الجمعة، 15 يوليو 2016

ماربروك منتصرًا للكتاب المهاجرين: المؤسسة الثقافية البريطانية ما تزال تعاني من رهاب الآخر

روائي وشاعر أميركي يتهمها بالتمييز بسبب كاتب عراقي
لندن: ندى حطيط

جلول ماربروك ­ غلاف الكتاب


ما زال إقصاء الآخر وانعزال النخبة الثقافية والأكاديمية البريطانية٬ يرخيان بظلالهما على منهجية التعامل مع المبدع القادم من بحور ليست إنجليزية الجينات الموروثة من زمن الإمبراطورية٬ التي تغيب عنها الشمس اليوم أكثر من أي وقت مضى لإصرارها على الانفصام بين مؤسسات بنيتها الفوقية وبين شارعها٬ وبين احتضانها للآخر بشرط غير معلن يتجلى في عدم رفع الإصبع على مناطق ومساحات محرمة.

 استفزتني مقالٌة كتبها جلول ماربروك (أو مبروك) ­ وهو رئيس تحرير مجلة «الأرابيسك ريفيو»٬ وشاعر وروائي وصحافي أميركي حاصل على جوائز كثيرة في الشعر. وقد ولد في الجزائر عام 1934 لأب جزائري بدوي وأم رسامة أميركية ­ بشأن البرود اللامعقول الذي تعاملت به المؤسسة الثقافية البريطانية تجاه دراسة نقدية غير تقليدية لتراث الشاعر البريطاني المعروف فيليب لاركن الحائز على جائزة الملكة للشعر٬ وربما واحد من أهم شعراء بريطانيا في القرن العشرين كتبها ناقد عراقي مهاجر إلى المملكة المتحدة٬ معتبًرا أن هذه المؤسسة ما زالت تعاني من رهاب الآخر وتمارس سلوًكا شبه عنصري يكاد ينتمي إلى عصور الاستعمار والإمبراطورية ­ استفزتني المقالة٬ إذ أحسست دوًما بأننا نحن البريطانيين ­ المنحدرين من أصول عربية من المهاجرين وفي عصر العولمة والقرية العالمية ­ ما زلنا نواجه ما يشبه جداًرا عازلاً زجاجًيا في محاولتنا الدائمة للاندماج داخل المشهد الثقافي البريطاني. كنت أعتبر أنني ربما أميل للمبالغة بعض الشيء وكثيًرا ما اتهمت نفسي بالحساسية المفرطة تجاه أي سلوك عنصري. إلا أن مقالة ماربروك ­ التي انتصرت للناقد العراقي/ الشاعر والأديب فاضل السلطاني ­ قد أعادت تذكيرنا جميًعا بالواقع المظلم لحقيقة الاندماج الثقافي في المجتمع البريطاني عموًما٬ والأجواء الثقافية خصوًصا. بالطبع٬ فإن هذا الشعور بالانفصال كما العزلة عن أبراج الثقافة البريطانية ليس مقتصًرا بحال على ذوي الأصول العربية٬ بل ويشترك فيه معنا مثقفون بريطانيون من أصول أجنبية ومهاجرون من أفريقيا والهند والكاريبي وأميركا الجنوبية. هل تذكرون صدمة الروائية البريطانية (من أم بريطانية ووالد سيراليوني) أميناتا فورنا عندما ألقت محاضرة في معقل الثقافة البريطانية في جامعة أكسفورد وأرادت أن تبحث عن روايتها في المكتبة هناك فوجدت أنها مصنفة تحت الأدب الأفريقي في قسم الدراسات الأفريقية فكتبت تتساءل في الـ«غارديان»: «كيف لا توجد نسخ من كتبي في مكتبة الجامعة العامة وأنا ولدت أحمل الجنسية البريطانية ولغتي الأم هي الإنجليزية؟»

لا شك بأن المجتمع البريطاني تغّير خلال العقود الأخيرة٬ إذ أصبح أكثر تسامًحا وتقبلاً للثقافات الأخرى كما للفئات المختلفة. ويعود ذلك لأسباب كثيرة أقلها غلبة الثقافة المعولمة بفضل تطورات تكنولوجيا الاتصال وسهولة الانتقال عبر القارات٬ الأمر الذي فرض على معظم الشعوب الغربية بأن تشرع أبواب قلاعها المشيدة للثقافة الأميركية الناعمة ومعها تلوينات الثقافات الأخرى بوصفها جزًءا من التنوع الفلكلوري الذي يناسب حالة ما بعد الحداثة وعدالة الإمبراطورية الصاعدة. لكن رغم هذه الخطوات الملحوظة٬ فإن المؤسسة الثقافية والأكاديمية ­ في مجملها ­ ما زالت تعيش أجواء متأخرة بما لا يقاس وكأننا نتعاطى في عالم الأدب مع المندوب السامي المعين لإدارة شركة الهند الشرقية بكل ما في ذلك من رمزية.

هكذا يتخلى قطاع عريض من المثقفين والأكاديميين البريطانيين عن أدوارهم المفترضة في قيادة وتشكيل وعي الأكثرية٬ إذ يحيون ­ بوعي أو بلا وعي ­ أسوأ ما في التراث البريطاني من تصورات وآراء عن العالم الخارجي وعن الآخرين القادمين من هنالك عبر البحار٬ وكأنهم ­ كما وصفهم غرامشي ­ حراس وجهة نظر الطبقة المهيمنة على العالم في مواجهة رواية الطبقات والمجموعات الأخرى .
الخاسر هنا في النهاية هو الأدب والتجربة الإنسانية العالمية ومستقبل ثقافة الشعب البريطاني ذاته قبل أن تكون خسارة للسلطاني أو فورنا أو غيرهما من الكتاب والأدباء والشعراء الذين اقتحموا شواطئ الجزيرة البريطانية يحملون فكًرا وأقلاًما وتجارب إنسانية مختلفة.

السلطاني ­- وفق ماربروك -­ قدم أطروحة أكاديمية رصينة عن الشاعر لاركن اعتبرها قراءة استثنائية تقارب أعمال الشاعر من منظور مبتكر يتسم بالحرفية ويختلف عن القوالب والقراءات التي درجت الكتلة الثقافية البريطانية على استخدامها لتعريف لاركن وهو ما أشعرها بالارتباك فواجهته بالإهمال والتجاهل: «فكيف يجرؤ مهاجر عراقي أن تسول له نفسه بالاعتقاد بأنه يمكن أن يفسر شاعًرا بريطانًيا للبريطانيين!٬ ليس ذلك فحسب بل إنه يجعل من لاركن لا منتمًيا وخارًجا عن اللغة والثقافة المحلّية رغم أنه ­ أي لاركن ­ يصنف٬ وفق التصور التقليدي السائد في الأوساط الثقافية البريطانية٬ عنصرًيا وانعزالًيا في نظرته إلى الآخر. ماربروك في مقالته الجريئة ­ وهو ذاته ضحية التصورات المسبقة بسبب انتسابه لأب جزائري وأم أميركية ­ يطرق الجدار العازل غير المرئي للمؤسسة الثقافية البريطانية في محاولة لتسمية الأسماء بمسمياتها٬ لكن تلك تبدو وكأنها صرخة ذئب منفرد أكثر من كونها اتجاًها عاًما لبناء مقاربة أخرى في التعاطي مع الأعمال الأدبية دون النظر في هوية كاتبها.

  هذا ما يثير قلقي كمعنية بالشأن الثقافي في هذا المجتمع٬ لأن ذلك يعني أن روح المحافظة والرغبة في الانعزال من منطلق عقدة التفوق ­ التي إن كانت مبررة عندما كانت إنجلترا نواة الإمبراطورية٬ أصبحت الآن تفتقد لأبسط مبررات الوجود بعد أن عادت مجرد جزيرة صغيرة على طرف أوروبا ­ هذه الروح ستكرس مناًخا يحاصر الإبداع ويقتل الاختلاف في الوقت الذي يتحول فيه العالم من حولنا إلى مسرح واحد ­ تقريًبا ­ تعيش على خشبته الإنسانية تجربتها الأعلى تاريخًيا٬ والشواهد كثيرة من حياتنا اليومية في بريطانيا: تولي المحافظين السلطة بالأغلبية٬ البطالة في أوساط البريطانيين الملونين٬ الحوادث العنصرية في المؤسسة الأمنية٬ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي٬ الخوف الهستيري من تدفق اللاجئين إلى أوروبا والسقوف اللا مرئية لتقدم الأقليات والنساء والانقسام الطبقي٬ لا بل وإمكانية تبعثر اتحاد المملكة المتحدة نفسه بسبب تصاعد النزعات الاستقلالية في اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية. هذه ليست عوامل منعزلة كما يخشى كثير من المراقبين، بل هي حالة متكاملة ومناخات عامة من الانعزالية تستمر سلطات الثقافة والمثقفين في إعادة إنتاجها وتقديمها كأطباق باردة لجمهور يريد شيًئا جديًدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق