الاثنين، 21 أغسطس 2017

ألبي وكأنه عراف، فـ«مهمة الكاتب أن يرفع للناس مرآة كي يروا كم هي حياتهم مليئة بالعبث»

بقلم: ابراهيم العريس

«كل إنسان  يحصل في نهاية الأمر على ما يعتقد أنه يحتاجه». هذه العبارة، هي الجملة  الحوارية الأخيرة التي يختتم بها إدوارد آلبي واحدة من أشهر مسرحياته،  والمسرحية التي أثارت أكبر قدر من الاستهجان والهجوم في أميركا ستينات  القرن الماضي. وكان يمكن للهجوم عليها أن يتواصل، لولا أن آلبي نفسه كتب  بعدها مباشرة مسرحيته التالية «من يخاف فرجينيا وولف؟»

 لتستقطب هذه الأقلام وصفحات الصحف والحبر، بحيث صارت «قضية» المسرحية السابقة في الظل. أما هذه «المسرحية السابقة» التي نتحدث عنها هنا فهي «الحلم الأميركي»، المسرحية ذات الفصل الواحد التي كتبها آلبي عام 1960، لتقدم للمرة الأولى عند مطلع العام التالى في نيويورك. ومنذ البداية، منذ العنوان، كان واضحاً أن هذه المسرحية التي كتبها آلبي ذو الثانية والثلاثين من عمره آنذاك، تحمل قدراً كبيراً من الاستفزاز الساخر، ذلك أن هذا الكاتب المشاكس كان، في كل مسرحياته السابقة وعددها أربع، بدأ يكتبها منذ عام 1958، قد أبدى قدراً كبيراً من الغضب (الموروث بالطبع عن آرثر ميلر ثم عن مسرح الشبان الغاضبين في إنكلترا) على نمط الحياة المزيفة والمقنعة الذي تعيشه الطبقة الوسطى الأميركية. هذه الطبقة التي، بالنسبة إليه، كانت هي حاملة الحلم الأميركي وضامنة استمراره. ومن هنا إذا كان آلبي، قد دخل في صلب هذا «الحلم» في أعماله السابقة، ولكن بأشكال مواربة، فإنه في هذه المسرحية الجديدة آنذاك، قرر هذه المرة أن يجابه «الحلم» مباشرة وباسمه الصريح.

> ومع هذا لم يلجأ آلبي الى أسلوب المسرح الواقعي الذي كان من السمات الرئيسة لأعماله السابقة، والطابع المميز لأعمال أسلافه من كتاب المسرح الأميركيين الكبار في القرن العشرين، بل لجأ الى أسلوب مسرح العبث، الذي كان في ذلك الحين أوروبياً خالصاً أطل قبل سنوات على أيدي بيكيت ويونسكو وآداموف وغيرهم من الأجانب الذين كتبوا مسرحهم بالفرنسية، ليبدو مسرح العبث وكأنه، أيضاً، فن يتماشى تماماً مع اللغة الفرنسية.

> إذاً، عبر مسرحية «الحلم الأميركي»، أتى آلبي ليقول إن مسرح العبث يتماشى أيضاً مع اللغة الإنكليزية (الأميركية على الأقل). ومن هنا ستظل مسرحية «الحلم الأميركي» تعتبر أول مسرحية أميركية تنتمي بكل وضوح الى مسرح العبث، ما «أورب» المسرح الأميركي في هذا الإتجاه أيضاً، بعدما كان آرثر ميلر وتنيسي ويليامز، على خطى يوجين أونيل، أوربوه في اتجاه واقعي.

> تدور أحداث «الحلم الأميركي» في فترة زمنية واحدة وفي ديكور واحد، هو بهو منزل أسرة من الطبقة الوسطى الأميركية. ونحن لن نعرف هؤلاء الأشخاص بأسماء واضحة، بل بموقعهم الأسري. فهناك الأم «مامي» والأب «دادي»، وخصوصاً الجدة «غراما». أما الشخصية الوحيدة التي لها اسم تنادى به فهي «مسز باركر» مسؤولة جمعية «باي باي، لخدمة شؤون التبني» والتي ستكون أقصر الشخصيات حضوراً، ذلك أن لها مهمة محددة - بحكم وظيفتها - تقوم بها وتنصرف. وهذه المهمة هي تسليم الأسرة، الشخص المطلوب تبنيه. غير أن هذا لن يحدث إلا لاحقاً.

> أما في البداية فإن لدينا «مامي» و «دادي» جالسين في بهو غرفة المعيشة حيث يدور بينهما حوار من الواضح أن لا معنى له على الإطلاق في معظم لحظاته. لكننا مع هذا نفهم أن الاثنين ينتظران الزوار الذين لا نعرف عنهم الآن شيئاً، لكننا نعرف أنهم تأخروا في الوصول و «الناس غالباً ما يتأخرون في الوصول هذه الأيام» تقول جملة حوار مشمئزة، قبل أن نفهم في النهاية أن المنتظَرين هم قوم آتون من مكاتب جمعية شؤون التبني الذين سيسلمون ابناً جديداً بالتبني بدل ذاك الذي كانت «مامي» قد فقدته قبل سنوات، ومن ثم قُدّم طلب للحصول على بديل له، ها هو الآن منتظر بلهفة. في الحقيقة ليس ثمة قلق في موقف «مامي» و»دادي»، بل هناك رضا عن ذلك التأخير الذي يعطيهما مجالاً لثرثرة لا حدود لها. ومن يلحظ هذا هو الجدة «غراما» التي تجلس مراقبة إياهما مصدرة بين الحين والآخر، ملاحظات لئيمة تنتقد تصرفاتهما، منذ اللحظة التي تدخل الى الغرفة محملة بأكوام من صناديق الكرتون. وهي إذ ترمي الصناديق عند قدمي «دادي» تشكو من أن العجائز لم يعودوا قادرين على التحدث مع أحد. لأن الناس يستعلون عليهم. ومن هنا يزعم العجائز أنهم لا يسمعون، فقط كي يتفادوا إفساح مجال للآخرين للسخرية منهم... وكل هذا، في رأي «غراما» هو الذي يوصل العجائز الى حتفهم. وهنا من خلال بقية الحديث المتبادل يطالعنا بعض الحديث عن الماضي حين كانت «مامي» طفلة و «غراما» في مقتبل العمر. ثم نفهم أن «مامي» صارت ثرية بفضل زواجها من «دادي» بعد أن عانت وأمها الفقر قبل ذلك. لكن زواجهما لم يرزقهما أبناء، لذا يحققان الأبوة والأمومة من خلال التبني...

> وإذ يصل الحوار في تراوحه بين كشف الماضي والعبارات العبثية التي لا معنى لها، الى وضعية تكشف استحالة القدرة على التواصل حول شؤون راهنة، ليظل أي حديث منطقي حديثاً عن الماضي، يدق الجرس، لتدخل مسز باركر التي ما إن تقف وسط الغرفة حتى يدعوها «دادي» الى الجلوس، فيما تدعوها «مامي» الى كأس ولفافة تبغ، ثم يبدأ حديث مع هذه السيدة يتعلق بالصناديق، في ما تعلن «غراما» بمكر أنها تعرف سبب مجيء مسز باركر. فتشتمها «مامي» ناعتة إياها بالكاذبة، وتطلب من «دادي» أن يحطم جهاز التلفزيون الخاص بها.

> وفي خضم هذا الصراع اللفظي يدخل الى الغرفة شاب وسيم الطلعة رياضي السمات، مرتدياً القميص الرياضية وسروال رعاة البقر اللذين يرتديهما كل الأبطال في الأفلام السينمائية الأميركية كما في المسلسلات التلفزيونية. وإذ تنظر «غراما» الى هذا الشاب، تطلق عليه من فورها الاسم الذي يليق به، في رأيها: إنه «الحلم الأميركي». وعلى رغم أن الشاب تبدو على ملامحه إمارات اللامبالاة والبرودة، يعلن أنه إنما أتى هنا باحثاً عن عمل، فهو منذ زمن لا يجد عملاً وها هو يشعر في حضوره وسط هذه الأسرة أن في إمكانه هنا العثور على العمل المرجوّ. ولما كانت وسامة الشاب وسماته الرياضية أموراً واضحة واتفق عليها جميع الحاضرين، بنظراتهم، ليكون هو «الشيء» الوحيد الذي يحظى بالإجماع هنا، يكون الاتفاق سريعاً: إنه هو «الابن» الذي سيتم تبنيه... لذا فإن عمله الجديد سيكون بنوّته لهذه العائلة. وإذ يشرب الجميع نخب الشاب وتمكّنه من الحصول على وظيفة، تلتفت الجدة بكل مكر وتهكم ناحية المتفرجين لتقول جملتها الأساسية: «إن كل إنسان يحصل في نهاية الأمر على ما يعتقد أنه يحتاجه».

> لقد كان الناقد مارتن آسلين، من أول الذين رحبوا بهذه المسرحية، وهو ترحيب لقي صدى لا بأس به لدى المتفرجين ما جعل «الحلم الأميركي» تحقق نجاحاً طيباً في عروضها الأولى، غير أن كثراً من النقاد والصحافيين عادوا وهاجموها متهمينها بـ «العدمية» و «اللاأخلاقية» و «الإنهزامية». والواقع أن إدوارد آلبي، رد على هذا الهجوم الجماعي في مقدمة كتبها لطبعة ثانية من المسرحية قال فيها إنه إنما قصد أن تصلح أخلاق الناس وشؤون المؤسسات، عبر إظهار تهافت أولئك وعيوب هذه، وأن هذا هو دور المسرح، مشدداً على كيف صار «الحلم الأميركي نفسه باحثا عن عمل مظهراً وسامته وعضلاته، وسط عبثية اجتماعية لا تنتهي».

> وإدوارد آلبي (المولود في واشنطن عام 1928)، كان هذا دأبه في العدد الأكبر من مسرحياته الاجتماعية الحادة في نقدها، خصوصاً لتهافت الطبقة الوسطى الأميركية التي «من بعدما بنت هذا الوطن انطلاقاً من حلمها الأميركي الكبير، عادت وغرقت في العبثية واستعراض القوة، من دون أي عمق أخلاقي أو فكري». وهذا الموضوع نفسه هو الذي يطالعنا في أعمال لآلبي مثل «من يخاف فرجينيا وولف» و «حكاية حديقة الحيوان» و «فام أند بام»، وحتى حين كان آلبي يقتبس مسرحيات من أعمال أدبية لآخرين، مثلما فعل مع «أنشودة المقهى الحزين» عن قصة كارسون ماكالرز.

(*)عن الحياة

«القلب صياد وحيد» لكارسون ماكالرز: اعترافات محبَطي الحلم الأميركي

بقلم: إبراهيم العريس



تماماً كما أن دوستويفسكي كان يقول دائماً: «نحن جميعاً خرجنا من معطف غوغول»، -ما يعني أنه وأبناء جيله من كبار الروائيين الروس أواسط القرن التاسع عشر، ما كان لهم أن يكتبوا أعمالهم، لولا أن غوغول قد فتح لهم أبواب الحكي الروائي مشرعة في عمله الرائد «المعطف» -، كذلك يمكن قطاعاً كبيراً من روائيي النصف الثاني من القرن العشرين في الولايات المتحدة، أن يقول إنه جيل خرج من «قلب» كارسون ماكالرز، وتحديداً من روايتها الأولى والكبرى «القلب صياد وحيد». فهذه الرواية صنعت للأدب الأميركي ما تصنعه الإبداعات الرائدة في كل مكان في العالم: أيقظته على مواضيع جديدة، عرّفته بلغة حكي جديدة، وأعطته أبطالاً جدداً. ومع هذا لم تكن كارسون قد تجاوزت الرابعة والعشرين من عمرها حين أصدرت تلك الرواية عام 1940، فنزلت على الحياة الثقافية الأميركية كالصاعقة. وذلك تحديداً انطلاقاً من المواضيع الملاصقة للحياة، التي سبرت الكاتبة أغوارها في ذلك العمل المبكر. المواضيع التي لا تزال تهيمن على الأدب الأميركي وعلى غيره من الآداب أيضاً حتى اليوم، بعد نحو ثلثي قرن من صدور الرواية، من دون أن ننسى شخصياتها المنتزعة من واقع القهر وخيبة الحلم الأميركي كما سوف نرى بعد قليل.

> ومع هذا كله لم تكن كارسون ماكالرز في بداية صباها، تتطلع إلى أن تصبح كاتبة. كان كل ما تريده في الحياة هو أن تصبح عازفة بيانو «أو بالأحرى عازف بيانو»، كانت تقول ضاحكة حين يطلب منها أن تفسر معنى اسمها كارسون، مشيرة إلى أنها حين ولدت كانت تبدو مثل الصبي، لذلك وصفها والدها - الفرنسي الأصل بـ «الصبي» (غارسون بالفرنسية) فأضيف الوصف إلى اسم لولا الذي كان اختير لها. ومن هنا راحت تطغى عليها نزعة التشبه بالصبيان، حتى عمر متقدم، فكانت تقص شعرها قصيراً، وترتدي بدلات الفتيان في معظم الوقت. بل إنها حين رسمت صورة لطفولتها من خلال شخصية مايك كيلي في روايتها الأولى التي نتحدث عنها هنا، جعلت من أهم سمات هذه الشخصية ضياعها بين حقيقتها كأنثى وتصرفاتها الذكورية، وتفضيلها الدائم صحبة الذكور على الفتيات. ولقد كانت هذه السمات، سبباً إضافياً جعل النقاد والقراء، ومنذ القراءة الأولى للرواية يدركون إنها أشبه بأن تكون سيرة ذاتية لبطلتها، خصوصاً أن شخصية ويلبر كيلي، والد مايك في الرواية، ستبدو مستوحاة كلياً من شخصية والد كارسون الحقيقي.

> غير أن هذا الأمر، لا يؤدي إلى أن كل ما في هذه الرواية مأخوذ من حياة كارسون. ذلك أن الكاتبة الشابة، بعدما استعارت ديكور بلدة كولومبوس (ولاية جورجيا) التي ولدت وعاشت فيها طفولتها قبل أن تبارحها إلى نيويورك حيث ستدرس البيانو وتخفق ما دفعها إلى الكتابة، وبعدما رسمت شخصيات مستقاة من معارفها في الطفولة، ونسخت شخصية أبيها، ثم شخصيتها قبل سن المراهقة، استخدمت ذلك كله لتقدم رؤية عميقة للعيش في البلدة الريفية تلك إبان فترة الكساد الاقتصادي (ثلاثينات القرن العشرين). وفي هذا الإطار لا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه الرواية تنم عن أن كارسون ماكالرز، كانت من أعمق كتّاب جيلها -وتحديداً كتّاب جيل زمن الكساد- في مجال تصوير ما فعلته تلك الأزمة الاقتصادية العميقة في المجتمع كاشفة أميركا ما بعد الحلم. وهو موضوع، راح كتّاب كثر خلال تلك المرحلة يبدعون في الخوض فيه. أما كارسون فإنها غاصت فيه ولكن ليس من ناحية ما فعله، إنما من ناحية ما كشفه وعراه، مما كان -بالفعل- قائماً من قبل. لكن الحديث الدائم عن «الحلم الأميركي» كان يغطيه. ما جاءت به كارسون، جديداً هنا، هو سبرها أغوار العزلة والوحشة والتوتر العرقي والعنصري وكل هذه العوامل التي كانت مخفية قبل ذلك. كذلك كانت كارسون في روايتها، خير مصوّر لتلك الرغبة العارمة التي تدفع الشبان إلى محاولة الهرب من الحياة الرتيبة لمدن الأرياف الأميركية. كل هذا صورته كارسون ماكالرز في «القلب صياد وحيد». وكان تصويرها له مهماً... لكنه لم يحتكر كل الأهمية، ذلك أن الجديد هنا، أيضاً، إنما كان الطريقة التي صوّرت بها الكاتبة هذا كله.

> رسمت كارسون ماكالرز معالم الحياة الريفية الرتيبة في روايتها من خلال علاقة صداقة تقوم، خصوصاً، بين مجموعة من الرفاق الذين لا يجمع، في الأساس، أي جامع بينهم. فهناك أولاً الصبية مايك كيلي، ذات الرابعة عشرة، والتي قد ينم طول قامتها وغرقها الدائم في التأمل والتفكير عما يزيد كثيراً عن تلك السن. مايك، انطلاقاً من هذا تبدو، كما قلنا، متأرجحة بين الأعمار والجنسين. وغارقة في شكل دائم في أحلام تنتمي إلى البعيد. ومايك تلتقي في شكل دائم، وعلى رغم ممانعة أهلها، جاك بلاونت، السكير الأبدي الذي يمضي جل وقته في مقهى برانون. وإلى جاك هذا، هناك الدكتور كوبلاند الطبيب الأسود الذي تعلّم في الشمال لكنه عاد إلى الجنوب إذ رأى من واجبه أن يساعد أبناء جلدته السود في تلك البلدة. أما محور هذه الحلقة فهو الأصم الأبكم جون سنغر، الطويل النحيل، الذي لأنه لا يمكنه أن يتحدث عما يقال له، بل لا يمكنه أصلاً أن يسمعه، يصبح أشبه بكرسي اعتراف بالنسبة إلى أصدقائه. وهذا الواقع هو الذي يعطي الرواية إيقاعها، بل حتى شكلها الأدبي. ذلك أن كارسون قسمت الرواية فصولاً، يكاد كل واحد منها أن يكون كرسي الاعتراف لواحدة من الشخصيات. إذ تشكل مناجاة كل شخصية، في حضرة سنغر الذي يقال كل شيء أمامه، جزءاً من هذا العمل، لكنه جزء يشتغل، من ناحية على كشف وحدة كل شخصية وأمنياتها غير المتحققة، واللاتواصل بين شتى الشخصيات، لكنه يشتغل من ناحية ثانية، على مراكمة نفسية عنيفة داخل جون سنغر نفسه. فهو بدوره، لديه أمور كثيرة قد يحب أن يقولها. ويزداد شعوره في كل لحظة، بعجزه عن إيصال ما يعتمل في داخله، بسبب بكمه وفقدانه السمع. ومن هنا تتراكم مخاوفه وآلامه متصاعدة حتى لحظة الانفجار.

> في الحقيقة أن هذا هو كل ما يشكل إطار الرواية، حيث ندرك بسرعة أن ليس ثمة أي حبكة أو أحداث درامية مفاجئة. كل شيء مرسوم من خلال ما تقوله كل شخصية عن نفسها. ومن خلال «اللاحدث» الذي يختتم الرواية. لكن الحدث هو، في الواقع، هنا. في هذا الجو القاتم المتوتر الذي رسمه قلم كاتبة، عرفت كيف تضيف إلى الأدب الأميركي مجموعة شخصيات، يعرف متابعو هذا الأدب، أنها ستُرسم كثيراً لاحقاً، لدى كتاب آخرين، وستنتقل إلى السينما والمسرح، ما يجعل اسم كارسون ماكالرز واحداً من الأسماء الكبرى في الأدب الأميركي. أما «القلب صياد وحيد» فلقد عرفت، إضافة إلى المجد الأدبي، حياة خاصة بها، لا سيما على شاشة السينما، إذ حُوّلت الرواية عام 1968 إلى فيلم قام آلان آركن ببطولته، لكنه لم يكن العمل السينمائي الوحيد المقتبس من أعمال كارسون ماكالرز، إذ نعرف أن السينما اقتبست رواية مميزة أخرى لها هي «نشيد المقهى الحزين»، كما أن المخرج الكبير جون هستون اقتبس عام 1967، فيلما أدار فيه مارلون براندو وإليزابيث تايلور، من رواية رائعة أخرى لهذه الكاتبة هي «انعكاسات في عين ذهبية». كذلك ثارت فضحية في السينما الفرنسية أواسط ثمانينات القرن العشرين حين «لطش» المخرج الفرنسي كلود ميلر قصة «فرانكي آدامز» لكارسون ماكالرز، محوّلاً إياها فيلماً لم يذكر اسمها في عناوينه.

> لكن كارسون ماكالرز التي ماتت عن سن لا تزيد على الخمسين (1917 - 1967) لم تعرف، خلال حياتها شيئاً عن هذا المجد السينمائي، بل إنها لم تعش كفاية حتى تشهد انبعاث مجدها الأدبي آخر القرن العشرين. فابنة كولومبوس (جورجيا) عاشت حياة متنقلة، واضطراباً في الحياة العائلية جعلها تطلق باكراً زوجها الكاتب - الجندي، الذي كانت اقترنت به قبل كتابة روايتها الأولى. وعلى رغم تنقلها وتعاسة حياتها العائلية وعلى رغم موتها المبكر، أصدرت كارسون عدداً لا بأس به من الكتب، كما نشرت قصصاً قصيرة، جعلتها تعتبر دائماً من كبار الأدباء الذين مهدوا لمجيء جيل «البيتنكس» في الأدب الأميركي. وهو أمر كانت، خلال السنوات الأخيرة من حياتها، تركز حديثها عليه، وكأنه كان تعويضاً لها عن إخفاقات كثيرة في حياتها، عرف أدبها، على أية حال، كيف يعبر عنها.

( الحياة 2014-06-20 )