ترجمة: محمد عيد إبراهيم
اللوحة للروائي الأمريكي هنري ميللر |
v
النصّ: (بورخيس وأنا)
للشاعر الأرجنتيني: خورخي لويس بورخيس(1)
الآخرُ، المتسمّي بورخيسُ، مَن تبرُز لهُ
الأشياءُ. أعبرُ شوارعَ بيونس آيرس، لأقفَ لحظةً، بصورةٍ آليةٍ، متطلِّعاً من
الرُدهةِ إلى قوسِ المدخلِ وقرميدِ البابِ المشغولِ. أعرفُ من البريدِ عن بورخيسَ،
وأرى اسمَه في قوائمِ المشاهيرِ أو في معاجمِ التراجمِ. مولَعٌ بالساعاتِ الرمليةِ،
الخرائطِ، طباعةِ القرنِ الثامنِ عشر، طعمِ القهوةِ، وسردِ ستيفنسن(2). وإني لأشاركُه هذهِ التفصيلاتِ، لكن
دونَ طائلٍ، كأنها سِماتُ ممثّلٍ. ومن نافلِ القولِ إن بيننا علاقةَ عداءٍ. فقد
أدعُ نفسي، أحياناً، تُديمُ الحياةَ ليحتالَ بورخيسُ على أدبهِ، وأدبهُ
يُبرِّرُني. وأُسلِّمُ معترفاً بإنجازهِ بضعَ صفحاتٍ مستنيرةٍ، لكن مثلَ هذه
الصفحاتِ لا تُعفيني، لأن جيّدَها لا ينتمي لأحدٍ، ولا حتى إليهِ، الأحرَى إلى
الأدبِ وتقاليدهِ. فضلاً عن أني قرّرتُ حاسماً أن أفنَى، لأن نفسي بهِ تعيشُ. أُكرِّسُ
لهُ كلَّ شيءٍ، قليلاً قليلاً، معَ وعيي بعادتهِ الضالّةِ في دَحضِ الأشياءِ ثم تمجيدِها.
علِمَ سبينوزا(3) أن كلّ شيءٍ يتوقُ إلى توكيدِ كينونتهِ،
حيثُ تريدُ الصخرةُ أبدياً أن تبقَى صخرةً، والنمرُ نمراً. فسأبقَى بورخيسَ، لا
نفسي (لو صحّ أن بنفسي أحداً)، لكني أتعرّفُ على ذاتي في كتبهِ أقلّ من كتبِ
الآخرين، كعُصارةِ قيثارةٍ كادحةٍ. ومنذ سنينَ، جرّبتُ أن أُحرِّرَ نفسي منه، فرُحتُ
من أساطيرِ الضواحي، إلى اللّعبِ مع الخلودِ والزمنِ، لكن هذا اللّعبَ يخُصّ
بورخيسَ الآنَ، وعليّ تصوُّرُ أشياءٍ أخرى. هكذا، حياتي تحليقٌ، أخسَرُ كلَّ شيءِ،
بينما كلُّ شيءِ ينتمي إليهِ أو إلى النسيانِ.
ولا أعرفُ أيّاً منا قد حَرَّرَ هذهِ
الصفحةَ.
v
نصٌّ على النصّ: (بورخيس وأنا)
للشاعر الأمريكيّ: فرانك بيدارت(4)
نملأُ
أشكالاً مُسبّقةَ الوجودِ، وحينَ نملأُها نُغيّرُها فنتغيّرُ.
يبلِغُنا
المشهدُ القَفرُ في "بورخيسَ وأنا" لبورخيسَ؛ بصوتِ "الأنا"،
عن ذاتهِ الأخرى، بورخيس، الذاتُ التي تصوغُ الأدبَ، والتي في نَهجِ صَوغِ الأدبِ
تزيّفُ وتهوّلُ، بينما الذاتُ التي تكلّمنا تواصلُ حياتَها الآنَ ليظلّ بورخيس في صَوغِ
الأدبِ؛ وهو مشهدٌ مُغوٍ ومُعزٍّ في غرابةٍ، لكني، أظنّه زائفاً.
فصوتُ هذهِ
"الأنا" يؤكّد فارقاً ما بينَ الذاتِ الجوهريةِ وذاتِها الثانيةِ
الدنيويةِ، الذاتِ التي تنشُد التجسيدَ بصَوغِها الأشياءَ، عبرَ العملِ، والتي
تتّخذُ بصَوغِها زَيفاً، هامشياً، مزوِّراً.
يبلِغُنا صوتُ
هذهِ "الأنا" أن سبينوزا فهمَ أن كلّ شيءٍ يتمنّى لو يظلّ بكينونتهِ،
فالحجرُ يتمنّى أن يظلّ حجراً للأبدِ، وتتمنّى "الأنا" أن تظلّ من دونِ
تغييرٍ، ذاتَها.
تبدو
"بورخيس وأنا"، بعنوانِها الرمزيّ المستوحدِ، كمَن يقدّمُ مثالاً لحياةِ
الوعي، حياةِ المعرفةِ والصَوغِ، حياةِ الكاتبِ.
قد تظلّ فكرةُ
أن فرانكَ لهُ ذاتٌ كما هي، وأنهُ يعرفُ ما ستؤولُ إليهِ إن لم توجَد ذاتُها
الكاتبةُ، ككلّ توكيدٍ عن الأنظمةِ التي تكبحُ ميلَها تحتَ القمرِ، وقد يتبدّى لي
عكسُ هذا حقيقياً، لكأنهُ حقيقيٌّ.
حينَ تعترفُ
"أنا" بورخيسَ أن بورخيسَ يزيّفُ منها ويهوّلُ، يتبدّى أنهُ يفعلُها ليكسحَ
الزيفَ والتهويلَ، ليحقّقَ إخلاصاً كاملاً لم يستطعهُ بورخيس.
وقد تدعُنا هذهِ
"الأنا" نشقّ فضاءً سحرياً يصعُب بلوغُه، فضاءً يُعجِزُ التعبيرَ آنياً
عن الحميمِ والأمينِ مما أنكرناهُ سابقاً، حيثُ حَلّ الصوتُ، للمرةِ الأولى، محلّ الصمتِ.
الخيالُ اللّطيفُ،
الذي يُغري بهِ التبجّحُ واليأسُ من مباهاةٍ باردةٍ، تُقاسي فيهِ الذاتُ الجوهريةُ،
المحميّةُ من ومضاتِ وجودِها،لتُخلَّدَ بكتابةِ ذاتٍ يُعجِزُها إنجازُ أفعالِها من
دونِ خلطِ جوهرِنا بما هو زائفٌ.
كان لدى
فرانكَ وَهمٌ، حينَ كلّمَ نفسَه بالمبتَذَلِ الذي يستخدمهُ وهو يكلّمُ نفسَه، أنهُ
حينَ يصوغُ قصائدَه يتغيّرُ وهو يصوغُ، أن بلوغَهُ النظامَ الذي تبلغهُ القصيدةُ
فجأةً يبعدهُ عن فوضى الموادِ التي تُدخِلُها القصيدةُمما يبعدهُ عن فوضى الحياةِ،
الوعي إذن، وحسبُ، قد يعرفُ ذاتَه، كانَ شرلوك هولمز شخصاً أو شيئاً قبلما يُحطّمُ
حالتَه الأولى ولم يتحطّم شرلوك هولمز، فعلٌ كمرآةٍ محطّمةٍ لا من الحافزِ بل الذاتِ،
وما من طريقٍ أخرى، مرآةٍ صغيرةٍ تُخفِقُ في التركيزِ دقيقاً في الغرفةِ الكبيرةِ
السالمةِ.
لكن فرانك لديهِ
وَهمٌ أيضاً أن قصائدَهُ تَستبدِلُ ماضيَهِ بعنفٍ، أنها أخيراً كلّ ما كانَ يعرفهُ
معَ أنهُ يعرفُ أنها لم تكن، فكلّ شيءٍ آخرَ كانَ قشوراً تأبى خلقَ نمطٍ، وهو
عموماً كتبَ عن أمهِ وأبيهِ حتى رأت القصائدُ قدرَ ما رأى بل أكثرَ،بينما رأى ما
كانَ يرى وهو يقومُ بصَوغِها.
لم تكن لديهِ
ذاتٌ تمنّى أن تواصلَ كينونتِها، فنجاتُها في أن تكفّ عن كونِ ما كانتهُ.
كانَ لدى
فرانكَ وَهمٌ أنهُ، معَ أن كونَ إحدى قصائدهِ يبدو قريباً ممّا يبدو أنهُ كونهُ هو
لحظةَ كتابتِها، إلا أنهُ غيرُ موقنٍ من كيفيةِ اختلافهما، بالرغمِ من أن الأدواتِ
مختلفةٌ غالباً، فبعدَما كتبَها لم يعد كونُها بالضبطِ كونَهُ، مما جعلَها تشمئزّ للتوِّ
منهُ قليلاً، فقد صارَت المرآةُ متّسخةً ومشقّقةً.
وأسعدَهُ
سرّاً أنها متّسخةٌ ومشقّقةٌ، فبعدَما خلقَ نظاماً كبيراً، كتاباً، توصّلَ أن
يزدريَها قليلاً، بعدَما تخلّى أخيراً عن وَهمهِ أنهاكانت أياً ما كانت، استطاعَ
عندئذٍ أن يكتبَ المزيدَ.
أحسّ بالفزعِ
من أملِ أن يصبحَ ثانيةً ذلكَ الذي قد يجدهُ أو يراهُ فلا يخلقُ مرآةً، لأجلِ
خاطرِ أوليفييه(5)، وهو يحاولُ
نصبَ الشَرَكِ للحيوانِ الذي قتلَ والدَه، حينَ أبلغَ فرانكَ في دماثةٍ بينما كانَ
فرانك ينصتُ راقداً على فِراشهِ إلى الفونوغرافِ بأوقاتِ الظهيرةِالطويلةِ وهو
صغيرٌ، بلّغه أوليفييه ما يجبُ أن يكونَ عليهِ الفنّ، وأصرّ أوليفييه بأن الفنّ
مرآةٌ يرفعُها فنانٌ يحتاجُلأن يرى شيئاً، يرفعُها أمامَ طبيعةٍقد ترتدُّعليهِ.
نملأُ
أشكالاً مُسبّقةَ الوجودِ، وحينَ نملأُها نُغيّرُها فنتغيّرُ.
كلّ شيءٍ بالفنّ
بحثٌ شكليٌّ، وهو يجرّبُ تنفيذَهُ نثراً بمسافةٍ بيضاءَ فارغةٍ جداً.
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
(1)
Gorge Luis Borges: (1899/ 1986) شاعر وقاصّ أرجنتينيّ، كتب عشرة دواوين، ثم تحوّل
لكتابة القصة، ويعدّ أبا القصة القصيرة في أمريكا اللاتينية، ينزع إلى الفلسفة
والواقعية السحرية، وهو من فتح الطريق لآداب اللغة اللاتينية نحو العالم الواسع.
من أعماله: قصائد، متاهات، خيالات، حديقة المصائر المتقاطعة، تاريخ لعار الكون،
الألف، الصانع، كتاب الرمل، ذاكرة شكسبير. (م)
(2)
Stevenson: (1850/ 1894) شاعر وروائيّ ورحّالة أسكتلندي. يعدّ من أهم (26)
كاتب بالعالم. من دواوينه: حديقة الصغار الشعرية، أغاني السفر. من مجموعاته
القصصية: ألف ليلة وليلة الجديدة (وطبعة مزيدة)، السعداء وقصص أخرى، حكايات البحر
الجنوبيّ. من رواياته: جزيرة الكنز، المخطوف، الصندوق الخطأ، الحالة الغريبة
لدكتور جيكل ومستر هايد، السهم الأسود: حكاية وردتين. (م)
(3)
Spinoza: (1632/ 1677) فيلسوف يهوديّ هولنديّ، اسمه يعني "المبروك".
في كتابه "الأخلاق"، عارض ديكارت في ثنائية العقل/ الجسد. وقال عنه
هيجل: الفلاسفة المحدَثون، إما أن تكون سبينوزا أو لا تكون فيلسوفاً على الإطلاق. (م)
(4)Frank Bidart: شاعر أمريكيّ، ولد في كاليفورنيا 1939، من روّاد الأدب
الاعترافيّ. من دواوينه: الضحية، رغبة، كتاب الجسد، نجم الغبار، كلب ميتافيزيقيّ،
موسيقى كالوسخ. أما قصيدة بورخيس "بورخيس وأنا"، فهي موجودة بقسم
"نمط المناجاة"، في هذا الكتاب، لمن يودّ المراجعة. (م)
(5)
Olivier: (1907/ 1989)، ممثل ومخرج إنجليزيّ، اشتُهر بأدائه الشكسبيريات. (م)
(*) شكر خاص للشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق