الخميس، 14 يوليو 2016

شتاينبك والحلم الأمريكي


تاريخ النشر: 05-06-2007


جون إيرنست شتاينبك (1902-1968)، كاتب أمريكي فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1962، عكست أعماله الروائية التزاماً روائياً عميقاً بآلام العمال المزارعين. هؤلاء الذين اضطروا للكفاح بشكل متواصل وعنيد ليقتربوا من وهم الحلم الأمريكي، حلم الحياة المرفهة. 
ومن خلال تصوير هذا الصراع القاسي يبرز شتاينبك الكرامة الكامنة في نفوس الفقراء والمضطهدين، مصراً على التعاطف مع أبطاله في عالمهم القاسي المذل والساحق لإنسانيتهم. 

ولد شتاينبك في ساليناس / كاليفورنيا ودرس في جامعة ستانفورد. كما زاول في شبابه مهناً متعددة، من عامل في مزرعة وقاطف فاكهة إلى موزع صحف.. وهذا ما لوَّن أعماله بخبرة إنسانية واسعة صبغت نتاجه الأدبي بطابع اجتماعي عميق أطلق عليه (الالتزام الاجتماعي). 

في روايته الأولى (كأس الذهب) (1929) يبين شتاينبك كيف تشكلت الثروات الأولى في أمريكا،واكتست بألقاب النبالة الرفيعة، من خلال قصة القرصان الويلزي الشهير هنري مورغان، الذي كان الأسطورة الأهم في تاريخ القراصنة الأسود. 

بدأ مورغان حياته قرصاناً ينهب الإسبان وانتهى قاضياً يشنق القراصنة في بورت رويال. وقد انطلق من إيمانه بأن المعركة والتكتيكات الناجحة ليست أكثر من احتيال منظم. وبعد أن كنز الأموال الضخمة من النهب والسلب، اشترى لقب السير من ملك إنكلترا وغدا نبيلاً لأجل اكتساب المزيد من المال والتقدم، فالنزاهة العموميةبرأيه ربما تكون سلماً إلى جريمة أثمن، أعلى، والصدق وسيلة إلى مداهنة أكثر مكراً. والثمن الوحيد الذي دفعه هو عدم ثقته بنفسه وتحوله إلى عدة أشخاص بعد أن كان شخصاً واحداً. وهذا سببه التمدن الذي يشطر الشخصية. 

عام 1932 كتب (مراعي السماء) وهي مجموعة قصصية قصيرة تصور مزارعي كاليفورنيا المهاجرين، وقد شكلت هذه القصص نقطة انطلاق لقضية ارتباطه بالكادحين والفقراء التي جسدها بالقضايا الاجتماعية المطروحة في معظم أعماله. 

يواصل شتاينبك في رواية (البحث عن إله مجهول) (1933)، تصويره للمزارعين المهاجرين ولكن من خلال موضوع أوسع وهو علاقة الإنسان الحيوية بالأرض. 

فجوزيف بطل الرواية هاجر مع أسرته الكبيرة، ليعيد تأسيس الحياة في مكان آخر بعد أن ضاقت به السبل، معتبراً أن الوطن عبارة عن بيوت تبنى وأطفال يولدون وقبور تحفر.والطفل تحديداً هو البرهان على تبعيتنا للأرض، على استقرارنا وعدم كوننا غرباء في المكان الذي اخترناه أو اختارنا. 

توحد جوزيف مع الأرض جعله رمزاً جباراً لروح الأرض العاتية: (وبدا له جسمه كالأرض بما عليها، ثابت، راسخ في القدم منذ ملايين السنين، فيه قوة تدك المدن وتحرق الغابات وتميت الأرض بأن تحولها... فالأرض هي الحياة، وجسده هو الأرض.) 

أزمة الجفاف التي تهدد أرضه تدفعه لأن يضحي بنفسه في سبيلها، فتتحلل روحه وتتحد مع شيء لايدرك كنهه، فيتصور لدى هطول المطر الغزير بعد طول انحباس: (أنا هو المطر، وأنا هي الأرض، ومن دمي سينبت الحشيش، فتثقل به سفوح التلال.). 

غرابة الموضوع المطروق في هذه الرواية يلفت النظر إلى تميز شتاينبك عن غيره من أدباء عصره. فهو يسعى دوماً للتجديد متجنباً تكرار نفسه أو تقليد سواه. ورغم التنوع في مواضيعه وحيويتها إلا أنها تلتزم دوماً المسار الاجتماعي الذي اختطه لنفسه منذ بدايته. 

ومن تعاطفه مع الأمريكيين ذوي الأصول المكسيكية في(شقة تورتيلا) (1935) إلى (الفئران والرجال) التي يختزل فيها معاناة مزارعَيْن يداعب خيالهما حلم امتلاك مزرعة، بمأساة أليمة تزيد من وطأة القهر والظلم على النفوس.

بينما يتخذ هاجس الحلم الأمريكي الذي ينطبع في مخيلة المواطن منذ يفاعته،يتخذ بعداً قاسياً في روايته (عناقيد الغضب) (1939) التي نال عنها جائزة بوليتزر(1940).فأزمة الكساد الاقتصادي في الثلاثينيات، التي ابتدأت في الجنوب وعمت الولايات المتحدة الأمريكية كلها، دفعته لتأليف هذه الرواية الهامة: (واجهت الجنوب بالفزع. فهناك عرفت الألم والتشويش وكل ما ينتج عن الحيرة والخوف من هوس. فالجنوب هو الترهل الذي أصاب الأمة. ومنه تعمم الألم إلى كل أمريكا.). 

هذه الرواية أثارت جدلاً واسعاً لدى صدورها، فقد خلقت إحساساً وطنياً عارماً لتصويرها التأثيرات المدمرة للكساد الأعظم في الثلاثينيات والعديد من القراء صدموا بالفاقة ويأس القصة، بينما أنكرها الآخرون معتبرين أن ظروفاً كهذه لا يمكن أن تحدث في أمريكا. والبعض الآخر طالب بإحراقها علناً. وكل ذلك جلب للرواية شهرة توازي شهرة رواية ذهب مع الريح لمارغريت ميتشل 1936. إضافة إلى ذلك كرست عناقيد الغضب شتاينبك باعتباره كاتباً مكافحاً تمكن من إثارة نقاش وطني عارم حول مشكلة العمالة المهاجرة. 

طرح شتاينبك العديد من المفاهيم في هذه الرواية الملحمية، منها إيمانه بكمال الإنسانية وعالمية الروح التي تتجلى خلال العمل الاجتماعي.وتأطير الصمود باعتباره الوسيلة الأكثر فاعلية للبقاء ضد الظلم والاستغلال. مع ما يستلزمه ذلك من تطوير للشفقة تجاه إخوة مشتركين معنا في الوجود الإنساني. 

ترصد الرواية مسيرة عائلة تواجه الموت، والحرمان، والمعاناة في سبيل تحقيق حلم الحياة المرفهة. وخلال هذه الرحلة يتطور وعي البعض فيولد الأمل الذي يساهم في تطوير الشعور الجماعي. مما يستدعي وجود التفاؤل الذي يرى الكاتب أنه السبب الأساسي في بقاء الناس: (لأنهم يريدون فهم وإتقان حياتهم تجاه الإحباط المستمر.) 

يبين شتاينبك أن إحدى أكثر الدروس المستمدة من قصة عائلة جود ونظرائهم الأمريكيين تتمثل بالتعصب الاجتماعي تجاه المهاجرين، وهو أحد أسباب أزمة الثلاثينيات في كاليفورنيا. بينما عكس خوف المهاجرين قلة إيمانهم بقدرة الحكومة على حل المشاكل المؤقتة، وهذا ما أدى أيضاً إلى اندلاع العنف، المجاعة، سوء التغذية، التشرد. وحلت المشكلة آنذاك بامتصاص القوة البشرية في المجهود الحرب،ي أي أن الحرب العالمية الثانية غطت عجز حكومة كاليفورنيا عن تطوير حلول طارئة للفترة الحرجة من الانتقال الاجتماعي العظيم.

كما يبرز شتاينبك من خلال عناقيد الغضب غريزة الفرد لتنظيم الجاليات ضمن مجموعات، ليجعلهم يمرون بمعاناة تصقلهم وتكسبهم مناعة وصلابة في التغلب على همهم الخاص وحاجاتهم الفردية، فيتحررون من وهم الأنا وينصهرون في بوتقة نحن. وهذا ما يسميه شتاينبك بالوعي. وهو ما ألصق بالرواية تهمة الدعاية للشيوعية. 

في (شارع السردين المعلب) 1945: أحياء الصفيح وقصص لا تنتهي عن أناس هاجروا من شتى بقاع العالم لتحقيق الثراء، فوجدوا أنفسهم على هامش المجتمع، ويجمعهم ويوحدهم البؤس ضمن حلم إنساني غريب: (قصيدة ونتانة وضجة ذات صرير ودرجة من الضوء ونغم وعادات وحنين إلى الوطن وحلم من الأحلام في آن معاً.). ومن الإجحاف الذي يلقي بثقله على المهاجرين ويغرقهم بالكراهية إلى الأقصوصة المسرحية (العاقر) التي يقترب فيها من فكرة جريئة جداً لكنها تقع أيضاً في محيطه الاجتماعي العام الذي يمجد العائلة وانتماءها الأكبر للإنسانية، من خلال تصارع الضعف الإنساني والقوى القاهرة. 

فبطل هذه الأقصوصة جو شاوول امتحن في أعز ما يملأ عليه غروره وكبرياءه فتضعضع كيانه واهتز، إلى أن أيقن: (أن الذي يجب أن يبقى هو معرفتي، أجل المعرفة الطويلة المتذكرة، المكررة، الكبرياء، الدفء والصحبة والحب حتى تزول الوحشة التي نرتديها وكأنها ملابس مثلوجة.). 

شاوول حين يستشف المخرج يوقن أن الشعلة مستمرة ويجب أن تبقى كذلك، وفي هذا يعكس شتاينبك تفاؤله الباعث على الأمل والذي يتكرر من رواية إلى أخرى: على الرغم من أهوالنا جميعاً، وأخطائنا جميعاً فإن ثمة تألقاً في مكان ما من أنفسنا. هذه هي أهم الحقائق جميعاً،إن فينا تألقاً.(. 

منح شتاينبك جائزة نوبل عام 1962 فتوجت مهمته ككاتب ملتزم اجتماعياً ومعني بالكفاح الإنساني العنيف ضد الفقر والظلم والإجحاف. 

لدى تسلمه الجائزة بين أن مهمة الكاتب لم تتغير فهو متهم بالتعرض للعديد من عيوبنا وحالات فشلنا الشديدة وتسليط الأضواء على الجانب الأخطر والأكثر إظلاماً من أحلامنا، بحجة التطوير والتحسين.

ولكن الكاتب الذي أعلى نضال الإنسان ضد العنف والقسوة ودعم الشفقة والأمل والتفاؤل والحب واحتفى في قاعة نوبل (بقدرة الإنسان المثبتة لعظمة القلب والروح ـ الكياسة في الهزيمة، الشجاعة والشفقة والحب في الحرب اللانهائية ضد الضعف واليأس).هو نفسه الذي اعتزل الأدب وانصرف إلى العمل الصحفي مكرساً نفسه لمتابعة أمور الحرب في فيتنام مما جعل الناس يتهمونه عام 1967 بأنه (صقر) أي من دعاة الحرب ومشعيلها.

ربما هي الاستراحة التي لم يحظ بها يوماً في كفاحه أناخت بثقلها عليه في النهاية: (بعد سنوات من الكفاح والصراع نجد أننا لا نأخذ استراحة، بل هي التي تأخذنا). والاستراحة هنا قد تعني التوقف في الرحلة أو التعثر.

كأس من ذهب: إصدار دار المدى 2003. 
البحث عن إله مجهول: مكتبة المعارف 1983. 
شارع السردين المعلب: دار العلم للملايين 1982. 
العاقر: دار العلم للملايين 1959، 
عناقيد الغضب: دار المدى 2002.
ـــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق