بقلم: ابراهيم العريس
«كل إنسان يحصل في نهاية الأمر على ما يعتقد أنه يحتاجه».
هذه العبارة، هي الجملة الحوارية الأخيرة التي
يختتم بها إدوارد آلبي واحدة من أشهر مسرحياته،
والمسرحية التي أثارت أكبر قدر من الاستهجان والهجوم في أميركا ستينات القرن الماضي. وكان يمكن للهجوم عليها أن يتواصل،
لولا أن آلبي نفسه كتب بعدها مباشرة مسرحيته
التالية «من يخاف فرجينيا وولف؟»
لتستقطب هذه الأقلام وصفحات الصحف والحبر، بحيث صارت
«قضية» المسرحية السابقة في الظل. أما هذه «المسرحية السابقة» التي نتحدث عنها هنا
فهي «الحلم الأميركي»، المسرحية ذات الفصل الواحد التي كتبها آلبي عام 1960، لتقدم
للمرة الأولى عند مطلع العام التالى في نيويورك. ومنذ البداية، منذ العنوان، كان واضحاً
أن هذه المسرحية التي كتبها آلبي ذو الثانية والثلاثين من عمره آنذاك، تحمل قدراً كبيراً
من الاستفزاز الساخر، ذلك أن هذا الكاتب المشاكس كان، في كل مسرحياته السابقة وعددها
أربع، بدأ يكتبها منذ عام 1958، قد أبدى قدراً كبيراً من الغضب (الموروث بالطبع عن
آرثر ميلر ثم عن مسرح الشبان الغاضبين في إنكلترا) على نمط الحياة المزيفة والمقنعة
الذي تعيشه الطبقة الوسطى الأميركية. هذه الطبقة التي، بالنسبة إليه، كانت هي حاملة
الحلم الأميركي وضامنة استمراره. ومن هنا إذا كان آلبي، قد دخل في صلب هذا «الحلم»
في أعماله السابقة، ولكن بأشكال مواربة، فإنه في هذه المسرحية الجديدة آنذاك، قرر هذه
المرة أن يجابه «الحلم» مباشرة وباسمه الصريح.
> ومع هذا لم يلجأ
آلبي الى أسلوب المسرح الواقعي الذي كان من السمات الرئيسة لأعماله السابقة، والطابع
المميز لأعمال أسلافه من كتاب المسرح الأميركيين الكبار في القرن العشرين، بل لجأ الى
أسلوب مسرح العبث، الذي كان في ذلك الحين أوروبياً خالصاً أطل قبل سنوات على أيدي بيكيت
ويونسكو وآداموف وغيرهم من الأجانب الذين كتبوا مسرحهم بالفرنسية، ليبدو مسرح العبث
وكأنه، أيضاً، فن يتماشى تماماً مع اللغة الفرنسية.
> إذاً، عبر مسرحية
«الحلم الأميركي»، أتى آلبي ليقول إن مسرح العبث يتماشى أيضاً مع اللغة الإنكليزية
(الأميركية على الأقل). ومن هنا ستظل مسرحية «الحلم الأميركي» تعتبر أول مسرحية أميركية
تنتمي بكل وضوح الى مسرح العبث، ما «أورب» المسرح الأميركي في هذا الإتجاه أيضاً، بعدما
كان آرثر ميلر وتنيسي ويليامز، على خطى يوجين أونيل، أوربوه في اتجاه واقعي.
> تدور أحداث «الحلم
الأميركي» في فترة زمنية واحدة وفي ديكور واحد، هو بهو منزل أسرة من الطبقة الوسطى
الأميركية. ونحن لن نعرف هؤلاء الأشخاص بأسماء واضحة، بل بموقعهم الأسري. فهناك الأم
«مامي» والأب «دادي»، وخصوصاً الجدة «غراما». أما الشخصية الوحيدة التي لها اسم تنادى
به فهي «مسز باركر» مسؤولة جمعية «باي باي، لخدمة شؤون التبني» والتي ستكون أقصر الشخصيات
حضوراً، ذلك أن لها مهمة محددة - بحكم وظيفتها - تقوم بها وتنصرف. وهذه المهمة هي تسليم
الأسرة، الشخص المطلوب تبنيه. غير أن هذا لن يحدث إلا لاحقاً.
> أما في البداية فإن
لدينا «مامي» و «دادي» جالسين في بهو غرفة المعيشة حيث يدور بينهما حوار من الواضح
أن لا معنى له على الإطلاق في معظم لحظاته. لكننا مع هذا نفهم أن الاثنين ينتظران الزوار
الذين لا نعرف عنهم الآن شيئاً، لكننا نعرف أنهم تأخروا في الوصول و «الناس غالباً
ما يتأخرون في الوصول هذه الأيام» تقول جملة حوار مشمئزة، قبل أن نفهم في النهاية أن
المنتظَرين هم قوم آتون من مكاتب جمعية شؤون التبني الذين سيسلمون ابناً جديداً بالتبني
بدل ذاك الذي كانت «مامي» قد فقدته قبل سنوات، ومن ثم قُدّم طلب للحصول على بديل له،
ها هو الآن منتظر بلهفة. في الحقيقة ليس ثمة قلق في موقف «مامي» و»دادي»، بل هناك رضا
عن ذلك التأخير الذي يعطيهما مجالاً لثرثرة لا حدود لها. ومن يلحظ هذا هو الجدة «غراما»
التي تجلس مراقبة إياهما مصدرة بين الحين والآخر، ملاحظات لئيمة تنتقد تصرفاتهما، منذ
اللحظة التي تدخل الى الغرفة محملة بأكوام من صناديق الكرتون. وهي إذ ترمي الصناديق
عند قدمي «دادي» تشكو من أن العجائز لم يعودوا قادرين على التحدث مع أحد. لأن الناس
يستعلون عليهم. ومن هنا يزعم العجائز أنهم لا يسمعون، فقط كي يتفادوا إفساح مجال للآخرين
للسخرية منهم... وكل هذا، في رأي «غراما» هو الذي يوصل العجائز الى حتفهم. وهنا من
خلال بقية الحديث المتبادل يطالعنا بعض الحديث عن الماضي حين كانت «مامي» طفلة و «غراما»
في مقتبل العمر. ثم نفهم أن «مامي» صارت ثرية بفضل زواجها من «دادي» بعد أن عانت وأمها
الفقر قبل ذلك. لكن زواجهما لم يرزقهما أبناء، لذا يحققان الأبوة والأمومة من خلال
التبني...
> وإذ يصل الحوار في
تراوحه بين كشف الماضي والعبارات العبثية التي لا معنى لها، الى وضعية تكشف استحالة
القدرة على التواصل حول شؤون راهنة، ليظل أي حديث منطقي حديثاً عن الماضي، يدق الجرس،
لتدخل مسز باركر التي ما إن تقف وسط الغرفة حتى يدعوها «دادي» الى الجلوس، فيما تدعوها
«مامي» الى كأس ولفافة تبغ، ثم يبدأ حديث مع هذه السيدة يتعلق بالصناديق، في ما تعلن
«غراما» بمكر أنها تعرف سبب مجيء مسز باركر. فتشتمها «مامي» ناعتة إياها بالكاذبة،
وتطلب من «دادي» أن يحطم جهاز التلفزيون الخاص بها.
> وفي خضم هذا الصراع
اللفظي يدخل الى الغرفة شاب وسيم الطلعة رياضي السمات، مرتدياً القميص الرياضية وسروال
رعاة البقر اللذين يرتديهما كل الأبطال في الأفلام السينمائية الأميركية كما في المسلسلات
التلفزيونية. وإذ تنظر «غراما» الى هذا الشاب، تطلق عليه من فورها الاسم الذي يليق
به، في رأيها: إنه «الحلم الأميركي». وعلى رغم أن الشاب تبدو على ملامحه إمارات اللامبالاة
والبرودة، يعلن أنه إنما أتى هنا باحثاً عن عمل، فهو منذ زمن لا يجد عملاً وها هو يشعر
في حضوره وسط هذه الأسرة أن في إمكانه هنا العثور على العمل المرجوّ. ولما كانت وسامة
الشاب وسماته الرياضية أموراً واضحة واتفق عليها جميع الحاضرين، بنظراتهم، ليكون هو
«الشيء» الوحيد الذي يحظى بالإجماع هنا، يكون الاتفاق سريعاً: إنه هو «الابن» الذي
سيتم تبنيه... لذا فإن عمله الجديد سيكون بنوّته لهذه العائلة. وإذ يشرب الجميع نخب
الشاب وتمكّنه من الحصول على وظيفة، تلتفت الجدة بكل مكر وتهكم ناحية المتفرجين لتقول
جملتها الأساسية: «إن كل إنسان يحصل في نهاية الأمر على ما يعتقد أنه يحتاجه».
> لقد كان الناقد مارتن
آسلين، من أول الذين رحبوا بهذه المسرحية، وهو ترحيب لقي صدى لا بأس به لدى المتفرجين
ما جعل «الحلم الأميركي» تحقق نجاحاً طيباً في عروضها الأولى، غير أن كثراً من النقاد
والصحافيين عادوا وهاجموها متهمينها بـ «العدمية» و «اللاأخلاقية» و «الإنهزامية».
والواقع أن إدوارد آلبي، رد على هذا الهجوم الجماعي في مقدمة كتبها لطبعة ثانية من
المسرحية قال فيها إنه إنما قصد أن تصلح أخلاق الناس وشؤون المؤسسات، عبر إظهار تهافت
أولئك وعيوب هذه، وأن هذا هو دور المسرح، مشدداً على كيف صار «الحلم الأميركي نفسه
باحثا عن عمل مظهراً وسامته وعضلاته، وسط عبثية اجتماعية لا تنتهي».
> وإدوارد آلبي (المولود
في واشنطن عام 1928)، كان هذا دأبه في العدد الأكبر من مسرحياته الاجتماعية الحادة
في نقدها، خصوصاً لتهافت الطبقة الوسطى الأميركية التي «من بعدما بنت هذا الوطن انطلاقاً
من حلمها الأميركي الكبير، عادت وغرقت في العبثية واستعراض القوة، من دون أي عمق أخلاقي
أو فكري». وهذا الموضوع نفسه هو الذي يطالعنا في أعمال لآلبي مثل «من يخاف فرجينيا
وولف» و «حكاية حديقة الحيوان» و «فام أند بام»، وحتى حين كان آلبي يقتبس مسرحيات من
أعمال أدبية لآخرين، مثلما فعل مع «أنشودة المقهى الحزين» عن قصة كارسون ماكالرز.
(*)عن الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق