واجب الرواية تجسيد نهاية ومعنى غير متوفّرين في الحياة
ترجمة وإعداد فوزي محيدلي
تاريخ النشر: 29 آذار 2015
في مسيرة كتابية مؤثرة مترامية، مالت جويس كارول أوتس إلى إضاءة متميزة ومريرة على التاريخ الأميركي الحديث. العنصرية، الفقر، الفساد السياسي وطغيان الأعلى مرتبة هي ما تشكل مواضيعها الرئيسية. وهذه التي طُرِح اسمها مراراً في السنوات الأخيرة لجائزة نوبل هي من بين كل الروائيين الذين يكتبون بالإنكليزية تعتبر الأكثر براعة في التقاط انسياب الأحداث الواقعية مع تلك المبتدعة. وأكثر ما يجد هذا الانسياب تحققه في رائعتها «الشقراء» (عام 2000) التي تتناول حياة مارلين مونرو مقطرة إياها نقطة نقطة إلى صورة متأنية الظهور، بل إلى سرد تاريخي لما معناه أن يكون المرء حياً وفقيراً في الولايات المتحدة في أربعينات وخمسينات القرن الماضي.
تبدو أوتس كاتبة في عجلة من أمرها، حسبما تقول روز تريماين في «الغارديان». رغم كتابتها أربعين رواية لم تزل ذات حنين لقول المزيد بل ذات شهية نهمة. هذه الاندفاعة لالتقاط الموضوع التالي تبدو واضحة من الأسطر الأولى لروايتها القوية «القربان» حيث تعمد إدنتا فراي، الأم السوداء لابنة مفقودة، إلى الهيام في شوارع بلدة في نيوجرسي متوسلة «وكأنها موكب أصوات» طالبة العون والمعلومة عن ابنتها. تنوح إدنتا، «هل رأيتك ابنتي؟ طفلتي؟ ابنتي سابيلا أشاهدها أحد؟». هذا ما يشكل النغم الافتتاحي لقصة تستند إلى «جريمة» غير محلولة أساساً حصلت واقعاً في نيويورك لعام 1988. في المقدمة تقول أوتس إن للعمل التخيلي واجب «تجسيد نهاية ومعنى غير متوفرين في الحياة». الصيغة التي تضفيها على هذه الرواية أشبه بقراءة مضاعفة، تدور وتدور حول موضوع العرق، وبالأخص هيولى الجنس التي لم تزل تتسبب بالعمى الأخلاقي في العديد من التجمعات الأميركية.
كتابة الآخر المختلف
هذا يأخذنا إلى جوهر كتابة ما هو مختلف. كتابة المختلف عبارة عن تحد غير يسير، لا سيما في الرواية. كيف يتسنى للرجال الكتابة عن النساء والعكس بالعكس؟ كيف يمكن لكاتب من عرق معين الكتابة عن أناس من عرق أو إثنية أخرى؟ ولعل ما هو أكثر أهمية هو كيفية تعامل الكاتب مع الاختلاف من دون تحويل، بل خفض شخصيات عمله إلى كاريكاتيرية أو نمطية؟ ينجح البعض في ذلك ويخفق البعض الآخر. تتطلب كتابة المختلف أو الكتابة عن الآخر نعمة التعاطف، القدرة على احترام إنسانية أولئك الذين يود الكاتب تمثيلهم.
كما في رواية «الشقراء» حيث لم تخش أوتس تصوير مشاهد الجنس مع كنيدي أو استحضار التحجر العاطفي لآرثر ميلر، لذا فإنها في هذه الرواية الجديدة نراها تقيم مسلحة بثقة الكاتب الذي يؤمن مئة في المئة بقوة مخيلته على أخذه إلى أي مكان يقصد تقيم داخل عالم عائلة أفرو أميركية تسكن داخل بلدة متخيلة، ياسكاي، في ولاية نيوجرسي، مبتلية بالفقر والتعفن السام.
واقعاً في أواخر تشرين الثاني من عام 1987 وُجدت الفتاة تاوانا براولي في بلدتها وقد تلطخ شعرها بالبراز وجسدها بكتابات عنصرية. جرى خطف هذه الفتاة المراهقة واغتصابها من قبل مجموعة من البيض بمن فيهم رجال شرطة، وأضافت الفتاة باتهاماتها إليهم في تفصيل لاحق مدعي عام مساعد، وسرعان ما احتلت القصة عناوين الصحف المحلية.
تكفّل كل من آل شاربتون ومحاميان اثنان هما آلتون مادوكس وسي فرنونا ماسون البدء بتمثيل الشابة و»تدبر أمر مصالحها». كان ثمة فجوات في الرواية أو القصة التي روتها برادلي، وسرعان ما أشعلت القضية توترات عنصرية (بطبيعة الحال أي شيء يذكر الناس بوجود العنصرية يؤدي إلى «إشعال توترات عنصرية»). بعد مرور سنة تقريباً، قررت هيئة محلفين عليا أن الفتاة كذبت في إفادتها. وتقول بوكساين غاي في النيويورك تايمز أن «القضية لم تزل حتى اليوم تقسم الناس لأنها تلامس مسائل مشحونة: العرق، الطبقة، العنف الجنسي فضلاً عن مسألة الرابحين والخاسرين داخل النظام القضائي الأميركي.
يمكن اعتبار رواية أوتس «القربان» بمثابة إعادة تلاوة تخيلية لقصة براولي وقد جُعل لها إطار مكاني جوار باسكاين ومستندة بشكل شديد على حقائق القضية الأساسية حتى أن بإمكان القارئ تسميتها رواية الجريمة بحق لمحبي النوع.
تبدأ الرواية مع البحث المحموم لإدينتا دفراي، كما تقدم ذكره، عن ابنتها في شوارع ريد روك. من هناك تتقاطع فيها وجهات نظر عدة لوصف كيفية تفاعل مجتمع مع مأساة حتى مع بقاء الحقيقة غير مثبتة. في قلب كوكبة الشخصيات ثمة سايبيلا فراي، الشابة التي وجدت مدماة ورميت داخل مصنع مهجور.
ثمة أيضاً آدا فارست، معلمة بديلة تعثر على سيبيلا المفترض تعرضها للمعاملة الوحشية. هناك كذلك آينس إغلاسياس التحرية الأميركية من أصول لاتينية التي عُيّنت للتحقيق في القضية، وكذلك هناك آنيس شات، زوج والدة سايبيلا الذي قام بضرب زوجته الاولى حتى الموت. ثمة أيضاً الكاهن ماراس كورنلياس والمحامي راندولف مادريك اللذان وفدا للاهتمام بصالح سايبيلا. ولن ننسى جيرولد زان الشاب المتهم بأنه أحد المعتدين على الفتاة. إلى جانب كل هذه الشخصيات ثمة أيضاً «الأمير الأسود» زعيم جماعة مسلمة محلية الذي يتولى لاحقاً الاهتمام بقضية سايبيلا. مع توالي فصول الرواية، يتوضح أن معظم الشخصيات تقوم بتضحية ما إما بالإيمان، الرجاء، الكرامة، الحقيقة أو العدالة، أو البراءة.
بتأن ودراية تعمل أوتس على بناء القضية الدقيقة. تغطي قدراً كبيراً من الأرضية الاجتماعية «لمسرحية الأخلاق» هذه العنف المنزلي (زوج الأم)، مدلول اللون في المجتمع الأسود، المسائل الطبقية ضمن الجماعة السوداء وكذلك بين البيض والسود داخل مجتمع بلدة باسيك. في أحد المشاهد ذات الدلالة يُنقل البوليس بسيارتهم زوج الأم آينس شات. ثمة خياران، تكتب أوتس، «الصمت أو المراعاة (من قبل شات). صمت (آينس شات زوج الأم) يمكن تفسيره خطأ من قبل الشرطة كعلامة عبوس وخطورة، والمراعاة قد تفسر خطأ على أنها علامة سخرية.
قربان، قربانان
تبقى مسألة القربان حائرة. أراد رئيس المحققة اللاتينية إنييس إيغلسياس من إسناد قضية الفتاة للتحقيق من أجل الإساءة إليها، ولذا فإنها تغدو غير موثوق بها من الضحية وأهلها، بسبب لونها غير الداكن، وحتى من مسؤولين. نراها تتساءل لاحقاً إذا كانت ستصبح «القربان» بالنسبة للجمهور، سيما وأنها حملت عبئاً غير منطوق هو تبرئة قسم شرطة باسايك من عدم اعتداء أفراد منه على الفتاة.
القربان الآخر نراه مع الأخوان مادريكس، الكاهن والمحامي. بإرسال طبيب آسيوي الجذور لفحص سايبيلا وكونه «ذي لون فاتح» لا يتمكن من إنهاء فحص الفتاة بسبب خوفها من رجل «يبدو أبيضاً». هذا الفحص غير المكتمل يجعل «محنة» سايبيلا مبهمة. تدّعي الفتاة مهاجمة رجال شرطة بيض لها كتبوا شعارات عنصرية على جسدها. لكن أحداً لم يُعتقل، ولم يُستدل كذلك على معتد، ما ترك الدرب سالكة أمام الأخوين مادريك اللذين يشُمان رائحة المال والدعاية أو الشهرة من خلال تقديم سايبيلا مثابة «جان دارك السوداء». من خلال مؤتمرات صحافية ومسيرات يتهم من خلالها الأخوان البيض بالنازية والاغتصاب ومطالبين بالعدالة لسايبيلا فراي، وتتحول الإبنة والأم إلى أداتي عرض في موكب ساخر، عبر تقديمهما من قبل الأخوة مادريكس بمثابة الضحيتين الصائبتين للكراهية البيضاء، ومع وعدهما «بملايين الدولارات» التي لن يروها على الأرجح، تشكل هاتان الاثنتان حملي التضحية، القربانين، لطمع الأخوين مادريكس ورغبتهما في الشهرة.
عبر الانتقال من منزل آمن إلى آخر فيما بلدة باسايك وغيرها من بلدات في نيوجرسي تنفجر بالعنف، نقع على فوضى خارجية عاكسة لمتاهة من الخوف. هنا تكمن قوة هذه الرواية ـ في عمقها بل في عمق قلبها المضطرب حيث عاصفة من الشك تبدأ بالدوران حول كل الحادثة الغرائبية، وحيث تبدأ شيئاً فشيئاً بالانبلاج معالم طرية للحقيقة.
هذا المساء وما يشبه الحل او النهاية المتمحورة حول زوج أم سايبيلا، آنيس شات الذي صرع ابنه يوم بارد بطلقات رجال الشرطة البيض منذ وقت غير قريب، تلتقط بروعه الأسى أو الالم الذي يعتصر الكثير من المجتمعات المنقسمة في الولايات المتحدة والعالم الأوسع. هو نوع محاصر من الاسى، حيث كلا الطرفين محاصر بالتحامل والخوف من ان شيئاً لن يتغير مع مرور السنين.
هي حكاية تدهور البلدة وتحللها، لكن بالمقابل تسنى لنا ان نحصل من على يدي كاتبة كبيرة، على استخلاص لقصة حابسة للأنفاس من تحت انقاض علاقات سامة. ثمة إذن، على الاقل في مقاربة اوتس امل في تعاطف فني كهذا مع الآخر.
من حواراتها
تقول أوتس ان والديها لم يتوقعا منها الشيء الكثير وهذا لم يشكل ضغطاً عليها بل حررها. ترى انها آتية «من حقبة مختلفة، عالم مغاير حيث لم يتوقع احد فيه الحصول على شهادة الثانوية العامة». حسبما يقول لجسيكا غروس في صحيفة «التليغراف» البريطانية. حين اتهمت اونيس بالإدمان على العمل لا سيما في الماضي، دافع عنها المدمن الآخر على العمل جون ابرايك قائلا: «ثمة رابط بيننا في اننا تحدرنا نحن الاثنين من مشارب متشابهة وقد اتهمت مثلها بكثرة الكتابة إذا ما قاربت الكتابة بجدية ونظرت اليها كعمل منظم، وبالمقابل ان تكريس طاقتك الى السعي وراء العيش الحسن والسعادة والمخدرات والمشروب والشهرة، لا شك انك ستكتب كمية مزعجة على مرار حياتك» نحن كاتبان جادان.
تعمد أو تسعى أوتس احيانا الى كتابة افتتاحية أو مقدمة رواية بين 40 الى خمسين مرة للامساك بالإيقاع، «وحينما تشعر بتدبرك امر الايقاع او الاسلوب تنساب الحبكة عندها». قول أوتس انها في الخامسة والسعبين، حيث الكثيرون قد تتقاعدون بينما تعمد هي الى استكشاف وسائط جديدة للتعبير عام 2012 لجأت الى «تويتر» التي تعتبر الكتابة عليها «متنفساً لإحساسي بالاضطراب والغضب».
وفي مقابلة عنونتها الأندبندنت «مقابلة الدقيقة الواحدة» بمعنى السريعة أجابت اوتس على اسئلة الصحيفة في 12 شباط المنصرم كالتالي:
[ أين أنت الآن وماذا بمقدورك رؤيته من حيث أتت؟
ـ أجلس في هذه اللحظة على مكتبي في الطابق الثاني من منزلي المشرف الآن على منظر ريفي هانئ بل رائق ـ لا ثلج، لا حبة لون على مد البصر، سوى في البعيد، سقف حظيرة احمر بليد. ثمة العديد من الأشجار العارية من الأوراق لكنها في غاية الجمال في عريها؛ أكوام من الأوراق المتعفنة، وسهول ذات رواب تمتد حتى الأفق. نعيش على بعد اربعة اميال من برينستون في ولاية نيو جرسي في بلدة تدعى «الرجاء الصالح» والمسكونة بغزلها فيرجينيا البيضاء الذيل اكثر ما فيها من السكان البشر. الى يساري ينساب جدول، وعلى مسافة ابعد بحيرة صغيرة تنزل اليها في الطقس الأدفأ من الآن بزورقنا. انه منظر شتائي حقيقي ما عدا انه في هذه اللحظة، لا يتساقط الثلج.
[ ما الذي تقرئينه حالياً؟
اذا كان السؤال عما أقرأ أدبياً، فأنا اقوم بقراءة ومراجعة عمل اشتغل عليه، اراجع بالواقع رواية قصيرة لي ستنشر على الأرجح عام 2016 بعنوان «الرجل الذي بلا ظل». تبعاً لذلك ولإثراء الرواية ثمة قراءات لي تركز على الابحاث المتعلقة بأعصاب الذاكرة كون هذه الرواية تدور حول رجل فقد معظم ذاكرته نتيجة لمرض اصاب زوجي تشارلي غروس عالم أعصاب ولذا أقرأ معظم الأحيان حاليا في مكتبته العلمية.
[ اختاري كاتبة أو كاتباً وقولي سبب اعجابك بها أو به.
ـ أقدم وأكثر كاتب امتد اعجابه به هو الكاتب تشارلز دودجسون (لويس كارول) دأبت على الكتابة مرات عدة عن التأثير العميق لكتاب «اليس في بلاد العجائب» و «اليس في المرآة» اللذين قرأتهما وأنا طفلة في الثامنة. عملان آسرانّ
[ صفي الغرفة حيث عادة ما تكتبين؟
ـ غرفة مكتبي ليست غير عادية. ثمة جدران ثلاثة تحتل معظمها الكتب، والرابع (أو واجهة الآن) يتألف من ثلاث نوافذ متطاولة. بما اني امضي معظم وقت «عملي» محدقة عبر النافذة، من المهم عندي ان أحظى بمنظر جميل لكن هادئ. حين عشنا في مدينة نيويورك حديثاً، سحرني منظر منهاتن السفلى من الطابق 24 حيث شقة جميلة الاثاث (قرب جامعة نيويورك، حيث علمت) لسوء الحظ لم تكن الشقة ملكنا. منظر مدينة نيويورك من الطوابق العليا خلاب.. كما يحتوي مكتبي على حيز بسيط لقطتي تشيري التي كما اعتقد تحتل كمبيوتري وحساب «تويتر» خلال الليل.
[أي من الشخصيات المتخيلة تشبهك؟
ـ هل السؤال عن شخصية داخل احدى رواياتي او رواية غيري؟ ليس من السهل الإجابة. الارجح انني ضمنت في عملي بعضاً من صفات شخصية اليس (في بلاد العجائب) كطفلة اشبه الى تكوين انطباعي «المحب للاستطلاع او الفضولي» هو التوصيف الذي يلخص استجابتي نحو الحياة. مهما يكن، الأمر الأصح بأنني اشبه كسراً من اليس، من كون ان اليس «تشبهني».
[ من هو بطلك أو بطلتك من خارج الأدب؟
ـ مارتن لوثر كينغ جونيور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: المستقبل ، 29 آذار 2015، العدد 5335.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق