الخميس، 19 أكتوبر 2017

مسرح الزنوج في أمريكا
أنيس فهمي

في القرن التاسع عشر بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية حركة درامية تتمثل في مسرحيات كتبت بوساطة الزنوج ومن أجلهم وحولهم. ويعتبر بعض النقاد أن عروض المغنين المتجولين في أوائل القرن التاسع عشر هي الجذور الحقيقية لمسرح الزنوج أو المسرح الأسود في أمريكا الشمالية. ولكن في البداية كانت هذه العروض يكتبها ويمثلها البيض بوجوه سوداء ويشاهدها أيضا البيض.

وبعد الحرب الأهلية الأمريكية بدأ السود يشتركون في عروض المغنين المتجولين ثم أنتجوا بعد ذلك عروضاً موسيقية سوداء كان الكثير منها يقوم السود بكتابتها وإخراجها وتمثيلها وقد عرضت في عام 1823 أول مسرحية كتبها زنجي أمريكي يدعى جيمس براون بعنوان (الملك شوتاواي), ثم كانت مسرحية (قفزة من أجل الحرية) هي أول مسرحية سوداء نشرت عام 1858. أما أول مسرحية سوداء حققت نجاحاً كبيراً فهي مسرحية (راشيل) عام 1916.

ومع حلول العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بدأ النمو الفعلي للمسرح الأسود بظهور مجموعات تجريبية وفرق مسرحية سوداء في شيكاغو ونيويورك سيتي ومدينة واشنطن. وكانت مسرحية (مظاهر) عام 1925 للكاتب الزنجي جارلاند أندرسون هي أول مسرحية عرضت في برودواي, وهو أكبر حي للمسارح في نيويورك سيتي. وبحلول عام 1940 كان المسرح الأسود قد ثبتت أقدامه في الولايات المتحدة الأمريكية.

وبعد الحرب العالمية الثانية نما المسرح الأسود وتقدم كثيرا وأصبح أكثر راديكالية وأكثر قوة وحماسا, وبدأ يعكس مثاليات ثورة زنجية تحاول نشر ثقافة زنجية لها أساطيرها ورموزها الخاصة بعيدا عن ثقافة البيض, وأنشئت مجامع لمحو استخدام القوالب والشعارات العنصرية في المسرح وإدماج كتّاب مسرح الزنوج في التيار الأساسي للدراما الأمريكية. وقد صورت مسرحية (زبيب في الشمس) وغيرها من المسرحيات الناجمة في الخمسينيات من القرن الماضي الصعوبة التي يعانيها الزنوج في تدعيم هويتهم في مجتمع يحتقرهم وينبذهم.

وبحلول عقد الستينيات من القرن العشرين انبثق مسرح أسود جديد أكثر غضبا وأكثر تحدياً من المسارح السابقة, عرضت فيه مسرحيات الزنجي (بَرَكة), ومن بينها مسرحية (الدوق) التي حصلت على جائزة في عام 1964, والتي صورت بصراحة وجرأة استغلال البيض للزنوج. وينسب لهذا الكاتب المسرحي الفضل في إنشاء ( مسرح تراث الفنون السوداء) في هارلم (حي الزنوج في نيويورك سيتي) عام 1965, كما أنه شجع كتّاباً آخرين على خلق حركة فنية سوداء في المسرح الأمريكي.

والآن نصل إلى أوجست ويلسون وهو أكثر الكتّاب المسرحيين قوة وإنتاجا وأهمية في إحداث حركة بعث جديدة في المسرح الأسود في الثمانينيات من القرن الماضي وحتى الآن.

أوجست ويلسون

أوجست ويلسون

أوجست ويلسون الزنجي الأمريكي كاتب مسرحي وشاعر وكاتب مقالات فاز مرتين بجائزة بوليتزر, وهي أرفع جائزة أدبية أمريكية, وهو من أبرز كتاب المسرح في الولايات المتحدة الأمريكية.

ولد في عام 1945 في منطقة تدعى (التل) تسكنها أجناس مختلفة في مدينة بتسبورج بولاية بنسيلفانيا. أبوه خباز أبيض من أصل ألماني, وأمه زنجية تعمل عاملة نظافة, وهو الرابع من ستة أطفال, وتربى في شقة من غرفتين خلف مخزن للبقالة. وكان أبوه يعمل في منطقة بعيدة ونادراً ما كان يراه أوجست.

بعد طلاق أمه وزواجها مرة ثانية انتقل مع أسرته إلى ضاحية كل سكانها من البيض حيث عانى كثيراً الاضطهاد العنصري. وفي عام 1961 اتهم ظلماً بسرقة أدبية لمقالة كتبها عن نابليون فطرد من كلية جلادستون. ولما فشل في العثور على عمل يرضيه التحق بالجيش عام 1963, وبعد عام اشترك في شجار حاد كان سبباً في تسريحه من الجيش.

وفي أول أبريل من عام 1965 قرر أوجست أن يصبح كاتباً فاشترى أول آلة للكتابة. وفي أواخر هذا العام انتقل إلى منزل واسع وبدأ في ممارسة سلسلة من الأعمال الحقيرة لكي تساعده في اكتساب قوته.

وفي ذلك العام نفسه اشترك في تأسيس ورشة عمل (بمسرح شعراء سنتر أفينيو) واستمع للمرة الأولى إلى تسجيلات المغنية السوداء (بيسي سميث), التي كان لها تأثير كبير على تصميم أوجست ويلسون على تناول تجربة الزنوج الثقافية والتاريخية في أعماله الأدبية, والتي ظهرت في أولى قصائده الشعرية باسم (بيسي) في صيف عام 1971.

واستمر ويلسون بعد ذلك في صقل مهاراته الأدبية وأصبح عضواً عاملاً في (مجمع الكتّاب الإفريقيين الأمريكيين), وساعد (روب بيني) في تأسيس (فرقة الآفاق السوداء المسرحية).

كتاباته المسرحية

بدأ أوجست ويلسون اتجاهه نحو الكتابة المسرحية في بداية السبعينيات من القرن العشرين. وبعد كتابة عدة مسرحيات لم تلق نجاحاً كبيراً انتقل في عام 1978 إلى سانت بول بولاية مينيسوتا ليكتب مسرحيات للمخرج كلود بيردي ويعمل كاتباً للمادة العلمية لمتحف العلوم.

  وفي العام التالي كتب مسرحية جيتني Jitney وهي من فصلين وتصور حياة السائقين في بتسبورج, وعرضت في عام 1982.  وفي عام 1981 تزوج أوجست ويلسون زوجته الثانية (جودي أوليفر) وهي أخصائية اجتماعية بيضاء تعمل بإدارة التعليم المحلية.

مسرحية (مِقْعَدَة مارايني السوداء)

عرضت هذه المسرحية في برودواي عام 1984 ولاقت ترحيبا كبيرا من النقاد ودفعت ويلسون إلى أضواء الشهرة. كانت ما رايني مغنية جاز أثرت على بيسي سميث التي صممت الكثير من الاستعراضات الكلاسيكية. تدور أحداث المسرحية بمدينة شيكاغو عام 1920, وفيها تظهر ما رايني بطلة الاستعراض مع الموسيقيين الذين يكونون خلفية لها. كانت ما رايني تقول عن موسيقى فرقتها (الشعوب البيضاء لا تفهم موسيقى البلوز. إنهم يسمعونها ولكنهم لا يعرفونها, إنهم لا يعرفون أنها طريقة للكلام في الحياة. إننا لا نغني لكي نشعر بالراحة. إننا نغني لأن الغناء هو طريقة لفهم الحياة).

وبهذه المناسبة نذكر أن البلوز نوع من الغناء المثقل بأحزان السود والأفارقة معا الذين جلبهم البيض بالقوة إلى القارة الأمريكية ليكونوا عبيداً لهم. والبلوز هو أقرب إلى الندب والمراثي الذاتية.

يتناول موضوع المسرحية الاستغلال الاقتصادي للموسيقيين الزنوج بواسطة أصحاب شركات التسجيل البيض, والوسائل التي يتبعونها ليدفعوا الزنوج, ضحايا التمييز العنصري, لتوجيه غضبهم وكراهيتهم إلى بعضهم البعض بدلا من توجيهها إلى مستغليهم وأعدائهم من البيض, كما أن المسرحية تواجه الأضرار التي تنتج من توجيه هذه الكراهية توجيهاً خاطئاً. إن ليفي بطل المسرحية لا يتقبل تخليص ميراثه من المغتصبين, بل يذبح الرسول الأسود الذي يذكره بالأوضاع السيئة والاضطهاد العنصري. إن ليفي يقتل توليدو بدلاً من الرجال البيض الذين اغتصبوا أمه, وأولئك الذين يرفضون موسيقاه الآن.

وبفضل هذه المسرحية تعرّف ويلسون على لويد ريتشاردز, وهو رجل أسود يعمل مديراً فنياً لمركز يوجين أونيل المسرحي, الذي يعمل أثناء الصيف ويقوم باكتشاف وتشجيع الكتّاب المسرحيين الموهوبين.

ومن بين أكوام هائلة من النصوص التي عرضت على ريتشاردز التقط مسرحية (مارايني) التي قال عنها: (لم أكن قد سمعت أبداً عن أوجست ويلسون, ولكن مسرحيته عن الموسيقيين الزنوج في شيكاغو في العشرينيات تحتوي على شخصيات مليئة بالحيوية إلى حد أنه خيِّل إليّ أنني أعرفهم).

وقد مد ريتشاردز يد المساعدة لويلسون ليضع مسرحيته في صورتها النهائية, وعرضها في مسرح (ييل للريبرتوار) الذي يديره. وفي عام 1984 قدمت هذه المسرحية في برودواي مائتين وخمسا وسبعين ليلة ونالت جائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), وقالت عنها جريدة (نيويورك تايمز): (إنها تقرير لاذع عما تفعله العنصرية البيضاء بضحاياها, وهي أيضا مسرحية حسِّية مسلية غنائية مملَّحة).

مسرحية (سياجات) أو (أسوار) FENCES

انضم ويلسون إلى (الكتّاب المسرحيين الجدد) بنيويورك سيتي عام 1983. وقد أراد ويلسون أن يثبت للنقاد أنه يستطيع أن يقتفي أثر الشكل التقليدي للدراما الأوربية الأمريكية بالتركيز على شخصية واحدة أساسية, فأنتج مسرحية (سياجات) التي يدور موضوعها حول صراعات أسرة من الطبقة العاملة لتحصل على الأمان الاقتصادي في الخمسينيات من القرن الماضي.

إن تروى ماكسون, الزنجي جامع القمامة ولاعب كرة البيسبول سابقاً, قلق أشد القلق لأن التفرقة العنصرية لن تسمح لابنه بالانتفاع بمنحة كرة القدم التي حصل عليها ابنه.

ومسرحية (سياجات) تعرض شريحة من الحياة في مبنى يشتمل على عدة شقق تسكنها العائلات الفقيرة بمدينة بتسبورج في أواخر الخمسينيات وحتى عام 1965. إن تروي ماكسون يفخر بأنه حافظ على إعالة أسرته, ولكنه يشعر بالإحباط والتمرد عندما يكافح من أجل تحقيق المساواة في مجتمع لا يؤمن بها. ولذلك, فهو يبني سياجاً حقيقياً حول منزله ويبني سياجات مجازية بينه وبين كل شخص آخر في المسرحية.

إن تروي يصارع فكرة الموت الذي يعتبره شيئاً يمكن التعامل معه, أما رمز البيسبول BASEBALL فيستخدم كتعبير مجازي عن الموت خلال المسرحية كلها. إن الإحباط الذي صادفه في ممارسة لعبة البيسبول في الاتحادات الرياضية للزنوج يؤثر على علاقته بابنه كوري CORY
إن ويلسون يستعرض في هذه المسرحية العلاقة بين الأب والابن كجزء محوري, وهذه العلاقة تتعقد بفعل تصادم المشاعر القوية بالفخر والاستقلالية من الجانبين.

أما علاقة الأب تروى بزوجته (روز) فلا تخلو من مشكلة خطيرة, فإن خيانته لزوجته وعلاقته بامرأة أخرى أنجب منها طفلاً تضطر زوجته لإعالته, يحطم حياته الزوجية تماما.
وفي نهاية المسرحية جميع الشخصيات تستضيفها المؤسسات الخاصة أو الحكومية. فالزوجة تلجأ إلى الكنيسة, وإحدى الشخصيات تقضي بقية حياتها في إصلاحية الأحداث, وأخرى في مستشفى للأمراض العقلية, والابن يلتحق بالمارينز الأمريكية. أما الشخصية الوحيدة التي تظل حرة فهي ابنة تروى التي ترمز إلى الأمل في المستقبل.

وقد عرضت مسرحية (سياجات) بمسرح ييل للريبرتوار عام 1986, وبعد عرضها بمسرح (الشارع رقم 46) بنيويورك سيتي عام 1987 حازت جائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), وجائزة بوليتزر وجوائز أخرى. وبلغ دخلها اثنى عشر مليوناً من الدولارات, واختارت مجلة (شيكاغو تريبيون) أوجست ويلسون (فنان العام), كما حصل أيضا على جائزة (جون جاسنر) لحلقة النقاد الخارجية باعتباره أحسن كاتب مسرحي.


مسرحية (مجيء جو تيرنر وذهابه)

بينما كانت مسرحية (سياجات) تسجل نجاحاً هائلاً في برودواي عام 1988, افتتح عرض مسرحية (مجيء جو تيرنر وذهابه) في مسرح إيثيل باريمور.

كتب أوجست ويلسون هذه المسرحية عام 1984 ويقول عنها إنها أحب أعماله إليه بالرغم من أنها أقل مسرحياته نجاحاً من الناحية التجارية. وهذه المسرحية تحكي قصة أبناء وبنات العبيد السابقين الذين حاولوا أن يؤسسوا عائلات جديدة في عام 1911 شمال الولايات المتحدة الأمريكية, والكارثة الشخصية والثقافية التي نتجت عن ذلك.


تدور أحداث المسرحية في فندق بمدينة بتسبورج, وهي حلقة من سلسلة مسرحيات حول تجربة السود في أمريكا, وقد فازت بجائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), كما أضافت مكتبة نيويورك العامة اسم ويلسون إلى قائمة (أسود الأدبLIONS Of  LITERATURE.


مسرحية (درس البيانو)

هذه المسرحية هي مسرحية ويلسون الرابعة التي عرضت في برودواي والثانية التي فازت بجائزة بوليتزر, كما فازت بجائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك) وجوائز أخرى.

كتبت في عام 1986 وعرضت بمركز أونيل المسرحي ومسرح ييل للريبرتوار عام 1987. وبعد جولة طويلة بالمسارح الإقليمية عرضت بمسرح وولتر كير ببرودواي عام 1990. وأثناء تلك الفترة انتقل ويلسون ليقيم بمدينة سياتل.

تدور أحداث المسرحية بمدينة بتسبورج أثناء الانهيار الاقتصادي في الثلاثينيات من القرن العشرين, وتصور صراع عائلة بشأن إرث عائلي مشترك عبارة عن بيانو قديم مزين بصور محفورة ذات أسلوب إفريقي كان قد حفرها على البيانو جد هذه الأسرة الذي كان نجاراً يعمل عبداً في إحدى المزارع.

وهذا البيانو يشكل حلقة الاتصال بحقبة الرق. وفي هذا الصراع نجد امرأة عنيدة مصممة على الاحتفاظ بالبيانو الذين يمثل ميراثاً عزيزاً من جدها يذكرها دائما بماضي العذاب والألم الذي عاناه الإفريقيون السود, في حين أن أخاها يريد أن يبيعه ليشتري بثمنه قطعة أرض في ميسيسيبي كان أفراد العائلة قد عملوا فيها عبيداً أو مزارعين لقاء جزء من المحصول. ويقوم بين الأخ وأخته صراع يصور أهمية الاحتفاظ بتراث الأجداد. ولكن مهما حدث للبيانو فإن كاتب المسرحية يوضح بشكل جلي أن الموسيقــــى في (درس البيانو) ليست للبيع لأنها تنتمي للناس الذين عاشوها.


مسرحية (قطاران يجريان)

انتخب أوجست ويلسون عضواً بالأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم عام 1991, وكان قد كتب مسرحية (قطاران يجريان) عام 1989 وعرضت بمسرح ييل للريبرتوار عام 1990, وبمسرح وولتر كير ببرودواي عام 1992 واستمر عرضها سبعة عشر شهراً وفازت بجائزة (جمعية نقاد المسرح الأمريكي). هذه المسرحية تعطي مثلاً حياً لمقدرة ويلسون الفائقة على مزج الكوميديا والدراما والشعر في صورة متلألئة لحياة الزنوج.

إن القطارين في عنوان المسرحية يشيران إلى الخدمة الناقصة للسكة الحديدية بين الشمال والجنوب, كما يرمزان أيضاً إلى الموت والحب اللذين يعرضهما المؤلف بصورة متكررة في المسرحية.

تدور الأحداث في مطعم في أحد أحياء بتسبورج الحقيرة أواخر الستينيات من القرن العشرين. تدخل المطعم شخصيات متعددة لطلب الطعام والصداقة في الوقت نفسه. كل الزبائن من الزنوج وأغلبهم لديهم مشكلات. وأحد هؤلاء الرجال يدعى ينج سترلينج متخصص في سرقة البنوك ويحاول التوبة بعد أن قضى مدة عقوبته في السجن. رجل آخر اسمه هولوواي نقّاش متقاعد يحب الفلسفة.

الرجل الثالث اسمه مستر وست حانوتي المنطقة وأغنى زنجي فيها. أما ريزا فهي امرأة شابة شوهت ساقيها لتبعد عنها المعجبين من الرجال. أما أسوأ الجميع فاسمه هامبون وهو رجل فاسد ضخم الجثة, ثقيل الحركة بشكل محزن, وقد غشه رجل أبيض جزار, باع له فخذ خنزير فاسدا. ولا يكف هامبون عن التجوال في أنحاء الحي وهو يصيح: (أريد فخذ خنزيري). ويحوم حول الجميع شبح العمة إستر وهي امرأة يقال إنها تبلغ من العمر 322 عاماً وتملك القدرة على إزالة جميع المصائب والبلايا إذا ذهب أحد لاستشارتها. ومن خلال جميع هذه الشخصيات يبث أوجست ويلسون أفكاره ببصيرة حاذقة ذكية.

يقول الحكيم العجوز هولوواي: (الناس يقتلونني بالحديث عن الزنوج الكسالى. إن الزنوج أكثر الناس حباً للعمل في العالم. عملوا 300 عام من دون أجر ومن دون أن يستريحوا ساعة واحدة لتناول الغداء).

إن الممثل البارع الذي قال هذه الكلمات يرى أنها تؤكد براعة ويلسون المميزة في استخدام الكلمات ويضيف قائلا: (إنه لا يقل جودة عن يوجين أونيل, وهو ينفذ إلى الأعماق النفسية للشخصية مثل أي واحد من عظماء الكتّاب المسرحيين, كما أنه يعرف كيف يستدعي الذكريات العنصرية بتفوق يثير الإعجاب). إن هولوواي أيضاً هو الذي يقول إحدى العبارات التي لا تنسى بعد أن وقع سترلينج وريزا في الحب… وهي رسالة عن الحب والموت تمثل مفتاح المسرحية. هذه العبارة هي: (الموت يبحث عنكما يجب عليكما أن تبحثا عن الحب). إن الهدف من هذه المسرحية هو التركيز على ضرورة المصالحة مع الماضي قبل محاولة التقدم إلى الأمام.


سبع آلات جيتار

تتناول هذه المسرحية المأساة المفجعة لعازف الجيتار فلويد بارتون وتفتتح أحداثها بجنازته, ثم تعود أحداث المسرحية إلى الوراء بطريقة الفلاش باك, أي استرجاع الذكريات, لتقص أحداث الأسبوع الأخير من حياة فلويد. وهذه المسرحية هي أول إنتاج مسرحي ضخم لأوجست ويلسون من دون إخراج لويد ريتشاردز الذي تنحى عن المسرحية بسبب مرضه.

تدور أحداث المسرحية بعد الحرب العالمية الثانية بمدينة بتسبورج حيث يجتمع بعض الأصدقاء بعد جنازة الطالب فلويد بارتون. لقد انتهت حياة فلويد في اللحظة التي كان على وشك أن يمارس فيها مهنته في عالم (قطع الرقاب), وهو عالم صناعة الموسيقى في المدن. ويتحدث أصدقاؤه عن الملائكة ذوي القبعات السوداء الذين ظهروا في مكان المقبرة وحملوا فلويد معهم. وعندئذ تعود الأحداث إلى الوراء بطريقة الفلاش باك لتسترجع ذكريات الأيام الأخيرة في حياة فلويد.

أثناء عودة فلويد إلى منزله بعد تشييع جنازة والدته وجيوبه فارغة يستوقفه رجال البوليس للقبض عليه بتهمة التشرد ويلقونه في ملجأ للفقراء حيث يكتشف فلويد أن شريط التسجيل لأول أغنية له حقق أكثر المبيعات ولكنه لم يقبض شيئاً من النقود. وبعد الإفراج عنه يصله خطاب من الرجل الأبيض مُنتج الشريط يطلب إليه فيه العودة إلى شيكاغو لتسجيل شريط آخر. ويعتقد فلويد أن هذا الاستدعاء يعني أنه سيصبح نجماً, وكل ما عليه أن يفعله إيجاد طريقة لجمع المال الكافي ليعود إلى شيكاغو مع فرقته الموسيقية.

تجمع أفراد الفرقة الموسيقية في فناء المنزل وأخذوا يغنون بانسجام, كل واحد بصوته المميز, وكل واحد يسبح في ملكوته.

إن هيدلي, المصاب بمرض السل, يحلم بأن بودي بولدن منتج شريط التسجيل, سيعود من نيو أورليانز ويعطيه نقوداً لشراء مزرعة, أما ريد فإنه سيعود إلى شيكاغو (إذا استطاع فلويد أن يحفر له طبوله), وكينويل عازف الهارمونيكا مازال يحلم بالشهرة, ولذلك يريد أن يثبت جدارته.

أما نساء المسرحية اللواتي يقاسين في حياتهن فيغنين للحب الذي فشل. إن فيرا, عشيقة فلويد, تستعيده بعد أن تركها من أجل امرأة أخرى. ولويزه مالكة البنسيون تزعم بأنها لا تريد أي أحد أن يطرق بابها. أما روبي, العاهرة وابنة أخت لويزة, فقد هربت من ألاباما بعد أن قتل أحد الرجال رجلاً آخر لأنه ضبطه وهو يمارس الحب معها.

في هذه المسرحية نجد أن عالماً بأكمله قد تجمع في فناء المنزل الذي يصفه أوجست ويلسون بأنه (حلبة صراع, ميدان قتال, مقبرة, وحديقة ينمو فيها شيء… إنها حياة جديدة, النقطة النابضة للثقافة السوداء في عام 1948).

ويضيف ويلسون قائلا: (إن موقف الزنوج كان مشحوناً بالأمل بعد الحرب. كنا نعتقد أننا عندما نحارب ونموت في سبيل بلدنا فلن نعود مواطنين من الدرجة الثانية. ولكن سرعان ما وجدنا أننا ظللنا موصومين باللون والثقافة. إن المشكلة لا تتعلق باللون, بل بالأحرى تتعلق بأفعالنا التي تضع الأفارقة الأمريكيين في وضع متخلف. إن الحقيقة تتلخص في أننا نتصرف بطريقة مختلفة, ونفكر بطريقة مختلفة, ونواجه العالم بطريقة مختلفة. واختلافنا هذا هو الذي يجعلنا ليس لنا نظير. ولذلك, يجب علينا أن نحتضن ثقافتنا وإلا فسنختفي ونضيع).


مسرحية (الملك هيدلي الثاني)

هي آخر مسرحيات أوجست ويلسون, وقد عرضت في برودواي عام 2001, وتقع أحداثها عام 1985 بمدينة بتسبورج.

في مطاردة للأحلام والكوابيس يسكن شخوص المسرحية عالماً مليئاً بالنزاعات العائلية العنيفة بسبب أشياء تافهة, وبالتنبؤات الخرافية والمزاج السوداوي, ومع كل ذلك فهم يظلون متجهين نحو المستقبل. إن جيوبهم مبطنة بالأمل المتجدد وإيمان لا يتزعزع بقدراتهم وبطولاتهم. والمسرحية حافلة بأغاني الرعاع وحثالة الناس وتلعب بالعواطف التراجيدية والكوميدية, كما يغوص أوجست ويلسون في أعماق عهد ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان مستكشفاً نكباته بالنسبة للتمييز العنصري وسيادة العنف والانهيار الحضاري.

وهذه المسرحية, تصور انتصارات ومحاولات مجتمع يواجه مشكلات الأسرة والبطالة والجريمة. بطل المسرحية سجين سابق يصارع ماضيه وحاضره, وكفاحه مع الحياة, بالإضافة إلى علاقاته مع زوجته الثانية, وأمه, وعشيقها السابق, وأصدقائه, وجيرانه مما يحمل في طياته تراجيديا ملحمية. ومع ذلك فإن المسرحية لا تخلو من الدعابة وإثارة الشفقة على هذه الشريحة من دراما الحياة المغموسة بلحظات إنسانية جداً من المزاح الكوميدي. ومع ذلك فإن مسرحية (الملك هيدلي الثاني) تتحدث بفصاحة وصراحة عن إمكانات خلق بدايات جديدة.

مفهوم المسرح عند أوجست ويلسون

منذ أن بدأ أوجست ويلسون حياته المسرحية كانت نظرته إلى المسرح بأنه وسيلة لرفع مستوى ضمير المجتمع كله بالنسبة لحياة زنوج أمريكا في القرن العشرين.

ولذلك, فقد آلى على نفسه أن يكتب سلسلة من عشر مسرحيات تعيد كل واحدة منها كتابة تاريخ عقد من عقود ذلك القرن لكي تصبح حياة الزنوج جزءاً معترفاً به في تاريخ المسرح الأمريكي. إن مسرحياته تعرض تجربة فريدة تجبر جمهور المشاهدين على البحث عن استنتاجاتهم وخلاصات أفكارهم السياسية كامتداد لمواقف حياة شخصيات مسرحياته.
ولما كان ويلسون واسع الخيال وعميق التفكير, فإنه يعتبر ناطقاً مسرحياً بلسان التجربة الإفريقية الأمريكية. وقد ساعده على ذلك أن أعماله المسرحية تتميز بمقدرته الهائلة على إدماج لغة الحياة اليومية مع مادته الشعرية المتدفقة في نسيج متكامل جذاب. ومع أنه لم يعد يعتبر نفسه شاعراً, فإن موهبته الشعرية هي التي أهلته لكي يصبح من أهم كتّاب المسرح في الدراما الأمريكية المعاصرة.


مجلة العربي الكويتية/ العدد 530/ 1 ـ 1 ـ 2003م

الثلاثاء، 5 سبتمبر 2017

دور الكاتب في التغيير الاجتماعي..أبتون سنكلير مؤلف رواية "الغاب" أنموذجاً

بقلم: عادل العامل

عندما يكون الكاتب صادقاً في طرح قضيته، وذكياً في أسلوبه، وشجاعاً في التعبير عن رأيه، فإنه ولا بد ناجحٌ في إيصال صوته والتأثير بدرجةٍ ما على أصحاب الشأن في التعامل مع هذه القضية في الظرف المناسب لذلك. وإذا لم يحدث شيء من ذلك، فلا بد أن هناك خللاً في إحدى الحالات الآنفة الذكر.

ومن هنا يتميز بعض الكتّاب بتأثيرهم الفعلي على القارئ، وحركة المجتمع، وسياسة الدولة، إضافةً للمتعة، أو الفائدة اللغوية، أو الميزات الفنية التي تتّسم بها أساليبهم الأدبية. ويعتمد هذا، بطبيعة الحال، على شعبية الكاتب، وموضوعات كتابته، وطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، و نوع نظام الحكم القائم في بلده.

نعرف جميعاً، وبوجهٍ خاص المتابعون منا للثقافة العالمية، على سبيل المثال، التأثير الفكري للكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير ( 1694 ــ 1778 ) على الناس في بلده وعلى الظروف المؤدية لقيام الثورة الفرنسية عام 1789. وكان " مدافعًا صريحًا عن الإصلاح الاجتماعي على الرغم من وجود قوانين الرقابة الصارمة والعقوبات القاسية التي كان يتم تطبيقها على كل من يقوم بخرق هذه القوانين ". وتعرض بسبب ذلك للنفي إلى انكلترة مدة ثلاث سنوات. وكذلك الحال بالنسبة لأعمال الكاتب الروسي مكسيم غوركي الأدبية المتعلقة ببؤس حياة الكادحين اليومية التي مهّدت لثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 في روسيا، وبالنسبة لوفاته الغامضة في عهد الطاغية ستالين. كما أننا نعرف أيضاً ما فعلته كتابات الروائي الانكليزي جورج أورويل ( 1903 ــ 1950 ) في إطار التحريض على الطغيان وأسباب البؤس والاستخفاف بحقوق الإنسان وكفاحه الدؤوب من أجل ذلك حتى تردّي أحواله الصحية وموته المبكر بمرض السل، ولماذا جُرِّد الكاتب الغواتيمالي ميغيل أستورياس عام 1954 من جواز سفره ومن مواطنته وأُرغم على الهرب إلى المنفى أيام التسلط الدكتاتوري المدعوم من الولايات المتحدة في بلاده، وماذا فعله الهمج من البعثيين بالكاتب الشيوعي الشهيد عبد الجبار وهبي ( أبو سعيد )، ورفاقه، من تنكيل وحشي حاقد في انقلابهم المشؤوم عام 1963 في العراق، وكيف مات الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في أعقاب انقلاب بينوشيت الدموي في تشيلي عام 1973.. إلى آخر قائمة الكتّاب المناضلين الذين أثّروا في الرأي العام في بلدانهم وأزعجوا الأنظمة المستبدة الفاسدة إلى درجة اضطرارها لتصفيتهم أو إجبارهم على الفرار إلى المنفى.

غير أن للكاتب الأميركي الإشتراكي النزعة أبتون سنكلير ( 1878 ــ 1968 ) قصة مشرّفة أخرى مختلفة. وهو الكاتب الذي اشتُهر بروايته الملحمية الموجعة ( الغاب The Jungle ) (1)، التي صوّر فيها فظائع وفضائح الاستغلال الرأسمالي للناس في الولايات المتحدة الأميركية، في شيكاغو بالتحديد، في أوائل القرن العشرين. وهي من واقع الحال التي كان يعيشها آنذاك، حيث كان يعمل مراسلاً للصحيفة الأسبوعية " نداء إلى العقل" Appeal to Reason التي كلفته بكتابة تحقيق عن أوضاع المسالخ ومعامل تعليب اللحوم، فتنكر في زي عامل لعدة أسابيع جمع في أثنائها مادة وثائقية شكلت النواة لروايته الخامسة " الغاب". وقد كتبها، وكان يسكن في حجيرة من ألواح خشبية ثمانية بعشرة أقدام، مقامة على سفح تل شمالي برنستون في نيو جيرسي، خلال مدة لا تزيد على التسعة أشهر، حسبما يقول، وكان عمره 27 عاماً. وقد كشف فيها سنكلير أوضاعاً في قطّاع تعبئة اللحوم أثارت موجةً من الغضب بين أوساط الشعب، ما دفع الإدارة الأميركية آنذاك إلى إقرار قانون الأطعمة والعقاقير النقية وقانون فحص اللحوم عام 1906، وفقاً للموسوعة الحرة. وقد استماتت شركات اللحوم الاحتكارية للتغطية على فظائعها الإنتاجية في تعليب اللحوم، واستغلال العاملين فيها حتى الموت، ولتكذيب رواية الكاتب، و محاربته، حتى اضطُر الرئيس الأميركي آنذاك تيودور روزفلت بعد اطلاعه على الرواية، إلى مقابلته، ومن ثم تشكيل لجنة تقصي حقائق مرتين، جاء في تقرير الثانية منهما أن رواية سنكلير لم تكن صحيحة فقط بل وأن هناك أوضاعاً أكثر فظاعة في هذا القطّاع لم يعرف بها سنكلير نفسه. وقد سبق لروزفلت أن أدلى بشهادته أمام لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ قائلاً إنه على استعداد لأن يأكل قبعته العتيقة ولا يأكل ذلك الطعام المعلَّب!

يقول سنكلير في روايته، واصفاً في أحد الفصول إحدى عمليات إعداد "اللحوم" للتعليب و التوزيع في الاسواق للبيع كطعام للناس، ( و ربما كان بعض ما تناولناه وما نتناوله اليوم من لحمٍ معلب في معامل الانتاج الرأسمالي الأجنبي ، والمحلي أيضاً، شبيه بذلك ) :

[ أما القسم الذي عملت فيه أليزبيتا فهو القسم الذي يجيء إليه اللحم الفاسد بكامله، حيث تقطّعه هناك السكاكين ذات الألفي دورة في الدقيقة ثم يُمزج بنصف طن من لحم آخر بحيث لا يعود باستطاعة أية رائحة أن تُبقي على فارق بينهما ... وكثيراً ما تُعاد من أوروبا نقانق قديمة رُفضت لِما عليها من عفن وفطريات، فتُعالج بالبوراكس والغليسرين ثم تُغطس قي القواديس (2) و من ثم تُعد للاستهلاك من جديد. وقد تكون هذه لحوم سقطت على الأرض وتلوثت بالتراب والأوساخ كما داس عليها العمال وبصقوا عليها بملايين من جراثيم السل. وقد تُخزن لحوم على شكل أكداس كبيرة في الغرف وتقطر عليها مياه ترشح من السقف وتتسابق عليها آلاف الجرذان. وفي مخازن كهذه تصعب على المرء الرؤية بسبب الظلمة، إلا أنه يستطيع مد يده إلى هذه الأكياس والخروج بحفنة من البراز الجاف لهذه الجرذان التي تشكل مصادر إزعاج فيحاول أصحاب دور التعليب قتلها بوضع خبز مسمم لها، قتموت، وحينئذٍ يوضع اللحم و الخبز والجرذان معاً في القواديس. لكن لا تحسبن أن هذه حكاية من حكايا الجن أو نكتة، فاللحم يُجرف بالرفوش إلى العربات والعامل الذي يقوم بهذه العملية لا يبالي قيد شعرة برفع جرذ ميت فيما يجرفه حتى ولو رآه ــ فهناك أشياء تدخل في تركيب النقانق يُعد جرذٌ ميت بالمقارنة معها لغواً فارغاً ... ومن هذه الأعمال تنظيف ما تحويه براميل الفضلات، وهي عملية تجري كل ربيع، حيث يكون في البراميل وسخ وصدأ ومسامير قديمة وماء عفن ــ لكن مع ذلك تؤخذ منه حمولة عربة بعد أخرى لتُغطس في القواديس جنباً إلى جنب مع اللحم الطازج ولتخرج بعد ذلك من المعمل طعاماً للآكلين. ]!

هذا إضافةً للفظائع التي يصفها الكاتب في فصول مختلفة والتي تجري عند قتل الخنازير و الأبقار بالمئات يومياً بطريقة وحشية لا تذهب ضحيةً لها الحيوانات فقط بل والعمال الذين عليهم إنجازعملهم في إعداد اللحوم للتعليب بأدنى ما يمكن من الأجر وأطول ما يمكن من الوقت حتى ينتهي بهم الأمر إلى المرض، والطرد من العمل بالتالي، والموت أو الجوع والتسوّل في الشارع.

فإذا كانت طبيعة الطعام الذي تصنعه شركة تعليب اللحوم تلك على هذه الدرجة من الغش و الفظاعة والاستخفاف بالحياة الإنسانية، فإن الحياة التي عاشتها أسرة جرجس اللتوانية المهاجرة إلى "النعيم الرأسمالي" الأميركي، كانت أشد فظاعةً وقسوةً ولا إنسانية، حيث مات رجالها العاملون في المسلخ من الأمراض الناجمة عن الإرهاق والتلوث وانعدام الرقابة الصحية، و تحولت بعض نسائها إلى عاهرات لتأمين معيشة الأسرة، وغرق أحد أطفالها في بركة ماء قذر في الشارع وتشرد الآخرون. وهرب جرجس، بطل الرواية، من بقية الأسرة يأساً ليعيش مشرداً جائعاً هو الآخر في مراكز الشرطة وطرقات المدينة والريف .. إلى أن يهتدي، خلال تسكعه و بحثه عن ملجأ يؤويه، إلى الاشتراكية في أماكن اجتماع المناضلين الاشتراكيين في شيكاغو. ثم يتعرّف مصادفةً على رجل يحتاج إلى يد عاملة في فندقه، ويتضح في ما بعد أنه قائد بارز في هذه الحركة السياسية التي كانت تكافح الظلم والاستغلال والبؤس ومن أجل حياةٍ أفضل للناس. وهكذا يجد جرجس عملاً كريماً له، ورفاقاً شرفاء، ومستقبلاً نظيفاً له ولغيره من المستضعفين في الأرض، من خلال دوره النضالي العمالي الجديد.

الإشارات :
(1) رواية ( الغاب ) لأبتون سنكلير، الصادرة عن وزارة الثقافة السورية، بترجمة الكاتب و المترجم السوري عبد الكريم ناصيف.
(2) جمع قادوس و هو وعاءٌ كبير قمعيُّ الشكل.

"الأدغال" لآبتون سنكلير : اللحوم الفاسدة وأوهام الحلم الأميركي

بقلم: إبراهيم العريس


مع أن أحدا لم تساوره أي شكوك في شأنه، فإنه كان غريباً بعض الشيء منظر ذلك العامل الفضولي الذي بثيابه المتسخة ونظراته الفاحصة، كان لا يتوقف عن التجوال طوال سنوات عدة داخل المسالخ ومصانع اللحوم المعلبة في مدينة شيكاغو الأميركية عند السنوات الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، إذ في نهاية الأمر، لم يكن ذلك العامل عاملاً... كان كاتباً ومناضلاً اشتراكياً. وهو إذ تنكّر وخاطر وعاش تلك الحياة، فإنما كانت غايته أن يكتب، وربما سائراً في ذلك على خطى الفرنسي إميل زولا، نصّاً يفضح به الفساد والقتل والاستغلال والغش... وغيرها من المساوئ التي كانت مستشرية في أدغال صناعة اللحوم في أكبر المدن الأميركية الصناعية في ذلك الحين: شيكاغو.

> في البداية كان ذلك الكاتب المتنكر في زي عامل، يريد أن يكتب تحقيقات صحافية يفضح فيها ما يدور في ذلك العالم الكئيب الغامض، لكنه قرر في نهاية الأمر أن يحوّل النصّ الى رواية. وهكذا ولدت في العام 1905 رواية"الأدغال"التي وقعت كالصاعقة على رؤوس الأميركيين... أذهلتهم، أحزنتهم، قبل ان تغضبهم بشكل لم يعهد لديهم من قبل في مثل هذا المجال. وكان من بين أولئك الأميركيين الرئيس تيودور روزفلت، الذي ما إن قرأ الرواية بعد الضجة التي أثارتها، حتى استقبل الكاتب في البيت الأبيض، طالباً منه مزيداً من التوضيحات. ولقد كانت توضيحات الكاتب مقنعة الى درجة ان الرئيس طلب على الفور أن يجري تحقيق سري وسريع حول ما يدور حقاً داخل صناعة اللحوم في شيكاغو... علما بأن شيكاغو كانت تزوّد يومياً اللحم الطازج ملايين المواطنين، كما تزوّد أميركا كلها اللحم المعلّب. والمؤلم ان كل هؤلاء المواطنين الصالحين، إذ قرأوا"الأدغال"قبل الضجة وبعدها، ذهلوا إذ تبين لهم أن لا لحوم طازجة هناك ولا يحزنون، أما علبهم من اللحم المعلب فإنها تحتوي على أي شيء بما في ذلك لحوم وجلود الخنازير المشعة، ولحوم الجراذين المسمومة، بل أحيانا لحوم جثث عمال يقتلون خلال العمل.

> كان الأمر أكثر غرابة من أن يصدّق ... لكن التحقيق أثبت أن الكاتب كان على حق، وأن المشكلة لا تكمن في فساد اللحوم بل في فساد النظام الاقتصادي الذي ينتجها أيضاً. بدا الأمر في النهاية نقيضاً واقعياً لحلم أميركي ساء الأميركيين أن يتبينوا يومها على ضوء ذلك الواقع الجزئي، انه تحول كابوساً.

> كان اسم الكاتب آبتون سنكلير. وهو لم يشتهر خلال جزء طويل من القرن العشرين كروائي قدْرَ اشتهاره كمناضل في سبيل الاشتراكية، هو الذي كان مناصراً للحزب الاشتراكي الأميركي، خائضاً معاركه الى جانب الفقراء ضد الأغنياء، وضد الإدمان على الكحول في سبيل مجتمع أكثر عدلاً، اضافة الى نضاله في سبيل تحرير المرأة، وتحرير الأطفال من عبودية العمل... وهو من أجل الدفاع عن القضايا الأثيرة لديه لم يتوقف عن الكتابة، مسرحاً ورواية وتحقيقات صحافية، بل إن اهتماماته صارت ذاتَ حقبةٍ أمميةً، إذ نعرف انه خلال الربع الثاني من القرن العشرين كان هو وراء -وكاتب سيناريو- الفيلم الذي لم يتمكن الروسي ايزنشتاين من استكماله أبداً:"فلتحيَ المكسيك". وهنا، لمناسبة الحديث عن هذه المساهمة السينمائية الكبيرة لآبتون سنكلير، لا بد طبعاً من ان نشير الى ان شهرته عمّت أميركا والعالم من جديد خلال السنوات الأخيرة، وذلك بكل بساطة لأنه هو مؤلف رواية"بترول"، التي منها اقتبس بول توماس أندرسون فيلمه الكبير"سوف تكون هناك دماء"الذي لعب فيه الممثل داني داي لويس واحداً من أروع الأدوار في تاريخ السينما الأميركية. مهما يكن من الأمر، كان آبتون سنكلير دينامية لم تهدأ. ومع هذا تظل"الأدغال"والمغامرة التي وراء"الأدغال"أشهر انجازاته وأهمها.

> ذلك أن سنكلير تمكّن في هذا العمل من أن يقدّم"الوجه الآخر لأسطورة الحلم الأميركي"، بحسب تعبيره الخاص. وهو قال كيف ان هذا الحلم، إن كان له وجود، فإنه لم يبن إلا"على الغش واستغلال البروليتاريين، ولا سيما في المدن الكبرى، مثل شيكاغو". وهو في"الأدغال"لكي يوصل فكرته هذه، اختار بعد أن عاش سنوات في أوساط المسالخ وعمالها أن يفضح ما يحدث من خلال نص روائي.
> وبنى آبتون سنكلير النصّ من خلال أحداث تقع في العام 1901 معطياً دلالة أساسية لكون ذلك العام يفتتح القرن العشرين،"القرن الأميركي"بامتياز، وسط عائلة مهاجرين جاؤوا أميركا من ليتوانيا، في الشرق الأوروبي، معتقدين، كما كان غيرهم من المهاجرين الآتين من ألمانيا وبولندا وإيرلندا وإيطاليا، يعتقدون أنهم في وصولهم الى العالم الجديد، عالم الحلم السعيد، إنما يهربون نهائياً من البؤس والاستغلال اللذين كانوا يعيشونهما في أوطانهم الأصلية... لكنهم في الوطن الجديد لم يجدوا -وفق ما نكتشف في الرواية فصلاً بعد فصل- سوى تلك الرأسمالية الضارية التي لم تلبث أن تبدّت، خلال سنوات قليلة، ظالمة لهم، مستنفدة طاقاتهم، مستنزفة دماءهم، ماحية لديهم كل أمل... وكل هذا يصفه آبتون سنكلير في فصول الرواية وصف شاهد عيان يكتب ما يشبه التحقيق الصحافي، داخلاً في التفاصيل المذهلة، راسماً كل ذلك من خلال نظرات بطله، ابن تلك العائلة الليتوانية، المدعو جورجيس، والذي بعد أن يعاني ما يعاني، يكتشف رغم كل شيء، أن الدرب ليست مسدودة كلياً: فهو يجد نفسه وسط دوامة الأحداث بين عدد من رفاق ينقلون إليه الأفكار الاشتراكية التي سرعان ما تجعله قادراً على إدراك أوالية ما يحدث وأسبابه... ويقول لنا سنكلير في معاني الرواية طبعاً، إن هذه الأفكار هي التي تلقّنه كل الحقائق حول مصدر الشر ومصدر بؤسه، معطية إيّاه في الوقت نفسه الأدوات الفكرية التي تمكّنه من المقاومة.

> إن كثراً من الباحثين والنقاد الذين تناولوا هذه الرواية، أخذوا على كاتبها تلك الخاتمة الإيجابية التي تنتمي الى المصدر الايديولوجي نفسه الذي سوف يغذي لاحقاً معظم أدبيات الواقعية الاشتراكية ذات البطل الايجابي. غير هذا لم يكن هو العنصر الأساس والرئيس في"الأدغال". فآبتون سنكلير كان، في حقيقة الأمر، يعرف أين يريد أن يصيب، بل سوف يقال لاحقاً ان الجانب"الاشتراكي"في روايته كان ذا فاعلية كبيرة، لأنه -من قبل سلطات البيت الأبيض- اعتبر بمثابة تحذير حقيقي: ان لم يتمّ تدارك الأمور سوف تعمّ أميركا مثل هذه الأفكار. وطبعا من الصعب أن نعتقد ان سنكلير كان يريد التنبيه ضد مخاطر استشراء فكر كان هو يؤمن به، لكن الرسالة وصلت في تلك الرواية التي كان جاك لندون أحد كبار المدافعين عنها، حين هوجمت من قبل اليمين الأميركي واحتكارات صنع اللحوم، فقال عنها انها"كوخ العم توم في مجال الحديث عن استعباد العمال المأجورين"، مشيراً بالطبع الى الرواية الأميركية الكبيرة"كوخ العم توم"التي فعلت فعلها في مجال اعتاق الزنوج.

>ولعل الطريف في هذا كله، ان آبتون سنكلير نفسه كان نباتياً لا يقرب اللحم، لا قبل مغامرته تلك ولا بعدها. وهو حين كتب"الأدغال"كان لا يزال في مقتبل شبابه وذا حماسة لأفكاره الاشتراكية المشاكسة، إذ إنه ولد في العام 1878، وانخرط منذ شبابه المبكر في الصحافة وفي العمل السياسي سواء بسواء. وهو ظل مؤمناً بأفكاره لفترة طويلة، ما جعل الأمور تختلط لديه، بل ما جعله"يقتل الكاتب المبدع في داخله لمصلحة المناضل الصاخب"بحسب تعبير واحد من متناولي سيرة حياته. ولقد كتب آبتون سنكلير، الذي سيرحل العام 1968 عن تسعين سنة، مئات النصوص والبيانات السياسية والفكرية، كما كتب الكثير من المسرحيات، اضافة الى ثمانين رواية، من أبرزها ثلاثية"بترول"التي أشرنا اليها، و"متروبوليس"عن أثرياء نيويورك، كما كتب أيضاً عن قضية ساكّو وفانزيتّي، وعن المضاربات في البورصة. وكان يعتبر كل كتاب له معركةً يخوضها.

(*) الحياة اللندنية



الاثنين، 21 أغسطس 2017

ألبي وكأنه عراف، فـ«مهمة الكاتب أن يرفع للناس مرآة كي يروا كم هي حياتهم مليئة بالعبث»

بقلم: ابراهيم العريس

«كل إنسان  يحصل في نهاية الأمر على ما يعتقد أنه يحتاجه». هذه العبارة، هي الجملة  الحوارية الأخيرة التي يختتم بها إدوارد آلبي واحدة من أشهر مسرحياته،  والمسرحية التي أثارت أكبر قدر من الاستهجان والهجوم في أميركا ستينات  القرن الماضي. وكان يمكن للهجوم عليها أن يتواصل، لولا أن آلبي نفسه كتب  بعدها مباشرة مسرحيته التالية «من يخاف فرجينيا وولف؟»

 لتستقطب هذه الأقلام وصفحات الصحف والحبر، بحيث صارت «قضية» المسرحية السابقة في الظل. أما هذه «المسرحية السابقة» التي نتحدث عنها هنا فهي «الحلم الأميركي»، المسرحية ذات الفصل الواحد التي كتبها آلبي عام 1960، لتقدم للمرة الأولى عند مطلع العام التالى في نيويورك. ومنذ البداية، منذ العنوان، كان واضحاً أن هذه المسرحية التي كتبها آلبي ذو الثانية والثلاثين من عمره آنذاك، تحمل قدراً كبيراً من الاستفزاز الساخر، ذلك أن هذا الكاتب المشاكس كان، في كل مسرحياته السابقة وعددها أربع، بدأ يكتبها منذ عام 1958، قد أبدى قدراً كبيراً من الغضب (الموروث بالطبع عن آرثر ميلر ثم عن مسرح الشبان الغاضبين في إنكلترا) على نمط الحياة المزيفة والمقنعة الذي تعيشه الطبقة الوسطى الأميركية. هذه الطبقة التي، بالنسبة إليه، كانت هي حاملة الحلم الأميركي وضامنة استمراره. ومن هنا إذا كان آلبي، قد دخل في صلب هذا «الحلم» في أعماله السابقة، ولكن بأشكال مواربة، فإنه في هذه المسرحية الجديدة آنذاك، قرر هذه المرة أن يجابه «الحلم» مباشرة وباسمه الصريح.

> ومع هذا لم يلجأ آلبي الى أسلوب المسرح الواقعي الذي كان من السمات الرئيسة لأعماله السابقة، والطابع المميز لأعمال أسلافه من كتاب المسرح الأميركيين الكبار في القرن العشرين، بل لجأ الى أسلوب مسرح العبث، الذي كان في ذلك الحين أوروبياً خالصاً أطل قبل سنوات على أيدي بيكيت ويونسكو وآداموف وغيرهم من الأجانب الذين كتبوا مسرحهم بالفرنسية، ليبدو مسرح العبث وكأنه، أيضاً، فن يتماشى تماماً مع اللغة الفرنسية.

> إذاً، عبر مسرحية «الحلم الأميركي»، أتى آلبي ليقول إن مسرح العبث يتماشى أيضاً مع اللغة الإنكليزية (الأميركية على الأقل). ومن هنا ستظل مسرحية «الحلم الأميركي» تعتبر أول مسرحية أميركية تنتمي بكل وضوح الى مسرح العبث، ما «أورب» المسرح الأميركي في هذا الإتجاه أيضاً، بعدما كان آرثر ميلر وتنيسي ويليامز، على خطى يوجين أونيل، أوربوه في اتجاه واقعي.

> تدور أحداث «الحلم الأميركي» في فترة زمنية واحدة وفي ديكور واحد، هو بهو منزل أسرة من الطبقة الوسطى الأميركية. ونحن لن نعرف هؤلاء الأشخاص بأسماء واضحة، بل بموقعهم الأسري. فهناك الأم «مامي» والأب «دادي»، وخصوصاً الجدة «غراما». أما الشخصية الوحيدة التي لها اسم تنادى به فهي «مسز باركر» مسؤولة جمعية «باي باي، لخدمة شؤون التبني» والتي ستكون أقصر الشخصيات حضوراً، ذلك أن لها مهمة محددة - بحكم وظيفتها - تقوم بها وتنصرف. وهذه المهمة هي تسليم الأسرة، الشخص المطلوب تبنيه. غير أن هذا لن يحدث إلا لاحقاً.

> أما في البداية فإن لدينا «مامي» و «دادي» جالسين في بهو غرفة المعيشة حيث يدور بينهما حوار من الواضح أن لا معنى له على الإطلاق في معظم لحظاته. لكننا مع هذا نفهم أن الاثنين ينتظران الزوار الذين لا نعرف عنهم الآن شيئاً، لكننا نعرف أنهم تأخروا في الوصول و «الناس غالباً ما يتأخرون في الوصول هذه الأيام» تقول جملة حوار مشمئزة، قبل أن نفهم في النهاية أن المنتظَرين هم قوم آتون من مكاتب جمعية شؤون التبني الذين سيسلمون ابناً جديداً بالتبني بدل ذاك الذي كانت «مامي» قد فقدته قبل سنوات، ومن ثم قُدّم طلب للحصول على بديل له، ها هو الآن منتظر بلهفة. في الحقيقة ليس ثمة قلق في موقف «مامي» و»دادي»، بل هناك رضا عن ذلك التأخير الذي يعطيهما مجالاً لثرثرة لا حدود لها. ومن يلحظ هذا هو الجدة «غراما» التي تجلس مراقبة إياهما مصدرة بين الحين والآخر، ملاحظات لئيمة تنتقد تصرفاتهما، منذ اللحظة التي تدخل الى الغرفة محملة بأكوام من صناديق الكرتون. وهي إذ ترمي الصناديق عند قدمي «دادي» تشكو من أن العجائز لم يعودوا قادرين على التحدث مع أحد. لأن الناس يستعلون عليهم. ومن هنا يزعم العجائز أنهم لا يسمعون، فقط كي يتفادوا إفساح مجال للآخرين للسخرية منهم... وكل هذا، في رأي «غراما» هو الذي يوصل العجائز الى حتفهم. وهنا من خلال بقية الحديث المتبادل يطالعنا بعض الحديث عن الماضي حين كانت «مامي» طفلة و «غراما» في مقتبل العمر. ثم نفهم أن «مامي» صارت ثرية بفضل زواجها من «دادي» بعد أن عانت وأمها الفقر قبل ذلك. لكن زواجهما لم يرزقهما أبناء، لذا يحققان الأبوة والأمومة من خلال التبني...

> وإذ يصل الحوار في تراوحه بين كشف الماضي والعبارات العبثية التي لا معنى لها، الى وضعية تكشف استحالة القدرة على التواصل حول شؤون راهنة، ليظل أي حديث منطقي حديثاً عن الماضي، يدق الجرس، لتدخل مسز باركر التي ما إن تقف وسط الغرفة حتى يدعوها «دادي» الى الجلوس، فيما تدعوها «مامي» الى كأس ولفافة تبغ، ثم يبدأ حديث مع هذه السيدة يتعلق بالصناديق، في ما تعلن «غراما» بمكر أنها تعرف سبب مجيء مسز باركر. فتشتمها «مامي» ناعتة إياها بالكاذبة، وتطلب من «دادي» أن يحطم جهاز التلفزيون الخاص بها.

> وفي خضم هذا الصراع اللفظي يدخل الى الغرفة شاب وسيم الطلعة رياضي السمات، مرتدياً القميص الرياضية وسروال رعاة البقر اللذين يرتديهما كل الأبطال في الأفلام السينمائية الأميركية كما في المسلسلات التلفزيونية. وإذ تنظر «غراما» الى هذا الشاب، تطلق عليه من فورها الاسم الذي يليق به، في رأيها: إنه «الحلم الأميركي». وعلى رغم أن الشاب تبدو على ملامحه إمارات اللامبالاة والبرودة، يعلن أنه إنما أتى هنا باحثاً عن عمل، فهو منذ زمن لا يجد عملاً وها هو يشعر في حضوره وسط هذه الأسرة أن في إمكانه هنا العثور على العمل المرجوّ. ولما كانت وسامة الشاب وسماته الرياضية أموراً واضحة واتفق عليها جميع الحاضرين، بنظراتهم، ليكون هو «الشيء» الوحيد الذي يحظى بالإجماع هنا، يكون الاتفاق سريعاً: إنه هو «الابن» الذي سيتم تبنيه... لذا فإن عمله الجديد سيكون بنوّته لهذه العائلة. وإذ يشرب الجميع نخب الشاب وتمكّنه من الحصول على وظيفة، تلتفت الجدة بكل مكر وتهكم ناحية المتفرجين لتقول جملتها الأساسية: «إن كل إنسان يحصل في نهاية الأمر على ما يعتقد أنه يحتاجه».

> لقد كان الناقد مارتن آسلين، من أول الذين رحبوا بهذه المسرحية، وهو ترحيب لقي صدى لا بأس به لدى المتفرجين ما جعل «الحلم الأميركي» تحقق نجاحاً طيباً في عروضها الأولى، غير أن كثراً من النقاد والصحافيين عادوا وهاجموها متهمينها بـ «العدمية» و «اللاأخلاقية» و «الإنهزامية». والواقع أن إدوارد آلبي، رد على هذا الهجوم الجماعي في مقدمة كتبها لطبعة ثانية من المسرحية قال فيها إنه إنما قصد أن تصلح أخلاق الناس وشؤون المؤسسات، عبر إظهار تهافت أولئك وعيوب هذه، وأن هذا هو دور المسرح، مشدداً على كيف صار «الحلم الأميركي نفسه باحثا عن عمل مظهراً وسامته وعضلاته، وسط عبثية اجتماعية لا تنتهي».

> وإدوارد آلبي (المولود في واشنطن عام 1928)، كان هذا دأبه في العدد الأكبر من مسرحياته الاجتماعية الحادة في نقدها، خصوصاً لتهافت الطبقة الوسطى الأميركية التي «من بعدما بنت هذا الوطن انطلاقاً من حلمها الأميركي الكبير، عادت وغرقت في العبثية واستعراض القوة، من دون أي عمق أخلاقي أو فكري». وهذا الموضوع نفسه هو الذي يطالعنا في أعمال لآلبي مثل «من يخاف فرجينيا وولف» و «حكاية حديقة الحيوان» و «فام أند بام»، وحتى حين كان آلبي يقتبس مسرحيات من أعمال أدبية لآخرين، مثلما فعل مع «أنشودة المقهى الحزين» عن قصة كارسون ماكالرز.

(*)عن الحياة

«القلب صياد وحيد» لكارسون ماكالرز: اعترافات محبَطي الحلم الأميركي

بقلم: إبراهيم العريس



تماماً كما أن دوستويفسكي كان يقول دائماً: «نحن جميعاً خرجنا من معطف غوغول»، -ما يعني أنه وأبناء جيله من كبار الروائيين الروس أواسط القرن التاسع عشر، ما كان لهم أن يكتبوا أعمالهم، لولا أن غوغول قد فتح لهم أبواب الحكي الروائي مشرعة في عمله الرائد «المعطف» -، كذلك يمكن قطاعاً كبيراً من روائيي النصف الثاني من القرن العشرين في الولايات المتحدة، أن يقول إنه جيل خرج من «قلب» كارسون ماكالرز، وتحديداً من روايتها الأولى والكبرى «القلب صياد وحيد». فهذه الرواية صنعت للأدب الأميركي ما تصنعه الإبداعات الرائدة في كل مكان في العالم: أيقظته على مواضيع جديدة، عرّفته بلغة حكي جديدة، وأعطته أبطالاً جدداً. ومع هذا لم تكن كارسون قد تجاوزت الرابعة والعشرين من عمرها حين أصدرت تلك الرواية عام 1940، فنزلت على الحياة الثقافية الأميركية كالصاعقة. وذلك تحديداً انطلاقاً من المواضيع الملاصقة للحياة، التي سبرت الكاتبة أغوارها في ذلك العمل المبكر. المواضيع التي لا تزال تهيمن على الأدب الأميركي وعلى غيره من الآداب أيضاً حتى اليوم، بعد نحو ثلثي قرن من صدور الرواية، من دون أن ننسى شخصياتها المنتزعة من واقع القهر وخيبة الحلم الأميركي كما سوف نرى بعد قليل.

> ومع هذا كله لم تكن كارسون ماكالرز في بداية صباها، تتطلع إلى أن تصبح كاتبة. كان كل ما تريده في الحياة هو أن تصبح عازفة بيانو «أو بالأحرى عازف بيانو»، كانت تقول ضاحكة حين يطلب منها أن تفسر معنى اسمها كارسون، مشيرة إلى أنها حين ولدت كانت تبدو مثل الصبي، لذلك وصفها والدها - الفرنسي الأصل بـ «الصبي» (غارسون بالفرنسية) فأضيف الوصف إلى اسم لولا الذي كان اختير لها. ومن هنا راحت تطغى عليها نزعة التشبه بالصبيان، حتى عمر متقدم، فكانت تقص شعرها قصيراً، وترتدي بدلات الفتيان في معظم الوقت. بل إنها حين رسمت صورة لطفولتها من خلال شخصية مايك كيلي في روايتها الأولى التي نتحدث عنها هنا، جعلت من أهم سمات هذه الشخصية ضياعها بين حقيقتها كأنثى وتصرفاتها الذكورية، وتفضيلها الدائم صحبة الذكور على الفتيات. ولقد كانت هذه السمات، سبباً إضافياً جعل النقاد والقراء، ومنذ القراءة الأولى للرواية يدركون إنها أشبه بأن تكون سيرة ذاتية لبطلتها، خصوصاً أن شخصية ويلبر كيلي، والد مايك في الرواية، ستبدو مستوحاة كلياً من شخصية والد كارسون الحقيقي.

> غير أن هذا الأمر، لا يؤدي إلى أن كل ما في هذه الرواية مأخوذ من حياة كارسون. ذلك أن الكاتبة الشابة، بعدما استعارت ديكور بلدة كولومبوس (ولاية جورجيا) التي ولدت وعاشت فيها طفولتها قبل أن تبارحها إلى نيويورك حيث ستدرس البيانو وتخفق ما دفعها إلى الكتابة، وبعدما رسمت شخصيات مستقاة من معارفها في الطفولة، ونسخت شخصية أبيها، ثم شخصيتها قبل سن المراهقة، استخدمت ذلك كله لتقدم رؤية عميقة للعيش في البلدة الريفية تلك إبان فترة الكساد الاقتصادي (ثلاثينات القرن العشرين). وفي هذا الإطار لا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه الرواية تنم عن أن كارسون ماكالرز، كانت من أعمق كتّاب جيلها -وتحديداً كتّاب جيل زمن الكساد- في مجال تصوير ما فعلته تلك الأزمة الاقتصادية العميقة في المجتمع كاشفة أميركا ما بعد الحلم. وهو موضوع، راح كتّاب كثر خلال تلك المرحلة يبدعون في الخوض فيه. أما كارسون فإنها غاصت فيه ولكن ليس من ناحية ما فعله، إنما من ناحية ما كشفه وعراه، مما كان -بالفعل- قائماً من قبل. لكن الحديث الدائم عن «الحلم الأميركي» كان يغطيه. ما جاءت به كارسون، جديداً هنا، هو سبرها أغوار العزلة والوحشة والتوتر العرقي والعنصري وكل هذه العوامل التي كانت مخفية قبل ذلك. كذلك كانت كارسون في روايتها، خير مصوّر لتلك الرغبة العارمة التي تدفع الشبان إلى محاولة الهرب من الحياة الرتيبة لمدن الأرياف الأميركية. كل هذا صورته كارسون ماكالرز في «القلب صياد وحيد». وكان تصويرها له مهماً... لكنه لم يحتكر كل الأهمية، ذلك أن الجديد هنا، أيضاً، إنما كان الطريقة التي صوّرت بها الكاتبة هذا كله.

> رسمت كارسون ماكالرز معالم الحياة الريفية الرتيبة في روايتها من خلال علاقة صداقة تقوم، خصوصاً، بين مجموعة من الرفاق الذين لا يجمع، في الأساس، أي جامع بينهم. فهناك أولاً الصبية مايك كيلي، ذات الرابعة عشرة، والتي قد ينم طول قامتها وغرقها الدائم في التأمل والتفكير عما يزيد كثيراً عن تلك السن. مايك، انطلاقاً من هذا تبدو، كما قلنا، متأرجحة بين الأعمار والجنسين. وغارقة في شكل دائم في أحلام تنتمي إلى البعيد. ومايك تلتقي في شكل دائم، وعلى رغم ممانعة أهلها، جاك بلاونت، السكير الأبدي الذي يمضي جل وقته في مقهى برانون. وإلى جاك هذا، هناك الدكتور كوبلاند الطبيب الأسود الذي تعلّم في الشمال لكنه عاد إلى الجنوب إذ رأى من واجبه أن يساعد أبناء جلدته السود في تلك البلدة. أما محور هذه الحلقة فهو الأصم الأبكم جون سنغر، الطويل النحيل، الذي لأنه لا يمكنه أن يتحدث عما يقال له، بل لا يمكنه أصلاً أن يسمعه، يصبح أشبه بكرسي اعتراف بالنسبة إلى أصدقائه. وهذا الواقع هو الذي يعطي الرواية إيقاعها، بل حتى شكلها الأدبي. ذلك أن كارسون قسمت الرواية فصولاً، يكاد كل واحد منها أن يكون كرسي الاعتراف لواحدة من الشخصيات. إذ تشكل مناجاة كل شخصية، في حضرة سنغر الذي يقال كل شيء أمامه، جزءاً من هذا العمل، لكنه جزء يشتغل، من ناحية على كشف وحدة كل شخصية وأمنياتها غير المتحققة، واللاتواصل بين شتى الشخصيات، لكنه يشتغل من ناحية ثانية، على مراكمة نفسية عنيفة داخل جون سنغر نفسه. فهو بدوره، لديه أمور كثيرة قد يحب أن يقولها. ويزداد شعوره في كل لحظة، بعجزه عن إيصال ما يعتمل في داخله، بسبب بكمه وفقدانه السمع. ومن هنا تتراكم مخاوفه وآلامه متصاعدة حتى لحظة الانفجار.

> في الحقيقة أن هذا هو كل ما يشكل إطار الرواية، حيث ندرك بسرعة أن ليس ثمة أي حبكة أو أحداث درامية مفاجئة. كل شيء مرسوم من خلال ما تقوله كل شخصية عن نفسها. ومن خلال «اللاحدث» الذي يختتم الرواية. لكن الحدث هو، في الواقع، هنا. في هذا الجو القاتم المتوتر الذي رسمه قلم كاتبة، عرفت كيف تضيف إلى الأدب الأميركي مجموعة شخصيات، يعرف متابعو هذا الأدب، أنها ستُرسم كثيراً لاحقاً، لدى كتاب آخرين، وستنتقل إلى السينما والمسرح، ما يجعل اسم كارسون ماكالرز واحداً من الأسماء الكبرى في الأدب الأميركي. أما «القلب صياد وحيد» فلقد عرفت، إضافة إلى المجد الأدبي، حياة خاصة بها، لا سيما على شاشة السينما، إذ حُوّلت الرواية عام 1968 إلى فيلم قام آلان آركن ببطولته، لكنه لم يكن العمل السينمائي الوحيد المقتبس من أعمال كارسون ماكالرز، إذ نعرف أن السينما اقتبست رواية مميزة أخرى لها هي «نشيد المقهى الحزين»، كما أن المخرج الكبير جون هستون اقتبس عام 1967، فيلما أدار فيه مارلون براندو وإليزابيث تايلور، من رواية رائعة أخرى لهذه الكاتبة هي «انعكاسات في عين ذهبية». كذلك ثارت فضحية في السينما الفرنسية أواسط ثمانينات القرن العشرين حين «لطش» المخرج الفرنسي كلود ميلر قصة «فرانكي آدامز» لكارسون ماكالرز، محوّلاً إياها فيلماً لم يذكر اسمها في عناوينه.

> لكن كارسون ماكالرز التي ماتت عن سن لا تزيد على الخمسين (1917 - 1967) لم تعرف، خلال حياتها شيئاً عن هذا المجد السينمائي، بل إنها لم تعش كفاية حتى تشهد انبعاث مجدها الأدبي آخر القرن العشرين. فابنة كولومبوس (جورجيا) عاشت حياة متنقلة، واضطراباً في الحياة العائلية جعلها تطلق باكراً زوجها الكاتب - الجندي، الذي كانت اقترنت به قبل كتابة روايتها الأولى. وعلى رغم تنقلها وتعاسة حياتها العائلية وعلى رغم موتها المبكر، أصدرت كارسون عدداً لا بأس به من الكتب، كما نشرت قصصاً قصيرة، جعلتها تعتبر دائماً من كبار الأدباء الذين مهدوا لمجيء جيل «البيتنكس» في الأدب الأميركي. وهو أمر كانت، خلال السنوات الأخيرة من حياتها، تركز حديثها عليه، وكأنه كان تعويضاً لها عن إخفاقات كثيرة في حياتها، عرف أدبها، على أية حال، كيف يعبر عنها.

( الحياة 2014-06-20 )