسية، تعمل على إعادة صوغ وتشكيل نفسها ببراعة. ثمة محفِّزات تدفعها للدخول في تلك الحال التي لم تعتدها، الشراب المسْكر من جهة، والإرادة والنسيان من جهة ثانية، علَّها بذلك تحقق نجاحات مهنية، حين لا تُلقي بالاً إلى العار الذي يمكن أن يحيق بها.
يشار إلى أن لجويس كارول أوتس عدداً من الأعمال من بينها: «هُمْ»، وتتناول التفرقة العنصرية في ديترويت في ستينات القرن الماضي، و «المياه السوداء»، وتتناول فيها حادثة طرفها أحد أفراد عائلة كنيدي الذي مات حين هوت سيارته في إحدى البحيرات مع عشيقته، و «لأنها مرارة قلبي»، وتروي قصة حب بين عرْقين مختلفين، و «شقراء» عن مارلين مونرو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الوسط 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق