عباس بيضون
جريدة السفير بتاريخ 09-08-2016
بول أوستر الروائي
الأميركي الذي بدأ شاعراً، وصار في ستيناته لا ينظم الشعر إلا في المناسبات
العائلية كما يقول في روايته «حكاية الشتاء»، لا يطلعنا على سر عنوانه للرواية إلا
في فصلها الأخير. الشتاء هنا شتاء العمر، والروائي الذي ولد 1947 لا يشك في أنه
بلغ هذا الشتاء، أو أنه، على الأقل، على حافته وهو في روايته يروي لنا المسيرة
التي حملته إلى هذا الشتاء.
رواية بول أوستر كما نفهم سيرة ذاتية،
سيرة ذاتية وليست مذكرات. إذ أننا لا نقع هنا على مسار منتظم يتابع هذه السيرة
مرحلة مرحلة وعاماً بعد عام أو حادثة تلو أخرى. ما نقرأه لدى بول أوستر يشبه أن
يتناول السيرة كمجموعة مواضيع، بل مجموعة ديناميات. لا نجد هنا تسلسلاً لكننا نجد
حياة كاملة يتوغل الكاتب في أطرافها وتفاصيلها ويبني من داخلها سياقات خاصة. كأن
ما يفعله بول أوستر هنا هو تناول حيوات في حياة ومسارات داخل بيئة كاملة. لذا لا
نجد تتابعاً زمنياً ولا تتابعاً مكانياً. الروائي يكتب تداعيات منظومة. انه ينتقل
في الأزمنة والأمكنة والمناسبات والمواضيع. ينتقل ذهاباً وإياباً وبوقفات طويلة
وحراك في صعود وهبوط. الأشياء تستدعي بعضها وتسفر عن بعضها وتخرج من بعضها. ما
نقرأه هو نشر هذه الحياة على عرض الكتاب وطوله، نقرأ في الصفحة 6 «حقيقة أنك لم
تعد شاباً لا تقبل الجدل فبعد شهر سوف تبلغ الرابعة والستين» لكننا نقرأ في الصفحة
المقابلة «ها أنت في الخامسة» وبين الصفحتين كلام من مثل «كيف لفحت الريح وجهك حين
هبت العاصفة الثلجية الشديدة في الأسبوع الفائت» يلي ذلك كلام عن نثريات الحياة
ومتعها من الواضح انه بلا عمر. هكذا ننتقل في صفحتين بين لحظات تعود إلى أزمنة
شتى. مع ذلك نكاد نشعر أن هذا التفرق وهذه البعثرة هما اللذان يمنحان الكتاب
هيكلاً ووحدة وبنياناً لا نجدها بالتأكيد في التسلسل الزمني. هنا تبدو الحياة حقاً
وحدة تجربة بل وتجارب، تبدو وقد انتظمت في فعاليات واختبارات، تبدو كأنــــها
تستمد وحدتها وانتـــظاماتها من اندفاعات داخلية ومن سياقات جــوانية ومن تجارب
متصلة.
سنتابع تداعيات النص ونجده يقفز من عمر
إلى عمر، ومن تفصيل إلى تفصيل، ومن ملاحظة إلى ملاحظة، وبالطبع سنقع على إيحاءات
دائمة. بول أوستر اليهودي الذي هاجر أهله إلى أميركا يذهب بعيداً في نصه، الذي ليس
طويلاً، يذهب إلى أهله، إلى أجداده وإلى أمه وأبيه. كما يتكلم بالدرجة نفسها عن
زوجته التي هي كذلك من ثلاثين سنة. يتكلم عن أهلها وعن ماضيها، وعلينا أن ننتقل
بمتعة حقيقية من ندوب الطفل والفتى التي حملها من تعثرات وشجارات، إلى شجرة
العائلة، إلى عشرات البيوت التي أقام فيها، وحده أحياناً وأحياناً مع زوجته الأولى
والثانية. بيوت لا يكتفي بوصفها المعماري والهندسي، إنما نتسلل معه إلى حياته فيها
لنشعر أن هذا العبور بين عشرات البيوت إنما هو عبور داخل حياة، قد لا نرى دقائقها
وقد لا نتميز عادياتها، فبول يعطي للتفاصيل العابرة حضوراً نموذجياً. بول لا يرجع
إلى العاديات والنثريات إلا بعد أن يحولها إلى إشارات وإلى إيحاءات. انها ترد في
نصه بعصب وزخم يجعلانها أكثر من روتينيات وحوادث دارجة ويومية. التفاصيل هذه هي
بحد ذاتها صور، إنها في الوقت ذاته أحاسيس ورموز وإشارات. هكذا يبدو الكاتب الذي
بدأ شاعراً قريباً من أن يكون هذا الشاعر في سرده. هكذا نجد أن الغرف التي آوى
إليها عشرات المرات وتبدلت عشرات المرات إنما هي موجودات حية، ونجد فيها، واحدة
بعد أخرى، آثار حياة، بل نجد فيها أكثر من ذلك مطارح كره وحب وغضب وتسامح. ينشر
بول أوستر حياته على هذه المباني فنجدها تتململ مختفية مضمرة فيها، فهذه الحياة
تنبع من كل شيء، وتحل في شتى الموضوعات.
«حكاية الشتاء» أيضاً كتاب حب، لا نتوقف
فقط أمام الصفحات التي كرسها لغرامياته، الناجحة والفاشلة، فبول الذي يقول انه
بارع في اختيار ما لا يناسبه يتوقف طويلاً وفي صفحات كاملة أمام حب حياته، زوجته
التي يكتب عنها فصلاً يكاد يكون قصيدة، منذ التقيا وكيف عاشا برهة معاً قبل أن
تطلب منه أن يتزوجها «لم تكن من نسج الخيال، لم تكن إسقاطاً لتخيلاتك الباطنية بل
شخصاً حقيقياً... لم يكــن لديك مجال لتحويلها إلى شــــخص لم تكنه. أي من
بنـــــات أفكارك أو نتاج خيالك كما فعلت بنساء أخريات في الماضي».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق