الأربعاء، 27 يوليو 2016

عالم لورنس: تقدير حار

سعد محمد رحيم

تاريخ النشر : 14-03-2015


لكأن هنري ميللر في كتابه (عالم لورنس: تقدير حار)* يروي سيرته هو.. لا سيرته الفعلية: نشأته وأمكنته ورحلاته وعلاقاته، وإنماالذهنية والروحية والعاطفية والأخلاقية.. هذا النمط من كتابة السيرة هو الأشد مخاتلة وإثارة من غيرها، لأن الكاتب وهو يمعن النظر إلى الآخر/ آخر (ه) يجعل من ذلك الآخر مرآة عاكسة يرى فيها أعماقه وما تحوي، وما يعتمل فيها ويتفاعل.. والقدر الأكبر من كشوفات ميللر في كتابه الآنف الذكر هو توغل قاسٍ، لا هوادة فيه،داخل نفسه.

 فليس لورنس سوى مناسبة للتحديق في قاع النفس، ليس سوى عملية تماهٍ معقدة مع آخر للاعتراف من خلاله.. والدافع ليس الخشية من الصراحة وكشف التاريخ الشخصي، ليس الجبن أمام مواضعات المجتمع.فميللر واحد من أكثر الكتّاب جرأة وولعاً بسبر ماضيه ونجاحاته وخساراته وإحباطاته،وعلاقاته مع النساء، وهي كثيرة جداً وفاضحة بشكل مأساوي.. وإذن؛ أكان الأمر يحدث بشكلٍ لا واعٍ؟ وأيضاً؛ ما الذي يقود ميللر إلى أن يتخذ من كاتب بحجم لورنس موضوعاً للتقدير الحار، واللعن في الوقت عينه؟.


   قد يكون ميللر وجد في لورنس هويته الخفية، أي مغزى ذاته ومصيرها.. رآها مبكراً جداً، وقبل أن ينشر أياً من كتبه المستفزة لمشاعر حرّاس التقاليد، وحتى أنه لم يكمل عمله هذا، ولم ينشره إلا في أخريات حياته.. وكان عليه كي يتفادى سوء الفهم المريع الذي ستقابله الجماهير به أن يمد لهم، كما لورنس، ولائم تناسلية، وهذه المرة بكرم ديونيزي باذخ. حتى أن وليمة لورنس التناسلية تبدو حذرة ومخففة وحيية أمام ولائمه التي سيقدمها لاحقاً ببلاغة سلسة جامحة، وعارية. مسوِّغا فحشه الذي سيصل به إلى أقصى نقطة مرعبة. فالفحش عنده"نقي، وينبع من حيوية مفرطة، فائرة، من فرح الحياة، من الانسجام، والإجماع، والاتحاد مع الطبيعة". رائياً في الفحش"صفة التفوق والتميز في الإنسان.. (ولكن) ودائماً يستخدم بطيش، بدون أي تحصّن جمالي أو ديني، وعندما يصبح الجسد مقدّساً، يحصل الفحش على جسد خاص به".

  مع ميللر نحن دوماً إزاء نقائض متصارعة، ومتكاملة في صراعها.. إن الشيء يحمل نقيضه وضده في داخله.. العنصر الخنثوي هو الأساس، والانفصام حالة الأشياء، والسعي الإنساني هو من أجل ردم الهوّة وإكمال النقص.

   استدراكات ميللر ذكية وصادمة.. إنك لا تستطيع أن تطمئن إلى أية فكرة يطرحها.. وهو حين يعظِّم أي شخص أو سلوك أو شيء سرعان ما يطيح به ويسفِّهه.. وحتى نسبيته مقلقة، غير آمنة. ومع أعلى درجات وضوحه لابد من أن يترك مسحة مبهمة.. مساحة خفية معتمة، من الصعب اكتناهه.
   يمكنك أن تقول أشياء كثيرة عن هذا الكتاب، لكن ما تقوله يبقى ناقصاً مبتوراً، قاصراً.فميللر لا يمكن الاطمئنان إليه.

   هذا السيل من عبارات الفحص والتحليل يتدفق بعرامة وغموض.. إنك تنزلق معه من غير أن تمسك به وتثبته.. فميللر لا يدعك تركن إلى الراحة.. ففي رحلته، ثمةَ، إلى جانب التصميم، هذا الزخم الخلاق من التشريح والتجريح... إن جسد العالم عبر جسد لورنس لن يخرج سالماً أبداً من تحت المبضع الحاد والقاسي لميللر. فهو يهجو الحياة المعاصرة؛ حياة الآلة والعلم والعقلانية.. الحياة التي جُردت من الروح أو تكاد.. الحياة التي فقدت شعريتها وبراءتها وطزاجتها ودفقها الحيوي، لتصبح عقلانية جداً، وميتة في الحقيقة.

  يبدو أن لورنس، من حيث لا يعلم، استدرج ميللر إلى حيث لم يعد قادراً، بعد ذلك، على العودة منه.. كان لورنس قدره، وما كتبه لاحقاً كان بوحي من تلك المغامرة التي جنحت به، كما يقول، نحو تلك الجزيرة الغريبة:

  "إن عالم لورنس يبدو الآن لي أشبه بجزيرة غريبةكنت منذ عدد من السنين جانحاً عليها. ولو أني قفلت عائداً إلى العالم المألوف، المعروف لتحدثت ربما بطريقة مختلفة عن مغامرتي. لكن ذلك العالم اندثر بالنسبة لي، والجزيرة التي أُلقيت عليها تعمل عمل الصلة الوحيدة الباقية، ذكرى تربطني بالماضي. إذن فهذا الكتاب  سوف يكون بمثابة سجل مغامرتي الغريبة ـ إذا لم تخنّي الذاكرة".



• عالم لورنس: تقدير حار
هنري ميللر.. ترجمة: أسامة منزلجي..
 دار المدى/ بيروت ـ بغداد 2014.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : المدي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق