الثلاثاء، 5 سبتمبر 2017

دور الكاتب في التغيير الاجتماعي..أبتون سنكلير مؤلف رواية "الغاب" أنموذجاً

بقلم: عادل العامل

عندما يكون الكاتب صادقاً في طرح قضيته، وذكياً في أسلوبه، وشجاعاً في التعبير عن رأيه، فإنه ولا بد ناجحٌ في إيصال صوته والتأثير بدرجةٍ ما على أصحاب الشأن في التعامل مع هذه القضية في الظرف المناسب لذلك. وإذا لم يحدث شيء من ذلك، فلا بد أن هناك خللاً في إحدى الحالات الآنفة الذكر.

ومن هنا يتميز بعض الكتّاب بتأثيرهم الفعلي على القارئ، وحركة المجتمع، وسياسة الدولة، إضافةً للمتعة، أو الفائدة اللغوية، أو الميزات الفنية التي تتّسم بها أساليبهم الأدبية. ويعتمد هذا، بطبيعة الحال، على شعبية الكاتب، وموضوعات كتابته، وطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، و نوع نظام الحكم القائم في بلده.

نعرف جميعاً، وبوجهٍ خاص المتابعون منا للثقافة العالمية، على سبيل المثال، التأثير الفكري للكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير ( 1694 ــ 1778 ) على الناس في بلده وعلى الظروف المؤدية لقيام الثورة الفرنسية عام 1789. وكان " مدافعًا صريحًا عن الإصلاح الاجتماعي على الرغم من وجود قوانين الرقابة الصارمة والعقوبات القاسية التي كان يتم تطبيقها على كل من يقوم بخرق هذه القوانين ". وتعرض بسبب ذلك للنفي إلى انكلترة مدة ثلاث سنوات. وكذلك الحال بالنسبة لأعمال الكاتب الروسي مكسيم غوركي الأدبية المتعلقة ببؤس حياة الكادحين اليومية التي مهّدت لثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 في روسيا، وبالنسبة لوفاته الغامضة في عهد الطاغية ستالين. كما أننا نعرف أيضاً ما فعلته كتابات الروائي الانكليزي جورج أورويل ( 1903 ــ 1950 ) في إطار التحريض على الطغيان وأسباب البؤس والاستخفاف بحقوق الإنسان وكفاحه الدؤوب من أجل ذلك حتى تردّي أحواله الصحية وموته المبكر بمرض السل، ولماذا جُرِّد الكاتب الغواتيمالي ميغيل أستورياس عام 1954 من جواز سفره ومن مواطنته وأُرغم على الهرب إلى المنفى أيام التسلط الدكتاتوري المدعوم من الولايات المتحدة في بلاده، وماذا فعله الهمج من البعثيين بالكاتب الشيوعي الشهيد عبد الجبار وهبي ( أبو سعيد )، ورفاقه، من تنكيل وحشي حاقد في انقلابهم المشؤوم عام 1963 في العراق، وكيف مات الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في أعقاب انقلاب بينوشيت الدموي في تشيلي عام 1973.. إلى آخر قائمة الكتّاب المناضلين الذين أثّروا في الرأي العام في بلدانهم وأزعجوا الأنظمة المستبدة الفاسدة إلى درجة اضطرارها لتصفيتهم أو إجبارهم على الفرار إلى المنفى.

غير أن للكاتب الأميركي الإشتراكي النزعة أبتون سنكلير ( 1878 ــ 1968 ) قصة مشرّفة أخرى مختلفة. وهو الكاتب الذي اشتُهر بروايته الملحمية الموجعة ( الغاب The Jungle ) (1)، التي صوّر فيها فظائع وفضائح الاستغلال الرأسمالي للناس في الولايات المتحدة الأميركية، في شيكاغو بالتحديد، في أوائل القرن العشرين. وهي من واقع الحال التي كان يعيشها آنذاك، حيث كان يعمل مراسلاً للصحيفة الأسبوعية " نداء إلى العقل" Appeal to Reason التي كلفته بكتابة تحقيق عن أوضاع المسالخ ومعامل تعليب اللحوم، فتنكر في زي عامل لعدة أسابيع جمع في أثنائها مادة وثائقية شكلت النواة لروايته الخامسة " الغاب". وقد كتبها، وكان يسكن في حجيرة من ألواح خشبية ثمانية بعشرة أقدام، مقامة على سفح تل شمالي برنستون في نيو جيرسي، خلال مدة لا تزيد على التسعة أشهر، حسبما يقول، وكان عمره 27 عاماً. وقد كشف فيها سنكلير أوضاعاً في قطّاع تعبئة اللحوم أثارت موجةً من الغضب بين أوساط الشعب، ما دفع الإدارة الأميركية آنذاك إلى إقرار قانون الأطعمة والعقاقير النقية وقانون فحص اللحوم عام 1906، وفقاً للموسوعة الحرة. وقد استماتت شركات اللحوم الاحتكارية للتغطية على فظائعها الإنتاجية في تعليب اللحوم، واستغلال العاملين فيها حتى الموت، ولتكذيب رواية الكاتب، و محاربته، حتى اضطُر الرئيس الأميركي آنذاك تيودور روزفلت بعد اطلاعه على الرواية، إلى مقابلته، ومن ثم تشكيل لجنة تقصي حقائق مرتين، جاء في تقرير الثانية منهما أن رواية سنكلير لم تكن صحيحة فقط بل وأن هناك أوضاعاً أكثر فظاعة في هذا القطّاع لم يعرف بها سنكلير نفسه. وقد سبق لروزفلت أن أدلى بشهادته أمام لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ قائلاً إنه على استعداد لأن يأكل قبعته العتيقة ولا يأكل ذلك الطعام المعلَّب!

يقول سنكلير في روايته، واصفاً في أحد الفصول إحدى عمليات إعداد "اللحوم" للتعليب و التوزيع في الاسواق للبيع كطعام للناس، ( و ربما كان بعض ما تناولناه وما نتناوله اليوم من لحمٍ معلب في معامل الانتاج الرأسمالي الأجنبي ، والمحلي أيضاً، شبيه بذلك ) :

[ أما القسم الذي عملت فيه أليزبيتا فهو القسم الذي يجيء إليه اللحم الفاسد بكامله، حيث تقطّعه هناك السكاكين ذات الألفي دورة في الدقيقة ثم يُمزج بنصف طن من لحم آخر بحيث لا يعود باستطاعة أية رائحة أن تُبقي على فارق بينهما ... وكثيراً ما تُعاد من أوروبا نقانق قديمة رُفضت لِما عليها من عفن وفطريات، فتُعالج بالبوراكس والغليسرين ثم تُغطس قي القواديس (2) و من ثم تُعد للاستهلاك من جديد. وقد تكون هذه لحوم سقطت على الأرض وتلوثت بالتراب والأوساخ كما داس عليها العمال وبصقوا عليها بملايين من جراثيم السل. وقد تُخزن لحوم على شكل أكداس كبيرة في الغرف وتقطر عليها مياه ترشح من السقف وتتسابق عليها آلاف الجرذان. وفي مخازن كهذه تصعب على المرء الرؤية بسبب الظلمة، إلا أنه يستطيع مد يده إلى هذه الأكياس والخروج بحفنة من البراز الجاف لهذه الجرذان التي تشكل مصادر إزعاج فيحاول أصحاب دور التعليب قتلها بوضع خبز مسمم لها، قتموت، وحينئذٍ يوضع اللحم و الخبز والجرذان معاً في القواديس. لكن لا تحسبن أن هذه حكاية من حكايا الجن أو نكتة، فاللحم يُجرف بالرفوش إلى العربات والعامل الذي يقوم بهذه العملية لا يبالي قيد شعرة برفع جرذ ميت فيما يجرفه حتى ولو رآه ــ فهناك أشياء تدخل في تركيب النقانق يُعد جرذٌ ميت بالمقارنة معها لغواً فارغاً ... ومن هذه الأعمال تنظيف ما تحويه براميل الفضلات، وهي عملية تجري كل ربيع، حيث يكون في البراميل وسخ وصدأ ومسامير قديمة وماء عفن ــ لكن مع ذلك تؤخذ منه حمولة عربة بعد أخرى لتُغطس في القواديس جنباً إلى جنب مع اللحم الطازج ولتخرج بعد ذلك من المعمل طعاماً للآكلين. ]!

هذا إضافةً للفظائع التي يصفها الكاتب في فصول مختلفة والتي تجري عند قتل الخنازير و الأبقار بالمئات يومياً بطريقة وحشية لا تذهب ضحيةً لها الحيوانات فقط بل والعمال الذين عليهم إنجازعملهم في إعداد اللحوم للتعليب بأدنى ما يمكن من الأجر وأطول ما يمكن من الوقت حتى ينتهي بهم الأمر إلى المرض، والطرد من العمل بالتالي، والموت أو الجوع والتسوّل في الشارع.

فإذا كانت طبيعة الطعام الذي تصنعه شركة تعليب اللحوم تلك على هذه الدرجة من الغش و الفظاعة والاستخفاف بالحياة الإنسانية، فإن الحياة التي عاشتها أسرة جرجس اللتوانية المهاجرة إلى "النعيم الرأسمالي" الأميركي، كانت أشد فظاعةً وقسوةً ولا إنسانية، حيث مات رجالها العاملون في المسلخ من الأمراض الناجمة عن الإرهاق والتلوث وانعدام الرقابة الصحية، و تحولت بعض نسائها إلى عاهرات لتأمين معيشة الأسرة، وغرق أحد أطفالها في بركة ماء قذر في الشارع وتشرد الآخرون. وهرب جرجس، بطل الرواية، من بقية الأسرة يأساً ليعيش مشرداً جائعاً هو الآخر في مراكز الشرطة وطرقات المدينة والريف .. إلى أن يهتدي، خلال تسكعه و بحثه عن ملجأ يؤويه، إلى الاشتراكية في أماكن اجتماع المناضلين الاشتراكيين في شيكاغو. ثم يتعرّف مصادفةً على رجل يحتاج إلى يد عاملة في فندقه، ويتضح في ما بعد أنه قائد بارز في هذه الحركة السياسية التي كانت تكافح الظلم والاستغلال والبؤس ومن أجل حياةٍ أفضل للناس. وهكذا يجد جرجس عملاً كريماً له، ورفاقاً شرفاء، ومستقبلاً نظيفاً له ولغيره من المستضعفين في الأرض، من خلال دوره النضالي العمالي الجديد.

الإشارات :
(1) رواية ( الغاب ) لأبتون سنكلير، الصادرة عن وزارة الثقافة السورية، بترجمة الكاتب و المترجم السوري عبد الكريم ناصيف.
(2) جمع قادوس و هو وعاءٌ كبير قمعيُّ الشكل.

"الأدغال" لآبتون سنكلير : اللحوم الفاسدة وأوهام الحلم الأميركي

بقلم: إبراهيم العريس


مع أن أحدا لم تساوره أي شكوك في شأنه، فإنه كان غريباً بعض الشيء منظر ذلك العامل الفضولي الذي بثيابه المتسخة ونظراته الفاحصة، كان لا يتوقف عن التجوال طوال سنوات عدة داخل المسالخ ومصانع اللحوم المعلبة في مدينة شيكاغو الأميركية عند السنوات الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، إذ في نهاية الأمر، لم يكن ذلك العامل عاملاً... كان كاتباً ومناضلاً اشتراكياً. وهو إذ تنكّر وخاطر وعاش تلك الحياة، فإنما كانت غايته أن يكتب، وربما سائراً في ذلك على خطى الفرنسي إميل زولا، نصّاً يفضح به الفساد والقتل والاستغلال والغش... وغيرها من المساوئ التي كانت مستشرية في أدغال صناعة اللحوم في أكبر المدن الأميركية الصناعية في ذلك الحين: شيكاغو.

> في البداية كان ذلك الكاتب المتنكر في زي عامل، يريد أن يكتب تحقيقات صحافية يفضح فيها ما يدور في ذلك العالم الكئيب الغامض، لكنه قرر في نهاية الأمر أن يحوّل النصّ الى رواية. وهكذا ولدت في العام 1905 رواية"الأدغال"التي وقعت كالصاعقة على رؤوس الأميركيين... أذهلتهم، أحزنتهم، قبل ان تغضبهم بشكل لم يعهد لديهم من قبل في مثل هذا المجال. وكان من بين أولئك الأميركيين الرئيس تيودور روزفلت، الذي ما إن قرأ الرواية بعد الضجة التي أثارتها، حتى استقبل الكاتب في البيت الأبيض، طالباً منه مزيداً من التوضيحات. ولقد كانت توضيحات الكاتب مقنعة الى درجة ان الرئيس طلب على الفور أن يجري تحقيق سري وسريع حول ما يدور حقاً داخل صناعة اللحوم في شيكاغو... علما بأن شيكاغو كانت تزوّد يومياً اللحم الطازج ملايين المواطنين، كما تزوّد أميركا كلها اللحم المعلّب. والمؤلم ان كل هؤلاء المواطنين الصالحين، إذ قرأوا"الأدغال"قبل الضجة وبعدها، ذهلوا إذ تبين لهم أن لا لحوم طازجة هناك ولا يحزنون، أما علبهم من اللحم المعلب فإنها تحتوي على أي شيء بما في ذلك لحوم وجلود الخنازير المشعة، ولحوم الجراذين المسمومة، بل أحيانا لحوم جثث عمال يقتلون خلال العمل.

> كان الأمر أكثر غرابة من أن يصدّق ... لكن التحقيق أثبت أن الكاتب كان على حق، وأن المشكلة لا تكمن في فساد اللحوم بل في فساد النظام الاقتصادي الذي ينتجها أيضاً. بدا الأمر في النهاية نقيضاً واقعياً لحلم أميركي ساء الأميركيين أن يتبينوا يومها على ضوء ذلك الواقع الجزئي، انه تحول كابوساً.

> كان اسم الكاتب آبتون سنكلير. وهو لم يشتهر خلال جزء طويل من القرن العشرين كروائي قدْرَ اشتهاره كمناضل في سبيل الاشتراكية، هو الذي كان مناصراً للحزب الاشتراكي الأميركي، خائضاً معاركه الى جانب الفقراء ضد الأغنياء، وضد الإدمان على الكحول في سبيل مجتمع أكثر عدلاً، اضافة الى نضاله في سبيل تحرير المرأة، وتحرير الأطفال من عبودية العمل... وهو من أجل الدفاع عن القضايا الأثيرة لديه لم يتوقف عن الكتابة، مسرحاً ورواية وتحقيقات صحافية، بل إن اهتماماته صارت ذاتَ حقبةٍ أمميةً، إذ نعرف انه خلال الربع الثاني من القرن العشرين كان هو وراء -وكاتب سيناريو- الفيلم الذي لم يتمكن الروسي ايزنشتاين من استكماله أبداً:"فلتحيَ المكسيك". وهنا، لمناسبة الحديث عن هذه المساهمة السينمائية الكبيرة لآبتون سنكلير، لا بد طبعاً من ان نشير الى ان شهرته عمّت أميركا والعالم من جديد خلال السنوات الأخيرة، وذلك بكل بساطة لأنه هو مؤلف رواية"بترول"، التي منها اقتبس بول توماس أندرسون فيلمه الكبير"سوف تكون هناك دماء"الذي لعب فيه الممثل داني داي لويس واحداً من أروع الأدوار في تاريخ السينما الأميركية. مهما يكن من الأمر، كان آبتون سنكلير دينامية لم تهدأ. ومع هذا تظل"الأدغال"والمغامرة التي وراء"الأدغال"أشهر انجازاته وأهمها.

> ذلك أن سنكلير تمكّن في هذا العمل من أن يقدّم"الوجه الآخر لأسطورة الحلم الأميركي"، بحسب تعبيره الخاص. وهو قال كيف ان هذا الحلم، إن كان له وجود، فإنه لم يبن إلا"على الغش واستغلال البروليتاريين، ولا سيما في المدن الكبرى، مثل شيكاغو". وهو في"الأدغال"لكي يوصل فكرته هذه، اختار بعد أن عاش سنوات في أوساط المسالخ وعمالها أن يفضح ما يحدث من خلال نص روائي.
> وبنى آبتون سنكلير النصّ من خلال أحداث تقع في العام 1901 معطياً دلالة أساسية لكون ذلك العام يفتتح القرن العشرين،"القرن الأميركي"بامتياز، وسط عائلة مهاجرين جاؤوا أميركا من ليتوانيا، في الشرق الأوروبي، معتقدين، كما كان غيرهم من المهاجرين الآتين من ألمانيا وبولندا وإيرلندا وإيطاليا، يعتقدون أنهم في وصولهم الى العالم الجديد، عالم الحلم السعيد، إنما يهربون نهائياً من البؤس والاستغلال اللذين كانوا يعيشونهما في أوطانهم الأصلية... لكنهم في الوطن الجديد لم يجدوا -وفق ما نكتشف في الرواية فصلاً بعد فصل- سوى تلك الرأسمالية الضارية التي لم تلبث أن تبدّت، خلال سنوات قليلة، ظالمة لهم، مستنفدة طاقاتهم، مستنزفة دماءهم، ماحية لديهم كل أمل... وكل هذا يصفه آبتون سنكلير في فصول الرواية وصف شاهد عيان يكتب ما يشبه التحقيق الصحافي، داخلاً في التفاصيل المذهلة، راسماً كل ذلك من خلال نظرات بطله، ابن تلك العائلة الليتوانية، المدعو جورجيس، والذي بعد أن يعاني ما يعاني، يكتشف رغم كل شيء، أن الدرب ليست مسدودة كلياً: فهو يجد نفسه وسط دوامة الأحداث بين عدد من رفاق ينقلون إليه الأفكار الاشتراكية التي سرعان ما تجعله قادراً على إدراك أوالية ما يحدث وأسبابه... ويقول لنا سنكلير في معاني الرواية طبعاً، إن هذه الأفكار هي التي تلقّنه كل الحقائق حول مصدر الشر ومصدر بؤسه، معطية إيّاه في الوقت نفسه الأدوات الفكرية التي تمكّنه من المقاومة.

> إن كثراً من الباحثين والنقاد الذين تناولوا هذه الرواية، أخذوا على كاتبها تلك الخاتمة الإيجابية التي تنتمي الى المصدر الايديولوجي نفسه الذي سوف يغذي لاحقاً معظم أدبيات الواقعية الاشتراكية ذات البطل الايجابي. غير هذا لم يكن هو العنصر الأساس والرئيس في"الأدغال". فآبتون سنكلير كان، في حقيقة الأمر، يعرف أين يريد أن يصيب، بل سوف يقال لاحقاً ان الجانب"الاشتراكي"في روايته كان ذا فاعلية كبيرة، لأنه -من قبل سلطات البيت الأبيض- اعتبر بمثابة تحذير حقيقي: ان لم يتمّ تدارك الأمور سوف تعمّ أميركا مثل هذه الأفكار. وطبعا من الصعب أن نعتقد ان سنكلير كان يريد التنبيه ضد مخاطر استشراء فكر كان هو يؤمن به، لكن الرسالة وصلت في تلك الرواية التي كان جاك لندون أحد كبار المدافعين عنها، حين هوجمت من قبل اليمين الأميركي واحتكارات صنع اللحوم، فقال عنها انها"كوخ العم توم في مجال الحديث عن استعباد العمال المأجورين"، مشيراً بالطبع الى الرواية الأميركية الكبيرة"كوخ العم توم"التي فعلت فعلها في مجال اعتاق الزنوج.

>ولعل الطريف في هذا كله، ان آبتون سنكلير نفسه كان نباتياً لا يقرب اللحم، لا قبل مغامرته تلك ولا بعدها. وهو حين كتب"الأدغال"كان لا يزال في مقتبل شبابه وذا حماسة لأفكاره الاشتراكية المشاكسة، إذ إنه ولد في العام 1878، وانخرط منذ شبابه المبكر في الصحافة وفي العمل السياسي سواء بسواء. وهو ظل مؤمناً بأفكاره لفترة طويلة، ما جعل الأمور تختلط لديه، بل ما جعله"يقتل الكاتب المبدع في داخله لمصلحة المناضل الصاخب"بحسب تعبير واحد من متناولي سيرة حياته. ولقد كتب آبتون سنكلير، الذي سيرحل العام 1968 عن تسعين سنة، مئات النصوص والبيانات السياسية والفكرية، كما كتب الكثير من المسرحيات، اضافة الى ثمانين رواية، من أبرزها ثلاثية"بترول"التي أشرنا اليها، و"متروبوليس"عن أثرياء نيويورك، كما كتب أيضاً عن قضية ساكّو وفانزيتّي، وعن المضاربات في البورصة. وكان يعتبر كل كتاب له معركةً يخوضها.

(*) الحياة اللندنية