السبت، 20 أغسطس 2016

حوار مع الكاتب راي برادبوري ( 2 )

ترجمة وتقديم لطفية الدليمي


* لماذا تكتب رواية الخيال العلمي؟

رواية الخيال العلمي هي رواية أفكار ، والأفكار تثيرني على الدوام ومتى ما بهرتني فكرة ما ،غمرني الأدرينالين كما أنني في الوقت ذاته أستمد طاقتي في الكتابة من الأفكار ذاتها . رواية الخيال العلمي تتناول أية فكرة تحوم في الرأس ولكنها لم تتحقق على الأرض بعد لكنها ستفعل يوما ما وستغير كل شيء وستغير كل واحد منا ولن يبقى شيء دون أن يطوله التغيير، ومتى ما كانت لديك فكرة تطوف بذهنك ويمكن لها أن تغير ولو جزءاً صغيراً من العالم تكون آنذاك مشروعاً لكاتب خيال علمي واعد . رواية الخيال العلمي هي دوما رواية الممكن وليست أبدا رواية المستحيل . تخيل مثلا قبل ستين سنة عند بداية مهنتي الكتابية لو انني فكرت بكتابة قصة عن امرأة تتناول حبة ( اشارة الى حبة منع الحمل ، المترجمة ) ستهدم واحدا من اركان الكنيسة الكاثوليكية الخاصة بمنع التحكم في الإنجاب وتؤدي الى إطلاق موجة تحرير النساء فربما كان الكثير سيتهكم من هذه الفكرة لكنها تقع في حدود ما هو محتمل الحدوث ويمكن لها أن تكون أساسا في رواية خيال علمي عظيمة . أود أن أضيف هنا : رواية الخيال العلمي لا تتناول ما هو ممكن حسب بل ما يمكن حسابه،فعندما ظهرت السيارة الى الوجود كان يمكن لنا أن نتنبأ حينها بعدد الضحايا الذين ستتسبب فيهم مثلما توقع كاتب الخيال العلمي في نهاية القرن الثامن عشر .

*
هل يمكن لرواية الخيال العلمي أن تحقق أهدافاً تعجز عنها الكتابة الإبداعية في مجالات أخرى ؟

نعم أرى ذلك ،لأن الكتابة الإبداعية في المجالات الأخرى لم تنتبه جيدا للتغيرات التي طالت حضارتنا في الخمسين سنة الأخيرة : الأفكار الرئيسية لزماننا فيما يخص التطورات الهائلة في الطب و استكشاف الفضاء والمجالات العلمية الحيوية التي أثرت في تشكيل حياتنا بشكل حاسم .

*
هل ترى في نيلك جائزة الإنجاز المميز في الأدب الأميركي إشارة الى أن رواية الخيال العلمي أضحت مدعاة للتقدير والاحترام اللائقين؟

نعم، لكن الى حد ما حسب، لقد استغرق الناس الكثير من الوقت لكي يعترفوا بنا نحن معشر كتابالخيال العلمي ويتوقفوا عن السخرية منا . عندما كنت شاباً لو حصل أن أحداً منا ارتاد حفلة و أخبر أحداً من الحاضرين أنه كاتب رواية خيال علمي لكان نصيبه الازدراء ولما انقطع الحاضرون لحظة عن مناداته ( فلاش كوردون ) او ( بك روجرز ) بطريقة منفرة . أذكر قبل ستين سنة لم تكن ثمة رواية أو روائي في ميدان الخيال العلمي وحتى عام 1946 لم يكن أكثر من اثنين من الانثولوجيات في هذا الميدان والغريب أننا كنا فقراء الى حد لم يكن بمقدورنا شراء أي من هذه الأنثولوجيات في تلك الأوقات لكن الحال تغير كثيرا مع نهاية الخمسينات وبدأت مراجعات كتب الخيال العلمي تظهر بانتظام في المجلات الأدبية الرصينة.

*
هل ترى أنّ رواية الخيال العلمي توفر للكاتب وسيلة لاستكشاف فكرة مفاهيمية ما ؟

خذ روايتي : ( فهرنهايت 451 ) التي أتعامل فيها مع موضوعة حرق الكتب، وهو موضوع أجده على درجة قصوى من الأهمية . ينبغي دوما على الكاتب أن يكون في منتهى الحذر حتى لا ينزلق الى وعظ الناس بشكل مباشربدل أن يروي حكايته في شكل رؤية مستقبلية فيصوغ فكرة رجل إطفاء يضرم النار في الكتب بدل إطفائها والتي أراها فكرة رائعة في ذاتها حيث يدفع القارئ فيها في خضم مغامرة اكتشاف : أن الكتب لا ينبغي لها أن تحرق أبدا ، فيبدأ القارئ في قراءة الكتاب الأول ويقع في سطوة الحب وبعدها يندفع في خضم الحياة في مسعى لتغييرها ، إنها قصة تشويق عظيمة تحتوي بداخلها الحقيقة الثمينة التي تريد توصيلها الى الآخرين . أستخدم في العادة استعارة ( بيرسيوس ) ورأس ( ميدوزا ) عندما أتحدث عن رواية الخيال العلمي، فبدلاً من النظر مباشرة في وجه الحقيقة فإنك تحدق في السطح البرونزي للقناع العاكس للضوء ثم تعود لاحقاً مستلاً سيفك لتقطع رأس الميدوزا . ترمي رواية الخيال العلمي للنظر الى المستقبل عبر النظر في الإشعاع المنعكس عما يلوح أمامنا في هذه اللحظة، لذا ستكون لنا رؤية باعثة على الاستمتاع وإن كانت متشظية. وفي العادة يحصل فعل الاستمتاع هذا بطريقة غير واعية و بطريقة هادئة يكون فيها المرء بعيداً عن الشعور المخاتل بالتفوق المفاهيمي الأجوف .

*
هل تقرأ روايات خيال علمي لمعاصريك من الكتّاب ؟

لطالما اعتقدت أن عليك قراءة القليل وحسب في ميدان اشتغالك متى ما انخرطت فيه، ولكن من الجيد في نقطة شروعك بمشوارك أن تعرف ما الذي يفعله المبرزون فيه . عندما كنت في السابعة عشرة من عمري قرأت جميع أعمال ( روبرت هينلين ) و ( آرثر كلارك ) والكتابات المبكرة لـ كل من ( ثيودور ستركيون ) و ( فان فوكت ) غير أن الأسماء الكبيرة لدي ظلت على الدوام ( هيربرت جي. ويلز ) و ( جول فيرن ) وأرى نفسي على الدوام ميالاً الى نمط فيرن في الكتابة عن المثل الأخلاقية والارتقاء بالإنسانيات، فقد كان فيرن يؤمن أن الكائن الإنساني حالة غريبة في عالم غريب للغاية وأن بوسعنا الانتصار في مشوارنا البشري بالسلوك طبقاً لما تمليه علينا موجبات الحساسية الفائقة لضمائرنا التي تقودها الأمثولات الأخلاقية الرفيعة .

*
هل تقرأ عادة لكُتّاب أصغر منك؟

أفضل في العادة أن لا اقرأ لكتاب أصغر مني في ذات الحقل الإبداعي الذي نكتب فيه، فقد يحصل غالباً أن تصاب بإحباط كبير لاكتشاف أنهم يعالجون الفكرة ذاتها التي تعمل عليها، لذا من الأفضل لك أن تمضي قدماً في عملك ولا تشوش على ذاتك .

*
في أي وقت بدأت الكتابة ؟

بدأ الأمر معي منذ قرأت ( أدغار ألان بو ) الذي اعتدت تقليد نمطه الكتابي منذ أن كنت في الثانية عشرة وحتى بلغت الثامنة عشرة ، و قد فعلت الأمر ذاته مع ( أدغار رايس بوروز ) وكنت أكتب في الغالب قصص رعب تقليدية من النوع الذي يستهوي المبتدئين في العادة . كانت سنة 1932 هي السنة التي اختمر فيها كل شيء لدي عندما بلغت الثانية عشرة، عندها اعتدت الإنصات الى الكثير من برامج المذياع المثيرة للخيال وكان من الأمور المعتادة وقتذاك أن أستمع الى أحد البرامج كل ليلة، وبعد انتهائه أجلس وأكتب المسودة الكاملة للبرنامج معتمداً على ذاكرتي وحدها ، وقد كان لي ايضا ولع طاغٍ في الرسم وكنت ميالا لرسم الشخصيات الكارتونية وكنت أعد مجلداتي الخاصة من طرزان مشفوعة برسوماتي الخاصة بالتزامن مع ظهور مجلد ( طرزان ) أسبوعيا كل يوم احد . كنت أعرف منذ صباي المبكر انني سأنخرط في واحد من مجالات الفنون : فقد كنت وقتها أرسم وأمثل وأكتب .

*
تبدو في صباك منفتحاً على جملة من المؤثرات؟

كنت أرى نفسي كومة ملصوقة من النفايات يمكنها دوما أن تلتهب بوهج عظيم !! ، كان لدي شغفي الأدبي وأتخيل نفسي قطاراً يتنقل عبر أميركا في منتصف الليل ويدير حوارات مع كتّابي المفضلين : ( جورج برناردشو ) الذي كان مولعاً بالرواية المؤسسة على الأفكار و قد كتب هو ذاته بضع روايات يمكن إدراجها في خانة الخيال العلمي . كنت وكتّابي المفضلون نتسامر حتى منتصف الليل ونحن نقلب الأفكار ونتساءل مثلا : “إذا كان هذا هو حال المرأة في عام 1900 فعلى أية حال ستبدو إذن عام 2050 ؟ ” .

*
من ذا الذي سيكون على متن القطار جنباً الى جنب مع برناردشو؟

كثير من الشعراء : هوبكنز ، فروست ، شكسبير ، ومثلهم من الكتاب : شتاينبك ، هكسلي ، و توماس وولف.

*
كيف ساعد هؤلاء الكتّاب الذين ذكرت في ارتقائك الأدبي؟

كان توماس وولف رومانتيكياً عظيماً وعندما تكون في التاسعة عشرة يفتح وولف أبواب العالم ونحن دوما نفيد من كتّاب محددين في أوقات محددة من حياتنا وربما لا نعاود الرجوع اليهم بعد مغادرتنا تلك الأوقات، وأرى أن وولف كاتب مثالي لمن هو في التاسعة عشرة . عندما تقع في هوى ( شو ) وأنت ابن الثلاثين فسينتهي هذا الهوى في الغالب لأن يكون هوىً أبدياً، ويصدق الأمر ذاته مع كتب بذاتها لـ ( توماس مان ) فقد قرأت ( موت في البندقية ) وأنا في العشرين وما زلت أراه افضل في كل مرة أقرأه فيها . الأسلوب هو الحقيقة . عندما تقرر أن تدون ما تريد قوله عن ذاتك ومخاوفك وحياتك فإن هذا سيكون أسلوبك وسيتعين عليك العودة لمن ذكرت من الكتاب لإرشادك كيف تستخدم الكلمات لتتناغم مع الحقيقة . تعلمت من ( شتاينبك ) كيف أكتب بموضوعية ومع ذلك أمرر رأيي بسلاسة وبلا تعليقات إضافية ثقيلة . تعلمت الكثير من ( جون كولبير ) و ( جيرالد هيرو ) أيضا وعشقت أعمال عدد من النساء الكاتبات وبخاصة ( يودورا ويلتي ) و ( كاترين آن بورتر).

*
واحدة من أكثـر أقاصيصك شعبية في مجموعتك (السجلات المريخية) هي ( ثمة مطر ناعم سيهطل There Will Come Soft Rain ) تحكي فيها عن منزل ممكنن mechanized تدوم فعالياته بعد القاء قنبلة ذرية وليس ثمة من بشر في القصة . كيف راودتك هذه القصة ؟

بعد قصف هيروشيما رأيت صورة فوتوغرافية لأحد جوانب منزل مهدم مع ظلال لأجساد بشرية احترقت وتركت آثارها على الجدار من هول فعل القنبلة، وكما ترى فقد تلاشى الناس لكن ظلالهم ظلت باقية وهذا ما أثر في كثيرا ودفعني لكتابة القصة.

*
بعض المقاطع من قصصك في السجلات المريخية وبعض كتبك الأخرى أيضاً تبدو غنائية الطابع lyrical بقوة . من أين جاءتك تلك النزعة الغنائية؟

جاءتني من قراءة الكثير من الشعر في كل يوم تقريباً من أيام حياتي . كان كتّابي المفضلون دوماً ولا يزالون هم القادرين على قول الأشياء بطريقة جيدة، وقد اعتدت دراسة ما تفعله ( يودورا ويلتي ) التي تمتلك قدرة مدهشة على وضعك في أجواء الفعل والشخصيات و فضاء الحركة من خلال سطر واحد من الكتابة .

*
وماذا عن بروست وجويس وفلوبير ونابوكوف : الكتّاب الذين يميلون الى التفكير في الأدب بمؤثرات الأسلوب والشكل ؟ هل أثر هذا اللون من التفكير فيما تكتب؟

لا لم يؤثر. حاولت أن اقرأ بروست وأدرك جمال أسلوبه لكنه يدفعني دوما للنوم لا محالة في كل مرة أقرأ عملاً له ونفس الشيء ينسحب على جويس الذي لا أرى له أفكاراً عديدة فيما يكتب وأنا بطبيعتي ميال الى عالم الأفكار ولا أطيق وجودي في عالم لا أندهش بما يدور فيه من أفكار .


راي برادبوري.. حارقو الكتب في درجة 451 فهرنهايت -القسم الأول

ترجمة وتقديم لطفية الدليمي 

تاريخ النشر: 10 أغسطس 2016

درجة 451 فهرنهايت - وهي درجة حرارة احتراق الكتب - عنوان رواية أحد اشهر كُتّاب الخيال العلمي في أمريكا ( راي برادبوري).

ظهرت الرواية سنة 1957 وأحدثت ضجة في الأوساط الثقافية لأنها دانت الحقبة المكارثية عندما مارس السيناتور الأميركي إرهابه الفكري في حقبة الخمسينات من القرن العشرين ولاحق المفكرين والكتّاب والفنانين وأحالهم الي المحاكم وسجن الكثيرين منهم بتهمة انتمائهم لليسار ، ومنعت كتب الكثيرين منهم في أمريكا واستخدم هو ومؤسساته عدداً هائلاً من المثقفين كمخبرين وشاة وكاتبي تقارير !!

رواية 451 فهرنهايت من أجمل الأعمال التي تصدت للارهاب الفكري ويعد المشهد الختامي فيها من أروع مشاهد المقاومة الانسانية للقهر والارهاب في مدينة تحرم قراءة الكتب والتعامل بالكلمات المكتوبة ، وأدهشَنا المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو الذي قام باخراج الفيلم بالعنوان ذاته وقدم لنا مشهد الغابة وراء النهر خارج مدينة  جمعاً من رجال ونساء وأطفال  تحول كل منهم الى (كتاب حي) وقد حفظوا الكتب العظيمة في التراث الانساني عن ظهر قلب ، فنجد رجلاً اسمه (الحرب والسلام) يردد عبارات تولستوي وهذه امرأة حفظت رواية (أنا كارينينا) وهناك آخر حفظ ثلاثية (دروب الحرية) لسارتر، وهذا صبي يافع هو (دافيد كوبرفيلد) وذلك الرجل هو كتاب (الجريمة والعقاب) والآخر هو (البؤساء) ، وعندما يشرف أحد الشيوخ على الموت وهو حافظ أحد كتب العباقرة يقوم بتلقين مضمون الكتاب كلمة كلمة لصبي صغير قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ثم عندما ينجز المهمة يغمض عينيه مطمئناً وقد ضمن وصول الرواية إلى جيل جديد سيأخذها الى المستقبل

يقدم لنا (برادبوري) تصوره عن نظام ديكتاتوري يصدر قراراً بتحريم الكتب ويحظر التعامل بالكلمات المكتوبة ويعاقب من يمتلك الكتب بالسجن وتحرق كتبه علانية في الساحات العامة ، وتكمن مفارقة النظام الإرهابي الذي يقلب وظائف الأشياء إلى ضدها في تحويله فرقة إطفاء الحرائق إلى فرقة إحراق الكتب التي تسمى فرقة (451 فهرنهايت) . يقول رئيس الفرقة : إننا نريد إشغال الناس بمسابقات الأغاني ونريد حشو أدمغتهم بمعلومات لاقيمة لها حتى  يشعروا بأنهم بارعون وراضون عن أنفسهم بينما هم في حقيقة الأمر لايفكرون في شيء ذي قيمة !!

حرق الكتب سمة بارزة من سمات عصور الارهاب وعلامة انحطاط كل عصر ووحشية كل نظام وظلاميته ، وقد تنبأ (راي براد بوري) بما سيؤول اليه مستقبل الفكر الانساني عندما تسقط المعرفة وتهيمن سلطة الجهل ويتحكم التلفزيون ببرامج مسابقاته وألغازه في حياة البشر محولاً الجموع إلى قطعان مدجنة تلتهم برامج المنوعات والأغاني والمسلسلات وتدمن عليها فلا تعود معنية بما يحدث وبما يهدد الإنسان ولا تأبه بأي شأن من شؤون الحياة والمخاطر التي تفترس المجتمع ، واستشرف (براد بوري) مستقبل الإنسانية عندما توقع صعود القهر والتسلط والإرهاب في بعض بلدان عالمنا المعاصر وكيف سيتحول البشر المحرومون من المعرفة والثقافة إلى كائنات تحيا لإشباع غرائزها الاولية وتقاوم البؤس والتعاسة والعجز والأرق بالتهام الحبوب المهدئة والحبوب المنومة والمخدرات ولا ترى الدنيا الا من خلال شاشة التلفزيون التي تتحكم بالأفكار والأنشطة والآمال التي تدور حولها تفاصيل حياة الناس المرتبطة بشهوة الثراء وامتلاك النساء الجميلات والسيارات الفارهة

في المدينة اللامسماة وفي عصر غير محدد بزمان - وربما هو عصرنا الذي توقعه (برادبوري) - تداهم فرقة (451 فهرنهايت) المنازل التي يبلغ عنها جواسيس النظام المرتعب من وجود الكتب وسيادة العقل ويقوم رجال الفرقة بتحطيم أثاث المنزل والخزائن ويلقون بالكتب التي يعثرون عليها في باحة البيت ويجري حرقها باستخدام قاذفات اللهب لتكون عبرة للآخرين ممن يتجرأون على اقتناء الكتب !! الرجال الذين تدربوا ليكونوا حماة للحياة عن طريق إطفاء الحرائق حولتهم سلطة دولة الإرهاب إلى رجال مدمرين يقومون بإفناء المعرفة الانسانية وتراث الإبداع البشري . يقول مونتاغ  أحد رجال الفرقة : الكتب مجرد نفايات تسلب الناس السعادة وتقلق حياتهم وتجعلهم يتمردون على المجتمع لذلك يجب حرقها، ويخبر الفتاة التي يتعرف عليها وهي تسكن في الجوار إن عمله في حرق الكتب ينطوي على كثير من الإثارة والتجديد؛ فمثلاً نحرق اليوم الإثنين ( آرثرميللر) ويوم الثلاثاء (تولستوي) ويوم الأربعاء (ديستويفسكي) وفي يوم آخر (سارتر) و(ماركس) و(نيتشه) !! إنه عمل مسلٍ ومجزٍ ؛ فنحن نعتاش على حرق الكتب مثلما يعتاش الآخرون على مهن أخرى - إنها مهنة مثل كل المهن ، مهمتنا حرق هؤلاء الكتاب دون استثناء ، (وهكذا نحولهم الى رماد) يقول للفتاة التي تسأله بشيء من الفضول

ــ إذن هل أنت سعيد؟
ـ  لاأدري .
ــ هل جربت أن تقرأ أحد الكتب؟
ــ لا.
ــ حاول أن تفعل.

يبدأ (مونتاغ) بسرقة بعض الكتب من تلال الكتب المعدة للحرق وتستيقظ لديه الحياة ، يتنبه العقل والجسد والمشاعر في الوقت الذي تتحول زوجته الى مدمنة مثالية لمسابقات التلفزيون والحبوب المهدئة وتغدو مجرد (روبوت) عديم الوعي والمشاعر وتراقب تحولات زوجها وترتاب في كونه يمتلك الممنوعات. يتفق مونتاغ مع صديقته على اللقاء وراء النهر، ولكن بعد أن يتم مهمته الشاقة التي قرر القيام بها إثر تحوله الى رجل مختلف. في هذا الوقت تدهم الفرقة منزل سيدة مسنّة تملك آلافاً من الكتب ويجري تكديس الكتب ويُشعل عود ثقاب ،،، تصرخ السيدة (لن تحرقوا الكتب بدوني، سأموت مع كتبي) وهكذا تفعل، تضحي بالحياة التي لاتعني لها شيئاً بلا كنوز المعرفة .

يخبر (مونتاغ) صديقته بفكرته التي ستحطم النظام من داخله :  سوف يدسّ كتاباً من الممنوعات لدى كل حارق من أعضاء الفرقة ويبلغ عنه لتنهار الفرقة ويتوقف عمل الإرهاب الفكري الذي تؤديه ، لكن زوجته  تبلغ عنه قبل أن يقوم بذلك وتحاصره الفرقة وتعثر على المحرمات في منزله فيضطر الى استخدام قاذفة اللهب لمهاجمة أعضاء الفرقة ثم يهرب إلى موعده مع الفتاة حيث يلتقيان مع البشر حافظي الكتب ، وهناك ينهض عالم مدهش من أناس قاوموا إرهاب السلطة ورفضوا الخضوع لخطتها التجهيلية وأقاموا مجتمع الفكر والرواية في الغابة وعاشوا في حذر وخوف على كنوزهم فهم يحملون أثمن أسرار البشرية ونتاج عقولها ومخيلاتها، وتنتهي الرواية عند هذه المأثرة الانسانية الرفيعة : تحوّل البشر إلى حافظين للتراث الانساني رداً على القمع وظلامية النظم السياسية القامعة .

*     *     *     *     *     *     *

عقد ( سام ويلر ) المحرر في مجلة ( باريس ريفيو ) الأدبية الفصلية  حواراً شاملاً مع الكاتب ( راي باردبوري ) نُشِر في الفصل الربيعي عام 2010 ، ومهّد المحاور لحواره بهذه المقدمة :  

يقطن راي برادبوري منزلا في ( بالم سبرينغ ) - كاليفورنيا على أطراف صحراء قريبة من قاعدة سلسلة جبال ( سانتا روزا ) ، و المنزل صغير على غير العادة ويحوي مطبخاً مطلياً بمعدن ( الكروم ) الفضي ويغلب على المنزل اللون التركواز ، ويقبع مسبح صغير في باحته الخلفية . كان برادبوري قد منحني قبل بضع سنوات فرصة لرؤية عدد من ملفاته المخزونة في (مرآب) البيت كجزء من متطلبات عملي في الإعداد لكتابة سيرته وقد عثرت في المرآب - من بين الاشياء الثمينة التي عثرت عليها - مخطوطة لحوار أعِدّ  للنشر في مجلة ( باريس ريفيو ) كان برادبوري قد أجراه أواخر عام 1970 وليس واضحاً لليوم الأسباب الكامنة وراء عدم نشر الحوار وقتذاك ولكن بحسب تأشيرة مرفقة من مسوؤل التحرير في المجلة وقتها نقرأ الملاحظة التي تقول "ربما يكون الحوار طافحاً بالحماسة أكثر من المعتاد !! " ، وقد وجدت أن من المناسب - وبخاصة أن برادبوري سيبلغ التسعين من عمره في آب ( أغسطس ) 2010 - أن اعيد نشر الحوار مدعوماً بحوارات محدّثة .

ولد برادبوري عام 1920 في ( إيلينوي ) بالولايات المتحدة لأب يعمل في شركة طاقة محلية ، وكطفل نشأ معه شغف طاغ تجاه كتب ( فرانك بوم ) و (ادغار الان بو) ، ومنذ طفولته المبكرة أغرق نفسه في الانشغالات الثقافية الشعبية العامة من السينما والكوميكس والسيركات المتنقلة ، ولأن والد برادبوري كان عرضة الى البطالة في العشرينات والثلاثينات ( من القرن العشرين ) فقد وجدت العائلة نفسها تتنقل دوماً بين الينوي واريزونا وهو الأمر الذي خلق في برادبوري شعوراً بعدم الانتماء والتجذر تفاقما بعد موت جده المقرب إليه عندما كان في الخامسة ثم تفاقما بطغيانٍ أكبر بعد موت اخته الرضيعة متأثرة بتداعيات التهاب الرئة ، وغالبا ما ظهر تأثير هذه الفقدانات المرّة في أعماله لاحقاً ، وبقدوم ربيع 1934 انجذبت عائلة برادبوري الى الشمس المشرقة والتوظيف الثابت السائدين في كاليفورنيا فانتقلت اليها وظل فيها برادبوري طوال حياته ، وقد اعتاد كمراهق ان يطارد نجوم هوليوود ويجمع تواقيعهم ويلتقط صوراً مع بعضهم : ( جين هارلو ) و ( مارلين ديتريش ) و ( جورج برنز ) ، وبعد ان تخرج من مدرسة لوس انجلس الثانوية عام 1938 انضم الى جمعية لوس انجلس لرواية الخيال العلمي وهناك كوّن صداقات عميقة مع من سيكون له شأن كبير لاحقاً من امثال ( روبرت هينلين ) و ( لاي براكيت ) ، وفي عام 1940 وبمساعدة ( هينلين ) باع على طريقة المحترفين عمله الاول الى مجلة أدبية في الساحل الغربي تدعى ( Script ) .  ساعد ضعف نظر برادبوري على إبقائه بعيداً عن صفوف المجندين في الحرب العالمية الثانية فاستغل هذه السنوات في ترسيخ اسمه كاتباً لروايات خيال علمي وحكايات غرائبية ، واستقبل النقاد ومجتمع الخيال العلمي بحفاوة بالغة كتابه الثاني ( السجلات المريخية The Martian Chronicles  ) التي أشاد بها كريستوفر ايشروود واصفاً برادبوري بكونه "كاتباً ذا أصالة حقيقية وموهبة عظيمة غير اعتيادية" ، وبعد ثلاث سنوات من نشر السجلات المريخية نشر برادبوري رواية لازمت اسمه حتى اليوم وصارت علامته الفارقة التي يعرف بها : فهرنهايت 451 .

كتب برادبوري أكثر من خمسين كتاباً وعمل في برامج تلفزيونية وأفلام كثيرة وأعد أعمالاً لِـ ( ألفريد هتشكوك ) وعمل في سيناريو لفلم مقتبس عن رواية ( موبي ديك ) اخرجه ( جون هيوستن ) عام 1956 ، وأسس عام 1964 شركة المسرح الصاخب التي ابتدأ معها تقديم اعماله المسرحية ومازال شغوفاً بالمسرح حتى اليوم كما نشر مجاميع شعرية عديدة وعمل في مجالات تبدو غريبة لم يسمع بها الكثيرون مثل العمارة ؛ فقد ساهم في تصميم اعمال عدة مثل فندق ( ويستفيلد هورتون بلازا ) في سان دييغو والتصميم الداخلي لسفينة الفضاء في مركز ديزني

مُنِح برادبوري عام 2000 ميدالية الخدمة المميزة للأدب الأمريكي من مؤسسة الكتاب القومية كما مُنِح عام 2004 الميدالية القومية للفنون ، ورغم اصابته بجلطة دماغية عام 1999 ووفاة زوجته ( مارغريت ) عام 2003 لا يزال برادبوري عظيم النشاط و يكتب بتوهج مدفوعاً بذلك الابتهاج الطفولي الأخاذ ( توفي برادبوري بعد سنتين من هذا الحوار المحدّث معه في كاليفورنيا بعد حياة منتجة شديدة الثراء امتدّت واحداً وتسعين عاماً ، المترجمة).

سأنشر في حلقتين مقبلتين من ثقافية "المدى" تفاصيل الحوار مع ( راي برادبوري ) والذي نُشِر في عدد مجلة ( باريس ريفيو ) الذي أشرت إليه أعلاه .المترجمة  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : المدي

الخميس، 11 أغسطس 2016

«حكاية الشتاء».. حياة بمنازل كثيرة

عباس بيضون
جريدة السفير بتاريخ 09-08-2016 


بول أوستر الروائي الأميركي الذي بدأ شاعراً، وصار في ستيناته لا ينظم الشعر إلا في المناسبات العائلية كما يقول في روايته «حكاية الشتاء»، لا يطلعنا على سر عنوانه للرواية إلا في فصلها الأخير. الشتاء هنا شتاء العمر، والروائي الذي ولد 1947 لا يشك في أنه بلغ هذا الشتاء، أو أنه، على الأقل، على حافته وهو في روايته يروي لنا المسيرة التي حملته إلى هذا الشتاء.

رواية بول أوستر كما نفهم سيرة ذاتية، سيرة ذاتية وليست مذكرات. إذ أننا لا نقع هنا على مسار منتظم يتابع هذه السيرة مرحلة مرحلة وعاماً بعد عام أو حادثة تلو أخرى. ما نقرأه لدى بول أوستر يشبه أن يتناول السيرة كمجموعة مواضيع، بل مجموعة ديناميات. لا نجد هنا تسلسلاً لكننا نجد حياة كاملة يتوغل الكاتب في أطرافها وتفاصيلها ويبني من داخلها سياقات خاصة. كأن ما يفعله بول أوستر هنا هو تناول حيوات في حياة ومسارات داخل بيئة كاملة. لذا لا نجد تتابعاً زمنياً ولا تتابعاً مكانياً. الروائي يكتب تداعيات منظومة. انه ينتقل في الأزمنة والأمكنة والمناسبات والمواضيع. ينتقل ذهاباً وإياباً وبوقفات طويلة وحراك في صعود وهبوط. الأشياء تستدعي بعضها وتسفر عن بعضها وتخرج من بعضها. ما نقرأه هو نشر هذه الحياة على عرض الكتاب وطوله، نقرأ في الصفحة 6 «حقيقة أنك لم تعد شاباً لا تقبل الجدل فبعد شهر سوف تبلغ الرابعة والستين» لكننا نقرأ في الصفحة المقابلة «ها أنت في الخامسة» وبين الصفحتين كلام من مثل «كيف لفحت الريح وجهك حين هبت العاصفة الثلجية الشديدة في الأسبوع الفائت» يلي ذلك كلام عن نثريات الحياة ومتعها من الواضح انه بلا عمر. هكذا ننتقل في صفحتين بين لحظات تعود إلى أزمنة شتى. مع ذلك نكاد نشعر أن هذا التفرق وهذه البعثرة هما اللذان يمنحان الكتاب هيكلاً ووحدة وبنياناً لا نجدها بالتأكيد في التسلسل الزمني. هنا تبدو الحياة حقاً وحدة تجربة بل وتجارب، تبدو وقد انتظمت في فعاليات واختبارات، تبدو كأنــــها تستمد وحدتها وانتـــظاماتها من اندفاعات داخلية ومن سياقات جــوانية ومن تجارب متصلة.

سنتابع تداعيات النص ونجده يقفز من عمر إلى عمر، ومن تفصيل إلى تفصيل، ومن ملاحظة إلى ملاحظة، وبالطبع سنقع على إيحاءات دائمة. بول أوستر اليهودي الذي هاجر أهله إلى أميركا يذهب بعيداً في نصه، الذي ليس طويلاً، يذهب إلى أهله، إلى أجداده وإلى أمه وأبيه. كما يتكلم بالدرجة نفسها عن زوجته التي هي كذلك من ثلاثين سنة. يتكلم عن أهلها وعن ماضيها، وعلينا أن ننتقل بمتعة حقيقية من ندوب الطفل والفتى التي حملها من تعثرات وشجارات، إلى شجرة العائلة، إلى عشرات البيوت التي أقام فيها، وحده أحياناً وأحياناً مع زوجته الأولى والثانية. بيوت لا يكتفي بوصفها المعماري والهندسي، إنما نتسلل معه إلى حياته فيها لنشعر أن هذا العبور بين عشرات البيوت إنما هو عبور داخل حياة، قد لا نرى دقائقها وقد لا نتميز عادياتها، فبول يعطي للتفاصيل العابرة حضوراً نموذجياً. بول لا يرجع إلى العاديات والنثريات إلا بعد أن يحولها إلى إشارات وإلى إيحاءات. انها ترد في نصه بعصب وزخم يجعلانها أكثر من روتينيات وحوادث دارجة ويومية. التفاصيل هذه هي بحد ذاتها صور، إنها في الوقت ذاته أحاسيس ورموز وإشارات. هكذا يبدو الكاتب الذي بدأ شاعراً قريباً من أن يكون هذا الشاعر في سرده. هكذا نجد أن الغرف التي آوى إليها عشرات المرات وتبدلت عشرات المرات إنما هي موجودات حية، ونجد فيها، واحدة بعد أخرى، آثار حياة، بل نجد فيها أكثر من ذلك مطارح كره وحب وغضب وتسامح. ينشر بول أوستر حياته على هذه المباني فنجدها تتململ مختفية مضمرة فيها، فهذه الحياة تنبع من كل شيء، وتحل في شتى الموضوعات.

«حكاية الشتاء» أيضاً كتاب حب، لا نتوقف فقط أمام الصفحات التي كرسها لغرامياته، الناجحة والفاشلة، فبول الذي يقول انه بارع في اختيار ما لا يناسبه يتوقف طويلاً وفي صفحات كاملة أمام حب حياته، زوجته التي يكتب عنها فصلاً يكاد يكون قصيدة، منذ التقيا وكيف عاشا برهة معاً قبل أن تطلب منه أن يتزوجها «لم تكن من نسج الخيال، لم تكن إسقاطاً لتخيلاتك الباطنية بل شخصاً حقيقياً... لم يكــن لديك مجال لتحويلها إلى شــــخص لم تكنه. أي من بنـــــات أفكارك أو نتاج خيالك كما فعلت بنساء أخريات في الماضي».

الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

رسالة حب من "هنري ميللر" إلى "أناييس نن" ترجمة: أسامة منزلجي




ربطت بين أناييس نن (1903- 1977) علاقة قوية واستثنائية، جمعت بين الصداقة والحب والجنس طوال فترة طويلة. كانت صديقة ومُحسنة إليه ومُعيلة. ويبدو جلياً من الرسالة التالية مدى عمق العلاقة بين الاثنين؛ لقد شارك ميللر نن حياتها وعملها وغرفتها وفراشها. كان يتغلغل تحت جلدها وكانت تتغلغل تحت جلده، حتى يكاد المرء لا يصدّق أنها انتهت في وقت من الأوقات. الرسالة التالية مأخوذة من مجموعة المراسلات الضخمة بين نن وميللر وتحمل عنوان
" A LiteratePassion "

نيويورك
آذار (مارس) 1935
أناييس،

ليتك تكونين معي على مدى أربع وعشرين ساعة، تراقبين كل إيماءاتي، تنامين معي، تأكلين معي، تعملين معي، هذه الأمور لا يمكن أنْ تحدث. عندما أكون بعيداً عنك أفكر فيك باستمرار، فذلك يُلوِّن كل ما أقول وأفعل. ليتكِ تعرفين كم أنا مُخلص لك! ليس فقط جسدياً، بل وعقلياً، وأخلاقياً، وروحياً. لا شيء يُغويني هنا، لا شيء على الإطلاق. إنني منيع ضد نيويورك، وضد أصدقائي القُدامى، وضد الماضي، ضد كل شيء. للمرة الأولى في حياتي أنا منغمس تماماً في كائن آخر، فيك. في استطاعتي أنْ أتخلّى عن كل شيء من دون أنْ أخشى الإرهاق أو الضياع. عندما كتبتُ في مقالتي بالأمس "لو أني لم أذهب إلى أوروبا إلى آخره ..." لم أكن أقصد أوروبا، بل أنتِ. لكني لا أستطيع أنْ أجهر بهذا للعالم في مقالة. إنَّ أوروبا هي أنتِ. لقد استوليتِ عليّ، أنا المكسور وأنتِ التي جعلتني كاملاً. ولن أتداعى أبدا – وليس هناك أدنى قدر من الخطر من وقوع هذا. لكني الآن أشدّ حساسية، وأكثر استجابة لأقل خطر. فإذا لاحقتكِ بجنون، وناشدتكِ أنْ تصغي، ووقفتُ خارج بابك وانتظرتكِ، فذلك ليس محاولة لإذلال نفسي. بالنسبة إليّ ليس هناك إذلال في هذا الكفاح للاحتفاظ بك. هذا فقط برهان على أني على وعي تام، ويقظة شديدة، وتوق، بل توق عميق ويأس لأجعلكِ تدركين أنَّ حبي العظيم لك شيء حقيقي وجميل إلى أقصى مدى. في السابق كنتُ أكيل لأي امرأة الصاع صاعين مقابل أي ألم تُسببه لي. لكني الآن أعلم أنَّ الألم هو نتيجة سلوكي أنا. أعلمُ أنه حالما يحدث أمر، أمر خاطئ، فإنَّ الخطأ هو خطأي أنا. إنني لا أشعر بالذنب، بل بمذلة عميقة في مواجهة حبي. إنني لا أشكّ فيكِ، يا أناييس – بأي صورة من الصور. لقد قدّمتِ لي كل البراهين التي يمكن لامرأة أنْ تقدّمها إلى رجل. أنا الذي ينبغي أنْ أتعلّم كيف أقبل هذا الحب وأصونه. لقد ارتكبت الكثير من الأخطاء الفادحة. وسأرتكب المزيد منها، دون شك. لكني لن أتراجع. يبدو أنَّ كل يوم يرفعني إلى مستوى أعلى، إلى الذُري – اتركيني هناك، أتوسّل إليك.

لقد فكَّرت في أنْ أقول لكِ عبر الهاتف، لكني رحت أثرثر – " أناييس، لا أستطيع أنْ أجوب الشوارع وأنا مبتئس. هذا لا يجوز. لدي الكثير من العمل ولا أريد أنْ أُدمّر نفسي، ولا حتى أصغر جزء مني. إنَّ كل ما لديّ نفيس وكنتُ أحاول أنْ أصونه، لأقدّمه هدية إليك .

إنني هنا لا أجوب الشوارع كما كنت أفعل. ليس لدى الشوارع ما تقول لي. هذا أيضاً كان بمثابة إعطاء شيء من نفسي للعالم، بدل جذب العالم إلى داخلي. والآن أفكّر في غرفتي الصغيرة، الغرفة التي وفّرتِها لي، وأشتاق إلى العودة إليها، لكي أُكرّسَها للعمل. يبدو أنَّ العالم كله يبدو ملتحماً بكِ – فلماذا أخرج سعياً وراءه؟

إنني أشعر وأنا أتحدث مع الناس بشيء غاية في الجمال داخلي. أشعر بالمسافة بيني وبين الآخرين. وأصون تلك المسافة. لا أعلم مَنْ أنا. لم تعد هناك أية شكوك. ولكن عندما تبتعدين عني، حتى ولو قليلاً، يهبط السواد عليّ، أشعر بأني مُحاصَر. ولكي نُحافظ على ما خلقنا بيننا، وداخلنا، علينا أنْ نتحرّك بسرعة وأنْ نتعرََّض للخطر، ونحن في كامل وعينا. لقد وصلنا إلى شيء لم تعرفه إلا القِلّة القليلة من الناس. يجب أنْ نكون صادقَين مع نفسينا، ومع ما نعرف ونشعر. إذا زللتِ، يجب أنْ أرفعكِ. وإذا زللت، يجب أنْ تفعلي الأمر نفسه. وإلا اهتزَّ العالم وضعنا .

لا تظني، يا أناييس، أنَّ ما يدفعني إلى التصرُّف بيأس هو خوفي من أنْ أفقدكِ. إنه ليس الخوف، بل الرغبة في التمسُّك بك. إنَّ ذاتي الخائفة ماتت. تلك الذات كانت سلبية، مُهمِلة، وغائبة عن الوعي. والرجل الذي أنا عليه الآن يقِظ وفعّال، إنه يقفز، ويُقاتل، ويرفض أنْ يُرخي قبضته. هناك فرق، ألا ترين؟ الذات القديمة كانت ستنحل وتذوي على السرير، أو ستسكر، أو تهيم على وجهها في الشوارع، أو تلجأ إلى صديق قديم. لم يعُد في استطاعتي أنْ أفعل هذه الأمور. هذه الأمور كلها كانت تُخفف عني، تمكّنني من العويل ألماً ومعاناة، وربما كنتُ أرغم فيهما حينئذٍ. لا أريد أنْ أُعذِّب نفسي، سوف أضع نفسي تحت تصرّفك دائماً، وجهاً لوجه، بسرعة، ومباشرة. لم أسمح بأي غلط، بأي حادث يتطور بسرعة إلى سوء فهم. لن أسمح لنبات ضار واحد ينمو في هذه الحديقة التي نُعدّ. إنَّ الحياة قصيرة قِصراً مُرعباً لنُحقق فيها معاً رغباتنا كلها. يجب أنْ نُمسك بالزمن ونلوي عنقه. يجب أنْ نعيش كلٌ منا داخل الآخر.

عندما اتّصلتُ بك لم أكن متأكّداً من أني سأجدك. في تلك الأثناء اتصلتُ بكِ مرّتين وقيل لي إنكِ في الخارج. كنتُ أتصبّب عرقاً. رحتُ أتمشى في طول شارعك وعرضه وحول منزلك، تفرّجتُ على المطاعم، ثم عدتُ ووقفتُ أمام بابك. ولو أني لم أتمكن من التحدث معك عبر الهاتف كنتُ سأرسل إليك برقية، ومن ثم أعود لأكتب لك رسالة تُسلَّم باليد. نظرتُ في دليل الهاتف بحثاً عن اسم غويلر[1][1]، مُعتقداً أني قد أجدك في منزلك – منزلهم. فلم أعثر على العنوان. ولو أني انتظرتكِ هذا المساء ولم أجدكِ لاقتفيتُ أثر رانك[2][2] وحاولت الحصول عليه منه، بالقوة إذا اقتضى الأمر. لم أتمكن من التفكير أين يمكن أنْ تكوني، وماذا تفعلين. لم أُصدّق أنكِ ما زلت غاضبة مني، لم أفكّر إلا في أنكِ تبتعدين عني، متألمة، وحائرة، ويائسة من حبي. ثم إنَّ نيويورك تلك تبدو كالهولة – بحجمها، بشقوقها التي لا تنتهي، وعبث العثور على تلك التي تبحثين عنها كالمسعور. إنَّ المرء يتحول إلى قشّة، إلى خصلة شعر تذروها الريح، تمزّقه كل ذكرى، يُصبح ملعوناً، ضائعاً ومُحطَّماً، تتقاذفه الرياح. تقولين أنكِ كنتِ تبكين. وأنا كنتُ أبكي، أجوب الشوارع والدموع تسيل على وجهي. آه، لماذا، لماذا ؟ لماذا علينا أنْ نعاني ؟ هل نحن هشّون، مُعرَّضون لكل سهم؟ هذا شيء جميل وفظيع. لكننا أشبه بتوأم نحاول أنْ ننفصل. دعينا نبقى ملتصقَين معاً، بكل ما في الكلمة من معنى. ادخلي فيّ، يا أناييس، وابقي هناك، لا تخرجي مني أبداً، ولا بمقدار فكرةٍ واحدة .

لقد مررتُ وإياكِ بتجارب رهيبة، تجارب مرعبة. ألا نستطيع أنْ نُغرق هذا كله في حبّنا؟ أنتِ تعلمين الآن أني لا أحمل أفكاراً زائفة عنكِ، وأني قبلتكِ كامرأة، امرأتي. فلا تعاقبيني بسبب بطئي. بل اشكري النجوم لأننا كافحنا ونجحنا. لقد أخبرتك ذات مرة في رسالة كم أنا متيقّن من أنَّ مصير الإنسان كامنٌ داخله – وليس هناك في النجوم. وشعوري بهذا يترسّخ أكثر فأكثر. ألستِ معي؟ ألستِ معي؟ يجب أنْ تكوني كذلك، لأنَّ هذا ما أستشفّه من رسالتكِ. كيف يمكن ألا تكون القفزة الجريئة التي قمتِ بها إلا استجابةً لإملاء داخليّ. كان يجب أنْ تقفزي من أجلي، لكي تُنيري لي الطريق. لقد أثبتِّ ما أخبرتكِ ذات يوم أنه قول رائع – هل تذكرين؟ " الجرأة لا تقتل " لقد رأيتِها في الملاحظات التي دوّنتها على الطاولة في فيلا سورا. إنني أتذكَّر جيداً كل ما لاحظتِ. أستطيع أنْ أرى ضياءً في وجهكِ، وفي يديكِ المتلهّفتين، وفي إيماءاتك التي ترسمينها في الهواء وتشبه الطيور. أنتِ بالنسبة إليّ الضوء نفسه – أينما تمرين يومضُ ضياء مُبهِر .

هل ستسامحينني لأني كتبتُ هذا كله، بدل أنْ أعمل؟ أليس هذا، أعني حياتنا، أشدّ أهمية من العمل؟ عمل! عمل! لماذا أعمل؟ لابد أنَّ السبب في الأصل أُبالغ في تقدير نفسي، في حب نفسي، حتى أني حوّلت العمل إلى ولع وحاولتُ أنْ أُبرّره بأنواعٍ شتى من الأكاذيب والأضاليل. كنتُ أُشيدُ نُصُباً للأحزان الماضية. هذا كله انتهى. لقد تحوّل وجهي نحو المستقبل، بفرح. سوف يكون العمل طبيعياً أكثر، ولن يكون غاية بحد ذاته. لقد كدتُ أتجرّد من الإنسانية. وأنتِ أنقذتني.

الآن أُدركُ أني كائن بشري كامل وباعتباري كائناً بشرياً لابد أني أكثر قيمة بالنسبة إليكِ من أعظم الفنانين قاطبة. لم يضِع أي شيء جراء هذا التغيير. على العكس، بل كسبتُ كل شيء. إنكِ لا تنافسين عملي. أنتِ لستِ المُلهِمة التي تمّت التضحية بها. ما أشد حِدّة وعيي، وامتناني لك، لأنكِ اجترحتِ هذه المعجزة. إنها إبداعكِ، وهي إنسانيّة صِرف، تمَّ بلوغها عبر كفاحٍ مرير. وما فعلتِ لا يقلّ عن أي عمل بطوليّ. لو كنتِ مجرد امرأة لفشلتِ. أنتِ فنانة – في الحياة – وأي تقريظ يمكن أنْ أصِفكِ به؟ أنا كنتُ فناناً فقط بالكلام، وفي الحياة كنتُ فاشلاً بمرارة. كلمات، كلمات – كم تخنق روح المرء! أعطني المرأة وسوف تحتل الكلمات موقعها المناسب. لقد كنتُ عبداً للكلمات. الآن سوف أستخدمها.

أحياناً أعتقد أنَّ مجيئي إلى هنا سوف تكون له هذه النتيجة بالذات، أي سوف تصبح شخصيتي محسوسة وملحوظة. أعتقد، إذا توقّعت مكافأة مستحقّة، أني حالما أُقنع الناس بنزاهتي فإنَّ أي شيء أفعله أو أقوله، أي شيء أكتبه، سوف يلقى الاستحسان. لا يمكن للناس أنْ يتجاهلوني وهم يعلمون مَنْ أنا، يعرفون صدقي، ورصانتي. لم تعد لدي أية رغبة في لعب دور المُهرِّج، المتأذّي، المُهمَل. إنني أتوق الآن إلى التمسُّك بالناس، والوقوف أمامهم والتحدُّث إليهم، وإقناعهم. إنَّ الأمر لم يعُد يتعلّق بالأدب، بل بحياتي، بحياتي معك. أشعر بهذا بقوة بحيث أني واثق من أنه يجب أنْ يُحَسّ. قد أُصبح أشدّ بساطة بكثير. كل كلمة يجب أنْ تحترق. الكلمات مملوءة بدمي، بولعي بكِ، بنهمي للحياة، بالمزيد من الحياة، الحياة الأبدية. لقد منحتي حياة، يا أناييس. أنتِ الشُعلة التي تشتعل داخلي. وأنا حارس الشُعلة. أنا أيضاً لديّ مهمة مقدّسة .

آه، ألا ترين وتعرفين وتصدقين كل ما أكتب إليك؟ أليس واضحاً وصحيحاً وعادلاً؟ ألن تمكثي معي، في داخلي دائماً؟ لقد صعدتُ من أعماق سحيقة لأعثر عليك. إنَّ قولي إني أحبك ليس كافياً. إنه أكثر بكثير، بكثير. اسبري أعماقي، أخرجي كل ما في داخلي. أشعر بأني غني غنى لا ينضب.
هنري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هيو باركر غويلر: زوج أناييس نن منذ عام 1923 . – المترجم
أوتو رانك (1884 – 1939) : مُحلل نفسي نمساوي. تلميذ سيغموند فرويد و "ابنه بالتبنّي " . لجأت إليه أناييس نن وزوجها عندما توترت العلاقة بينهما ووصلا إلى حافة الانهيار العصبي. – المترجم


الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

«أيام هادئة في كليشي» لهنري ميللر ... ليالي باريس

هيثم حسين

تاريخ النشر: 07 كانون الثاني 2013

يحكي الأميركي هنري ميللر (1891- 1980) في روايته «أيام هادئة في كليشي»، (ترجمة خالد الجبيلي، الجمل، بيروت2012)، حكاية كاتبين أميركيين عاشا معاً في باريس في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، يصور بعضاً مما تخلل تلك المدة من مغامرات استثنائية غريبة قاما بها، وذلك من خلال توصيف الظروف العامة للمدينة التي كانت تضج بالجديد والمختلف.

يتتبع الكاتب سيرة بطليه جوي وكارل خلال إقامتهما في باريس، وكيف أنهما كانا يوقفان كل شيء لديهما للانكباب على الجنس والاستزادة منه، وذلك في سعيٍ مجنون منهما للارتواء منه، ومحاولة تجريب مختلف الأنواع والحالات، وأثناء ذلك يكون الكشف المواكب عن الوجه السافر للمدينة، وجه القبح المتنامي داخلها، بالتوازي مع بعض حالات القهر الاجتماعي والإنساني..

يكون جوي هو الراوي المتماهي مع الروائي، يروي حكاياته مع عدة نساء، يقتنص بعضهن من الملاهي، وبعضهن من الشوارع، يحترف حياة الليل، يصرف كل ما يصله من نقود على ملذاته الشخصية، يرتهن للبحث عن اللذة التي يجدها في ممارسات غريبة أثناء علاقاته.

الجنس يكون محور العلاقة التي تربط جوي وكارل بباريس، تدخل المرأة كطرف المعادلة الأهم، تضفي على العوالم الحيوية والتجدد، إذ إن جوي ينتقل من امرأة إلى أخرى، لا يكتفي بحب أو ممارسة، ينبش بهوس شبه مرضي عن إرواء شبقه، وما إن يخمن أنه عثر على ضالته حتى يكاد ينتقل إلى أخرى. أثناء تنقلاته السريعة، وعلاقاته العابرة، يكتشف البؤس القار في دواخل النساء اللاتي يتعرف إليهن، يحرص على معاملتهن بطريقة لائقة، دون الحط من شأنهن، ما كان يبديه غريباً في نظرهن، ولاسيما أنه كان جذاباً لهن باعتباره أميركياً، وكانت لهجته الفرنسية موضع تودد تارة، وموضع سخرية وازدراء تارة أخرى.. ويكون لكل واحدة طريقة في التعامل والتفكير، بحيث يقدم من خلال أولئك الفتيات نماذج للمرأة الباريسية بمختلف حالاتها وأطوارها، ومن أعمار متباينة.

الأيام التي يصفها الكاتب بالهادئة في كليشي، لم تكن بذاك الهدوء، بل كانت صاخبة تضج بالمغامرة والجنون، كانت منطقة كليشي بشوارعها وساحاتها مسرحاً للأحداث التي عاشها الصديقان، حيث شقة صغيرة تحتوي على أثاث بسيط لا يتناسب وحالة الصخب والضجيج التي يعيشانها. ولم يكن الهدوء سوى غطاء لتمرير الجنون، أو أن الذاكرة تهدئ الصخب والضجيج بعد مرور سنوات على الوقائع، بحيث تبدو أنها كانت بغاية الهدوء والرتابة.

يصف جوي صديقه كارل بأنه كان دائم الحرص على الاحتفاظ بمبلغ معين يخفيه في كتاب فاوست في مكتبته، ولا يقربه ولو كان بأمس الحاجة إليه، لذلك كان جوي يسطو عليه بين الفينة والأخرى. وكانت المشكلة المستعصية حين يكون كارل بدوره محتاجاً إلى المال، كجوي تماماً، لذلك لم يكن لديه أي سبيل للتحصل على المال كل مرة يظل فيها مفلساً، إلا أن يرهن آلته الكاتبة التي يعتني بها أيما عناية، ليعمل جاهداً على استرجاعها، وفي بعض الأحيان يجد نفسه غير قادر على إيفاء الديون، ومضطراً إلى الكتابة، فيتورط في البحث عن طرق يرضي بها حاجته وتساعده على استرجاع آلته.

تتمحور حياة جوي وكارل على الجنس في مدينة منفتحة تبث بصخبها الهدوء فيهما، حيث يكون الجنس وسيلة للبعض وغاية في الوقت نفسه لآخرين، يرى جوي الجنس بوابة إلى ليل باريس، أو يرى باريس في علاقة جدلية مفترضة ميدان مغامراته، يرى بأن الجنس لا يصبح رومانسياً، وخصوصاً عندما يكون موضع بيع وشراء، لكنه يخلق رائحة لاذعة، تدعوك إلى الحنين الذي هو أكثر سحراً وإغواء من درب المتع الأبيض المتلألئ بالأنوار. كما يقول راويه: في الحقيقة، إن الحياة الجنسية تزدهر أكثر في الضوء المعتم الدامس، إنها تعيش وتترعرع تحت الأضواء الخافتة، لا تحت وهج أضواء النيون.

لا يقتصر الفضاء المكاني في الرواية على كليشي كمنطقة محددة في باريس، بل ينفتح على آفاق باريس وأزقتها ومقاهيها، يكون للشانزليزيه نصيب وافر من التجول والحضور، كما يكون لمارينيان حضور طاغ، وبخاصة في القسم الثاني من الرواية، المعنون بـ «مارا مارينيان»، ويدخل من خلال تصوير تلك الأماكن في عوالمها الليلية، يصور بعضاً مما يجري على قوارع طرقاتها، حيث تنقسم باريس إلى مدينتين، نهارية وليلية، لكل منها سمات ومزايا تختص بها.

يقدم صاحب «مدار السرطان» و«مدار الجدي» تجاربَ شخصياته الجنسية بطابع يمزج بين الخلاعة والظرف أحياناً، كما يُجري نوعاً من التداخل بين التطرف والغرابة، وتكون الممارسات الغريبة نتاج واقع مختلف، تتظهر فيه الشخصيات بصور وحالات مختلفة، تتناسب وانفتاح المدينة واشتمالها على اللافت والمختلف والغريـب.. كما أنه يـسعى لتـصويـر الجوع المتغلغل في كل تفاصيل الحياة، الجوع للارتواء من الآخر، امرأة كان أو رجلاً، الجوع للارتواء من الطعام والشراب، الجوع للكتابة... وغير ذلك من حالات.

لا تختلف «أيام هادئة في كليشي» عن طريقة ميللر المعروفة في رواياته الأخرى، وهي توظيف الجنس لدرجة يكاد يطغى فيها على ما سواه من أحداث ومشاهد، إذ تبدو عوالمه مفعمة بالجنس، ويكون له قاموسه الخاص في مقاربة الحالة وتوصيفها. كما أنه يستكمل طريقته في مزج السِّيَرِيّ بالروائيّ، ولاسيما أنه اعتمد ضمير المتكلم، والراوي في الرواية هو كاتب وروائي، حتى أنه يذكّر برواية «الربيع الأسود»، وذلك في إشارة واضحة إلى جانب السيرة في الرواية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الحياة


الاثنين، 1 أغسطس 2016

عودة إلى زمن رسائل الحب.. افتراضيا

الكويتية ليلى البلوشي تتتبع علاقة هنري ميللر بأناييس نن
  
لندن: مريم مشتاوي 
تاريخ النشر: 6 أغسطس 2014


أرادت الكويتية ليلى البلوشي في كتابها «رسائل حب مفترضة» أن تصحبنا معها إلى عالم من الرومانسية والحب بين هنري ميللر الروائي الأميركي والروائية وكاتبة القصص القصيرة أناييس نن عبر رسائل حب مفترضة فجاءت فكرتها سباقة في هذا المجال فقد اعتدنا أن نقرأ رسائل حقيقية بين كتاب وكاتبات عربيا وعالميا ولكننا لم نقرأ سابقا رسائل حب مفترضة.


تمنينا أن نلجأ من خلال كتاب البلوشي إلى زمن «توجد المرأة فيه مرة واحدة في عمر الرجل وكذلك الرجل في عمر المرأة» كما ورد في رسائل غسان الكنفاني لغادة السمان مثلا.

وكنا نود أن نستعيد من خلال هذه الرسائل الزمن الرومانسي.. زمن الرسائل الشعرية المعطرة والمصدقة بالأحمر الأرجواني. زمن التأمل من شرفة الياسمين عند الغروب.. زمن الحب الراقي..

ولكن البلوشي تفاجئنا برسائل حب ليست سوى رسائل سطحية بين متحابين عاديين فكيف يكون الحال إن جاءت هذه الرسائل على لساني كتابين هامين في عالم الأدب أمثال هنري ميللر وأناييس نن.
وهل يعقل أن يعتمد الكاتب الأميركي المشهور الذي «استطاع بمقدرة خاصة ومتميزة أن يجيز التعبير المستحيل، ويفك أسره طوال رحلة كتابته» كما وصفه خليل قنديل، لغة الأصابع والفئران في رسالة حب إلى معشوقته وإن كان كاتبا عُرف بالعبثية.

وهل يمكننا أن نتخيله قائلا: «أصابعي التي كنت تتمرسين في تقبيلها إصبع الخنصر البنصر الوسطى السبابة الإبهام... إن خنصري الذي تفرطين في تدليله وتتغزلين به إنه أشبه ببرج صغير تمرح عليه الفئران... أم الفئران عينها حامت فوقه وأكلت قطعة منه ولكن بقي منه جزؤك المفضل.

إن قارئ هذه الفقرة لا يمكنه أن يشعر بغير سوء الهضم.

ولا تترك لنا البلوشي مجالا للمقارنة بين رسائلها المفترضة ورسائل الحب الحقيقية، بالرغم أن الرسائل المفترضة لا تستند إلى وقائع الحياة، ويمكنها أن تحلق عاليا في عالم الإبداع والخيال الجميل. وعلى سبيل المقارنة، لنبتعد قليلا عن رسائل ميللر وأناييس بن المفترضة، أو، في الحقيقة، رسائل ليلى البلوشي، وننتقل إلى عالم جميل ومختلف كل الاختلاف عن عالم البلوشي، كما في هذه السطور من رسالة جبران لمي، اللذين لم يلتقيا قط، وبمعنى من المعاني أنهما حبيبان مفترضان أيضا:

«نحن اليوم رهن عاصفة ثلجية جليلة مهيبة، وأنت تعلمين يا ماري أنا أحب جميع العواصف وخاصة الثلجية، أحب الثلج، أحب بياضه، وأحب هبوطه، وأحب سكوته العميق. وأحب الثلج في الأودية البعيدة المجهول حتى يتساقط مرفرفا، ثم يتلألأ بنور الشمس، ثم يذوب ويسير أغنيته المنخفضة.
أحب الثلج وأحب النار، وهما من مصدر واحد، ولكن لم يكن حبي لهما قط سوى شكل من الاستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع. ما ألطف من قال:

يا مي عيدك يوم وأنت عيد الزمان».
الأمر الآخر، إنا كنا نتوقع أن تذكر كاتبتنا أسماء بعض الكتاب الذين استوحت أقوالهم بشكل مباشر أو غير مباشر ولكنها تجاهلت هذا الأمر في كتابها.
فعلى سبيل المثال تقول الكاتبة: «وأضيفي بثقة: لست مقعدا شاغرا في قطار فإن جئت متأخرا ولم تجدني فلا تلق اللوم سوى على تأخيرك..».
ألا تذكرنا هذه السطور بما كتبته غادة السمان: «لا تعد فحبي ليس مقعدا في حديقة عامة! تمضي عنه متى شئت.. وترجع إليه في أي وقت».
وفي موضع آخر تذكر في كتابها: «والحب أفضل عملية شد وجه».
وهنا يحضرنا قول أحلام مستغانمي في «ليفتينغ النسيان»: «إن كان الحب هو أفضل عملية شد وجه، فإن أفضل كريم ضد التجاعيد هو النسيان».
وكذلك تقول البلوشي: «أحبك... أحبك كنهر لا مصب له». وهنا يطل علينا باولو كويلو بقوله:
«حب لا اسم له أو تفسير، كنهر يعجز عن تفسير جريانه في مسار محدد، وإنما يجري قدما ببساطة... يمكن لي أن أقول بصراحة: أحبك، أحبك، أحبك».
مما لفت انتباهنا أيضا عدم ربط الأفكار ببعضها بشكل منطقي.

ففي الوحدة السابعة تشير الكاتبة إدراك اليابانيين بأهمية الصوت وطريقة إنقاذ النفس من الخطر بالوسيلة اليابانية «وهي أن تطرق صرخة مهولة كي تهز السيف من يد خصمك فيسقط». وتستطرد قائلة: «يا لها من وسيلة للفرار من قدر قد يكلفنا حياتنا.. لا أعرف كيف أتفاعل مع هذا العالم الآثم في غيابك فصوتك يمنحني التقوى». ما هي الفكرة التي أرادت تقدمها البلوشي بالربط بين وسيلة اليابانيين بالدفاع عن النفس بالصراخ وبين التقوى التي يمنحها صوت الحبيب؟ يغيب الترابط الفكري هنا بين هذه السطور فيتيه القارئ في دائرة مفرغة.

لقد استعرضت الكاتبة، من خلال هذه الرسائل الافتراضية، عضلاتها الثقافية فنجد استشهادات كثيرة تقريبا في أغلب صفحات الكتاب مع عدم الإشارة إلى مصادرها في معظم الأحيان.

وتكمن الكارثة بالأخطاء اللغوية المتراكمة حتى الغلاف الأخير الذي يعد واجهة أساسية للكتاب، فكتب البلوشي: «يحبها لأن لها عينان جميلتان كأيقونتان». فكيف لكاتبة أن تخطئ وتجعل اسم أن مرفوعا وترفع الاسم المجرور! ثلاثة أخطاء نحوية متتالية في جملة واحدة! وتقول أيضا على الغلاف: كي يعتشي! لا وجود لكلمة يعتشي باللغة العربية ربما قصدت الكاتبة كلمة «يعتاش».
وتبدأ فقرة أيضا بقولها: فحسبما احترام الرجل لنفسه... كلمة فحسبما ليست موجودة في قاموس اللغة العربية أيضا فالأصح أن تستخدم كلمة: فحسب.

لو تعمقت البلوشي بشخصيتي الكاتبين وتقمصتهما كما يفترض بشكل شاعري، وإنساني أيضا، لجاءت رسائلها ربما مكثفة بمشاعر أقرب لحقيقة هذين الكاتبين، ولكانت صورها الخيالية أكثر تأثيرا.. وكما قال هنري ميللر نفسه: «الخيال والابتكار هما الخامة الأساسية للحياة».
وربما لو استخدمت شيئا من الرمزية أيضا لأعطت الرسائل معنى أعمق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الشرق الأوسط