هيثم حسين
تاريخ النشر: 07 كانون الثاني 2013
يحكي الأميركي هنري
ميللر (1891- 1980) في روايته «أيام هادئة في كليشي»، (ترجمة خالد الجبيلي، الجمل،
بيروت2012)، حكاية كاتبين أميركيين عاشا معاً في باريس في أواخر النصف الأول من
القرن العشرين، يصور بعضاً مما تخلل تلك المدة من مغامرات استثنائية غريبة قاما بها،
وذلك من خلال توصيف الظروف العامة للمدينة التي كانت تضج بالجديد والمختلف.
يتتبع الكاتب سيرة
بطليه جوي وكارل خلال إقامتهما في باريس، وكيف أنهما كانا يوقفان كل شيء لديهما
للانكباب على الجنس والاستزادة منه، وذلك في سعيٍ مجنون منهما للارتواء منه،
ومحاولة تجريب مختلف الأنواع والحالات، وأثناء ذلك يكون الكشف المواكب عن الوجه
السافر للمدينة، وجه القبح المتنامي داخلها، بالتوازي مع بعض حالات القهر
الاجتماعي والإنساني..
يكون جوي هو الراوي
المتماهي مع الروائي، يروي حكاياته مع عدة نساء، يقتنص بعضهن من الملاهي، وبعضهن
من الشوارع، يحترف حياة الليل، يصرف كل ما يصله من نقود على ملذاته الشخصية، يرتهن
للبحث عن اللذة التي يجدها في ممارسات غريبة أثناء علاقاته.
الجنس يكون محور
العلاقة التي تربط جوي وكارل بباريس، تدخل المرأة كطرف المعادلة الأهم، تضفي على
العوالم الحيوية والتجدد، إذ إن جوي ينتقل من امرأة إلى أخرى، لا يكتفي بحب أو
ممارسة، ينبش بهوس شبه مرضي عن إرواء شبقه، وما إن يخمن أنه عثر على ضالته حتى
يكاد ينتقل إلى أخرى. أثناء تنقلاته السريعة، وعلاقاته العابرة، يكتشف البؤس القار
في دواخل النساء اللاتي يتعرف إليهن، يحرص على معاملتهن بطريقة لائقة، دون الحط من
شأنهن، ما كان يبديه غريباً في نظرهن، ولاسيما أنه كان جذاباً لهن باعتباره
أميركياً، وكانت لهجته الفرنسية موضع تودد تارة، وموضع سخرية وازدراء تارة أخرى..
ويكون لكل واحدة طريقة في التعامل والتفكير، بحيث يقدم من خلال أولئك الفتيات
نماذج للمرأة الباريسية بمختلف حالاتها وأطوارها، ومن أعمار متباينة.
الأيام التي يصفها
الكاتب بالهادئة في كليشي، لم تكن بذاك الهدوء، بل كانت صاخبة تضج بالمغامرة
والجنون، كانت منطقة كليشي بشوارعها وساحاتها مسرحاً للأحداث التي عاشها الصديقان،
حيث شقة صغيرة تحتوي على أثاث بسيط لا يتناسب وحالة الصخب والضجيج التي يعيشانها.
ولم يكن الهدوء سوى غطاء لتمرير الجنون، أو أن الذاكرة تهدئ الصخب والضجيج بعد
مرور سنوات على الوقائع، بحيث تبدو أنها كانت بغاية الهدوء والرتابة.
يصف جوي صديقه كارل
بأنه كان دائم الحرص على الاحتفاظ بمبلغ معين يخفيه في كتاب فاوست في مكتبته، ولا
يقربه ولو كان بأمس الحاجة إليه، لذلك كان جوي يسطو عليه بين الفينة والأخرى.
وكانت المشكلة المستعصية حين يكون كارل بدوره محتاجاً إلى المال، كجوي تماماً،
لذلك لم يكن لديه أي سبيل للتحصل على المال كل مرة يظل فيها مفلساً، إلا أن يرهن
آلته الكاتبة التي يعتني بها أيما عناية، ليعمل جاهداً على استرجاعها، وفي بعض
الأحيان يجد نفسه غير قادر على إيفاء الديون، ومضطراً إلى الكتابة، فيتورط في
البحث عن طرق يرضي بها حاجته وتساعده على استرجاع آلته.
تتمحور حياة جوي
وكارل على الجنس في مدينة منفتحة تبث بصخبها الهدوء فيهما، حيث يكون الجنس وسيلة
للبعض وغاية في الوقت نفسه لآخرين، يرى جوي الجنس بوابة إلى ليل باريس، أو يرى
باريس في علاقة جدلية مفترضة ميدان مغامراته، يرى بأن الجنس لا يصبح رومانسياً،
وخصوصاً عندما يكون موضع بيع وشراء، لكنه يخلق رائحة لاذعة، تدعوك إلى الحنين الذي
هو أكثر سحراً وإغواء من درب المتع الأبيض المتلألئ بالأنوار. كما يقول راويه: في
الحقيقة، إن الحياة الجنسية تزدهر أكثر في الضوء المعتم الدامس، إنها تعيش وتترعرع
تحت الأضواء الخافتة، لا تحت وهج أضواء النيون.
لا يقتصر الفضاء
المكاني في الرواية على كليشي كمنطقة محددة في باريس، بل ينفتح على آفاق باريس
وأزقتها ومقاهيها، يكون للشانزليزيه نصيب وافر من التجول والحضور، كما يكون
لمارينيان حضور طاغ، وبخاصة في القسم الثاني من الرواية، المعنون بـ «مارا
مارينيان»، ويدخل من خلال تصوير تلك الأماكن في عوالمها الليلية، يصور بعضاً مما
يجري على قوارع طرقاتها، حيث تنقسم باريس إلى مدينتين، نهارية وليلية، لكل منها
سمات ومزايا تختص بها.
يقدم صاحب «مدار
السرطان» و«مدار الجدي» تجاربَ شخصياته الجنسية بطابع يمزج بين الخلاعة والظرف
أحياناً، كما يُجري نوعاً من التداخل بين التطرف والغرابة، وتكون الممارسات
الغريبة نتاج واقع مختلف، تتظهر فيه الشخصيات بصور وحالات مختلفة، تتناسب وانفتاح
المدينة واشتمالها على اللافت والمختلف والغريـب.. كما أنه يـسعى لتـصويـر الجوع
المتغلغل في كل تفاصيل الحياة، الجوع للارتواء من الآخر، امرأة كان أو رجلاً،
الجوع للارتواء من الطعام والشراب، الجوع للكتابة... وغير ذلك من حالات.
لا تختلف «أيام هادئة
في كليشي» عن طريقة ميللر المعروفة في رواياته الأخرى، وهي توظيف الجنس لدرجة يكاد
يطغى فيها على ما سواه من أحداث ومشاهد، إذ تبدو عوالمه مفعمة بالجنس، ويكون له
قاموسه الخاص في مقاربة الحالة وتوصيفها. كما أنه يستكمل طريقته في مزج
السِّيَرِيّ بالروائيّ، ولاسيما أنه اعتمد ضمير المتكلم، والراوي في الرواية هو
كاتب وروائي، حتى أنه يذكّر برواية «الربيع الأسود»، وذلك في إشارة واضحة إلى جانب
السيرة في الرواية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق