السبت، 30 يوليو 2016

القسم الأول من رواية "زومبي" جويس كارول أوتس

ترجمة: أحمد م. أحمد



جويس كارول أوتس، من أهم الروائيات في الولايات المتحدة. مرشحة لجائزة نوبل منذ 25 عاماً. من أهم رواياتها: ابنة حفّار القبور (التي يعمل مترجم هذه السطور على ترجمتها)، نالت العديد من الجوائز. تعمل أستاذة للعلوم الإنسانية في جامعة برنستون.












هذه الرواية:
"قطعةٌ مبهرةٌ من الفنّ تمدّدُ تخومَ الرواية لتطالَ اللُبَّ الأكثر إظلاماً من الحقيقة."
 عن: Booklist


مع وقف التنفيذ
1

اسمي كيو-بي- عمري واحد وثلاثون عاماً، وثلاثة أشهر.
الطول خمس أقدام وعشر بوصات، الوزن مائة وسبعة وأربعون رطلاً.
العينان بنيّتان، الشعر بنيّ. متوسّط القامة. مع بعض النّمش المنتثر على السّاعدين، والظهر. علّة اللابؤرية في كلتا العينين، العدسات التعديلية مطلوبة للسّياقة.
علامات فارقة: لا يوجد.
ربما باستثناء هذه النّدوب الضئيلة الدّوديّة الشكل على ركبتيّ. يقولون إنها آثار حادث درّاجة، كنتُ صبياً صغيراً حينها. لا أنكر لكنني لا أتذكّر.
لا أنكر أبداً. أنا في حالة اتّفاق معك حين تنبسُ بكلماتك الحكيمة. مقلّباً فمكَ الشبيه بالطيز ثمّ نعم سيدي، لا سيدتي هو ما أقولُه. عيناي حييّتان. وراء نظارتيّ بإطارهما البلاستيكيّ الذي تمكنُ رؤية الجلد من خلال هذا الإطار.
بشرة بيضاء قوقازية مالديّ. من طرفيّ عائلتي تعود إلى غابرِ الأيام على حدّ إدراكي.
محصّلة ذكائي في آخر اختبار: 112. الاختبار الذي قبله: 107. عندما قيس في الثانوية العامّة: 121.
من مواليد ماونت ڤيرنون، متشيغان. 11 كانون الثاني، 1963. مدارس دايل سبرينغز العامّة. ثانوية عامة من مدرسة دايل سبرينغز، دفعة 1981. تخرجَ كيو-بي بترتيب الرابع والأربعين من صفٍّ مؤلَّف من مائة وثمانية عشر طالباً. لم يفز بمنحة لأيّ كليّة جامعية. لم ينتسب لأيّ فريق رياضيّ، صحيفةٍ مدرسية أو كتاب سنويّ أو ماشابه. أعلى الدرجات في الرياضيات ماعدا محصّلة الفصل الدراسي الأخير إذ خوزقتُ هناك.
ألتقي بضابط مراقبة السّلوك السيد تي- يوميّ الخميس الأوّل والثالث من كلّ شهر الساعة 10:00، مركز مدينة ماونت ڤيرنون. الأخصائي الذي يعالجني الدكتور إي- الإثنين 4 بعد الظهر. مركز الجامعة الطبيّ. العلاج الجماعيّ مع الدكتور بي- يوم الثلاثاء السابعة مساءً.
لا أحرز تقدّماً، فيما أظن. أو ربما لا بأس. أعرف أنهم يكتبون التقارير. لكن لا يصرّح لي برؤيتها. أشعر أنه لو كان أحد هؤلاء امرأة لأبليتُ أفضل من ذلك. هم يصدقونك، ولا يراقبونك على الدوام. الاتصال البصريّ كان مقتلي.
يلقي السيد تي- الأسئلة كمن يكرّ الشريط. نعم سيدي، أجيبه، لا سيدي. أنا موظّف. الآن بشكل نظاميّ. الدكتور إي- هو مَن يكتب وصفات الأدوية. يطرح عليّ الأسئلة ليحرّضني على الكلام. يتعثّر لساني مما يحول دون إكمال الكلام. يلقي الدكتور بي- بالسؤال كما يقول لكي ينخرط الفتيةُ في الحديث. إنهم سادةُ الخراء. أقدّرهم. أندسُّ في ملابسي محدّقاً في حذائي. باقي جسدي لسانٌ فاقد الحسّ.
أجولُ بسيارتي/ ڤان الفورد. طراز سنة 1987، لونها كلون الرمل الرطب. لم تعد لائقة، لكنها تلبّي الحاجة. تعبر من أمام ناظريك بسرعة خاطفة وكأنك تعبر بمحاذاة جدار صلد. عَلَمي الأميركيّ اللاصق كبير بحجم علم حقيقي يغطي النافذة الخلفية.
اللصاقة على واقي الصدمات الخلفيّ تقول أدوسُ المكابح لعبور الحيوانات. حسبتُ أنها قد تكون فكرة صائبة أن يكون لديّ لصاقة واقٍ.

2

هل الزمن خارجي أنا، بدأتُ التساؤلَ في الثانوية العامة. عندما أخذتِ الأشياءُ في المضيّ مسرعةً. أو هل الزمن في داخليْ.
إن كان خارجَك، عليك أن تبقيَ تسارعاً مع الساعات والتقاويم المنيوكة . لا توانٍ. إن كان في الداخل، افعلْ ما أنتَ تريده. ليكن. اختلقْ زمنك الخاص. كتحطيم عقارب الساعة كما فعلتُ مرةً بذلك لا يبقى سوى وجه الساعة ينظر إليك.

3

أنا طالبُ دوامٍ جزئيّ مسجَّل في معهد مقاطعة دايل التكنولوجيّ حيثُ انتسبتُ إلى صفّين كل منهما من ثلاث دورات ضمن الفصل الدراسي الربيعيّ. المدخل إلى الهندسة والمدخل إلى برمجة الكمبيوتر.
كان قد تقرّر أن يصبح كيو-بي- مهندساً. هناك أنوع عديدة من الهندسة. الهندسة الكيميائية، الهندسة المدنية، الهندسة الكهربائية، الهندسة الميكانيكية والفضائية. يُدرجُ دليلُ الجامعةِ الشروطَ للاختصاصات. قد يحصّلُ كيو- بي- شهادةً في غضونِ السنوات التي احتسبها الأب.
في مركز احتجاز المدينة حيث أوقفوني بانتظار أن يأتي أبي لدفع الكفالة شوهدتُّ وأنا أُجري حساباتٍ سريعة باستخدام قلم الرصاص. صعوداً ونزولاً على هوامش المجلات القديمة الملقاة حولي. عجيب: تتحرك يدي وكأن لها غايتها الخاصة. كما في الصّف الثامن. معادلات الجبر. معضلات الهندسة مع فرق أنه لم يكن بحوزتي بوصلة أو مسطرة لكنني رسمتُ الأشكال على أية حال. أعمدة طويلة من الأرقام تشبه النمل لكي أقوم بجمعها لمجرّد اللهو، كما أظن. لا أدري ما الغاية. درجتُ على ذلك لفترة طويلة. على مدى ساعات. كنتُ أتصبب عرقاً فوق صفحات المجلة أرقبُ تَنَقُّلَ رأس القلم. حتى بعد أن يبهتَ رأس القلم وتغدو الخطوطُ لامرئيةً. حتى عندما كان الحارسُ يتحدّث إليّ ولم أسمعه.
عمدوا إلى حجري كما أسموه. واحد وتسعون بالمئة من النـزلاء من السّود وذويّ الأصول الإسبانية، الفتيان البيض أودعوا سويّةً في زنازين التوقيف. كنتُ مع اثنين من البيض ضبطا بتهمة المخدرات. وُسمتُ تحت جنحة عنصرية. لكنها لم تكن عنصرية. لا أعرف ماهي العنصرية.
لستُ عرقيّاً. لا أعرف ماذا يعني العرقيّ المنيوك.
أتصبّب عرقاً ويدي تمسك قلم الرصاص أتحرّك ولكن لم أكن أتكلّم. لا اتصال بصريّ مع أحد. قد جدر بالانتباه كم كان كيو-بي- خلال فترة الاحتجاز صموتا ًولم يُنشِئْ أيّ اتصال بصريّ مع أيّ كان.
بتلك الطريقة يتسللُ المنايكُ إلى روحك.
كيف علمَ أبي بحسابات الرياضيات هذه لستُ أدري. ربما سمحوا له بمراقبتي عبر الزجاج الذي يتيح الرؤية من جهة واحدة. كاميرا مراقَبة. وربما تمّ جمعُ المجلات وتسليمها له بهدف التمحيص. إنه البروفيسور بي- وهم ينادونه كذلك. قال إنّ الفكرة خطرتْ له منذ ذلك الحين. أن يقرضني للدراسة في كليّة تكنولوجية حيث سأدرس لأصبح مهندساً. وسننسى جميعاً أمرَ جامعة ماونت ڤيرنون الحكومية، إذ لم تُجْدِ نفعاً. كان ذلك لسنواتٍ خلتْ.
منذ زمن أبعد عندما كنت في الثانية عشرة كانت ثمة جامعة شرقي ميتشيغان الحكومية في إيبسيلانتي. وقد أهملنا الفكرة جميعاً منذ أمد طويل.
لدى كوينتين شغف فطريّ بالأرقام كما أفضى الأبُ للأم. وقع صوته في أذنيّ. صوته خشن كأنما كان يحاول أن يقشعَ عن حنجرته شيئاً ما تخثّرَ عليها. موهبة الأرقام. أورثتْ مني. كان يجب أن أدرك ذلك.
لهذا السبب أنا طالبُ دوامٍ جزئيّ في معهد دايل التقنيّ. وأنا أدرسُ باجتهاد. يبعد معهد دايل سبعة أميال من مكان إقامتي الحاليّ لكن لا مشكلة لديّ، قلتُ لضابطِ مراقبة السلوك السيد تي-، لديّ ڤانْ الفورد الذي أقوده أينما شئت. مسافة سبعمائة ميلٍ لا تعني شيئاً، لكنني لم أقل ذلك للسيد تي-.

4

إنه آخر يوم اثنين من إقامتي في 118 شارع نورث تشرش، ماونت ڤيرنون. يونيڤيرسيتي هايتس هو ما تدعى به المنطقة. التي يقع قربها حرمُ جامعة الولاية حيثُ يُدرِّسُ البروفيسور بي-. (مع أن أمي وأبي يسكنان في ضواحي دايل سبرينغز، الطرف الآخر من البلدة.)
أنا ناظر الأملاك في 118 شارع نورث تشرش لهذا المسكن الذي كان في الماضي بيتَ جديَّ. لا أحد من النـزلاء يعرف هذه الحقيقة التي أُصرّ أن لا أبوح لهم بها.
لا يزال العقارُ مملوكاً لجدتي بي- التي تقيم في دايل سبرينغز. لكنه يُدار من قبل أبي آر-بي- كسكنٍ جماعيّ مقسّمٍ إلى تسع وحداتِ إيجارٍ كما وافقتْ عليه لجنة الفرز العقاريّ.
كَلَفْتةِ ثقة بك، يا كوينتين. قال الأب.
آه لكن كوينتين سيقوم بعمل رائع! نحن على ثقة من ذلك. قالت الأم.
منـزل جدتي ذو طراز ڤيكتوريّ مبني من طوبٍ أحمر شاحب كما يقولون عنه. مع مسحة لطخٍ على الواجهة الأمامية وكأنّ أحدهم قد مرّر إبهامَه على امتدادها. ثلاث طبقات، بالإضافة إلى السقيفة. ثمة إضافة في الخلفية تستعمل للتخزين. مطبخ كبير حيث للمقيمين "حق الانتفاع بالمطبخ" كما يسمونه. قبو عميق محظور استعمالُه من قبل المقيمين. أساس حجريّ راسخ للغاية. وعندما كنتُ أزيل بعض الشجيرات الواطئة عثرتُ عند الزاوية الأمامية اليمينية على تاريخ 1892 منقوشاً على الحجر.
يستأجر طلابُ الجامعة الغرفَ. كان العقار قد قُسِّم لهذا الغرض منذ 1972 كما كان الأب يقول. لا أعلم إن كنت أُطلِعتُ على هذه الحقيقة من قبل أم لا.
كناظر أملاكٍ لهذه الملكية أقيم في الشطر الخلفي من الطابق الأرضيّ في الغرفة المُعَدّة لناظر الأملاك. إنها غرفة تحتوي على حمّامها الخاص بها، مقصورة الدوش والتواليت. كان هناك ناظروا أملاك سابقون يعملون لصالح أبي لكنني لستُ أعلم عنهم أيّ شيء.
تفضي الأدراج الخلفية إلى الطابق العلويّ والأدراج المفضية إلى القبو قريبة من غرفة ناظر الأملاك وهذا ملبٍّ للغرض. ليس بوسع أحد استعمال هذه الأدراج إلا إذا عبر ببابي. عدّةُ ناظر الأملاك وأدواته، وطاولته إلخ. في القبو.
لديّ حق الوصول إلى كافة طوابق البيت. لأنني ناظر أملاك. أبي آر-بي- عهدَ إليّ بهذه المسؤولية وأنا ممتنّ لفرصة ترك الأشياء مرهونة به وبأمي. مفتاحي العموميّ سيفتح باب أيِّ غرفة في المنـزل.
معظم الطلبة الذين يستأجرون لدينا من الأجانب. من الهند، الصين، باكستان، أفريقيا. عادة ما يواجهون مشاكل مع أبوابهم بادئ الأمر، وسأُستدعى لكي أحل المشكلة. ينادونني السيد بي-. ودائماً ألبّي النداء مكتفياً بالتحدث بالضروريات. ودونما اتصال بصريّ.
شكراً لك سيد بي- سيقولون. أو شكراً لك سيدي.
بشرتهم داكنة وأعينهم غسقية برّاقة وشعرهم أسود يبدو وكأنه مُسِحَ بالزيت. رائحتهم مثل رائحة الخوخ المتعتّق. إنّهم خجولون وأكثر تأدّباً من الطلبة الأميركيين ويدفعون إيجاراتهم في مواعيدها ولا يلاحظون الأشياء التي قد يلاحظها الطلبة الأميركيون ولايزبّلون غرفهم مثلما يفعل الطلبة الأميركيون ما جعل أبي يقول إنهم النـزلاء المفضّلون. هادئون في فترات المساء. يدرسون وراء طاولاتهم. لديهم جميعاً عقود مع مطعم السكن الجامعي لتناول وجبات الطعام بذلك يتقلّص استعمال المطبخ إلى الحدّ الأدنى، أنا المستخدم الرئيسي للمطبخ لكنني لا أتناول الطعام هناك بل في غرفتي وأنا أشاهد التلفاز. هذا إذا لم أكن في الخارج.
كل البيوت على شارع نورث تشرش كبيرة من القرميد القديم أو الخشب ومبنية على الطراز الڤيكتوريّ. تتوسّط قطع أراضٍ كبيرة. في زمن جدتي وجدي عندما كان أبي يشبّ هنا كانت هذه البيوت كافية لعائلة واحدة بالتأكيد. كانت ضاحية أنيقة. يونيڤيرسيتي هايتس. تقول جدتي إن التغيير قد بدأ بعد الحرب العالمية الثانية. في كل أرجاء ماونت ڤيرنون. أما الآن فإن ملكيات شارع نورث ستريت تحوّلت إلى بيوت إسكان كحال بيتنا أو أبنية مكاتب أو احتُلّتْ من قبل الجامعة مثل البيت المجاور الذي يُدعى الآن بـ مركز اللغات الشرق آسيوية. عند زاوية نورث تشرش والشارع الثالث والسبعين على بعد عدة كتل بناءٍ حيث منـزل رئيس الجامعة الذي كان فيما مضى قطعة أرض مُسحتْ لإقامة مرآبٍ شاهق الارتفاع. بشع للغاية! تقول جدتي. أبعد بقليل ثمة البرغر كينغ الذي افتُتِح مؤخّراً والذي لم ترَه جدتي بعد وحيث أحصل على الهامبرغر والبطاطا المقلية التي أعود بها إلى غرفتي لأتناولها وأشاهد التلفاز أو أنجز وظائفي الدراسية.

5

بعد ظهيرات الإثنين بين الساعة 4:00 ب.ظ والساعة 4:50 ب.ظ في المركز الطبيّ في ماونت ڤيرنون. يسأل الدكتور إي- ماهي أحلامك، يا كوينتين. ماهي تخيّلاتك. أجلس مطرقاً إلى الأرض. أو إلى يديّ وأنا أفركهما. هناك ساعة على مكتب الدكتور إي- يمكنه رؤيتها أما أنا فلا. لكن لديّ ساعة معصمي ماركة ريزينايز وهي ساعة رقمية غالية الثمن. بوجهها الأبنوسيّ الذي أبقيه إلى جهة رسغي حيث يمكنني فقط أن أبصرَ البرونز اللامع للأرقام الدقيقة التي تشير إلى 4:50 بعد الظهر.
أجهد لكي أتذكّر حلماً أقصّه على الدكتور إي-. لأفضي به إلى الدكتور إي-. شيئاً ما قد يكون ضرباً من حلم. قد حلمَ به شخصٌ مثلي. طائراً؟ محلّقاً في السّماء؟ سابحاً؟ في- بحيرة متشيغان؟ في أحد الأنهار العميقة السريعة الجريان التي لا اسم لها في محميّةِ مانيستي الوطنية؟ لو أنّ الدكتور إي- لا يتفرّس فيّ. مستمداً سلطته من كونه الدكتور إي- عضو طاقم الأطباء النفسانيين في المركز الطبيّ. (الذي يتبع جامعة الولاية.) الدكتور إي- هو معالِجي المكلّف من قِبَل أبي لكنه يقدّم التقارير إلى قسم ميتشيغان لمراقبة السلوك وتبقى طيّ الكتمان عني. أتمنّى لو لم تغدُ رأسي ثقيلةً في مكتب الدكتور إي-. تحوّلتْ إلى مادّة شبيهة بفطائر العجين، ثخينة لكنها ليّنة، فجّة وباهتة.
ذات مرّة في مكتب الدكتور إي- عندما مضتْ فترة لم ينبس أحد بكلمة خلالها شعرتُ بأنّ فكي قد تدلّى كفكّ رجل ميت وانثال اللعاب على ذقني. متهالكاً إلى الأمام في الكرسيّ الخشبي ذات القعدةِ الصلبة الملساء المجهّزة بانحنائين يناسبان قياس فردَتيّ طيزٍ عريضة. الرّأس مُطرقة والكتفان متكوّرتان والأبُ كان يؤنّبُ هامساً باشمئزاز بالله عليك يا كوينتين: عليك أن تنظر في حالتك النفسية. بصوتٍ أجش يشبه صوت دبورٍ في حالة طنين.
كان الأمر محرجاً. أن تغطّ في النوم في مكتب الدكتور إي-. إن كان ذلك قد حدث بالفعل. يلقي الدكتور إي- نظرة إلى الساعة على مكتبه. بعض الأوراق على مكتبه.
يمحّص أفكاره التي سيدوّنها على حاسوبه بعد أن يغادر كيو-بي-.
هل الدكتور إي- صديقٌ لوالدي من النوع الذي يمكنني أن أسألَه. لديّ من الأسباب مايجعلني أعتقد ذلك (كلا الرجلين أستاذ جامعي ذو أقدمية في الهيئة التدريسية لجامعة الولاية) لكن كلا الرجلين قد ينكران ذلك لو سألتُ. لم أسأل.
بعد أن أغادر مكتبه سيتناول الدكتور إي- الهاتف ويتصل بمكتب الدكتور بي- في الجامعة. ابنك كوينتين لا يحرز تقدّماً يُذكر كما أخشى. هل دريتَ أنه لا يحلم. وحالته النفسية مزرية للغاية.
تلك الظهيرة منذ أسابيع قليلة خلتْ كان الدكتور إي- أكثر دماثةً من أن يلحظَ بأنني استغرقتُ في النوم على كرسيّ المواجه لطاولة مكتبه. ربّما كان ذلك بسبب مفعول الدواء. قد يظن ذلك. أو لعلّ الدكتور إي- لم يلحظ. بما أنه يكون نعساناً في بعض الأحيان، هو الآخر. أجفان عينيه ثقيلة كأجفان السلحفاة. كانت تمطر والماء جرى تحت النافذة وراء رأسه في جداول شخاخية دقيقة.
كتب لي وصفة مكرّرة وناولني إياها، الجرعة كما هو مبيّن. تأمين أبي الصحيّ سيغطي الوصفة. معلناً أنه يمكن أن ينهي الجلسة معي قبل موعد نهايتها ببضع دقائق هذا الأسبوع (إنها الرابعة وست وثلاثون دقيقة بتوقيت ساعتي) إذا لم أمانع. كان مرتبطاً باجتماع. لم أمانع.

6

كنت أعمل الليلة الفائتة حتى وقت متأخّر في القبو. في إصلاح ضرر طارئ نتيجة تسرّب في الخزّان القديم. أنا عامل نشيط إذا كان في ما أعمله جدوى. لم أحتج إلى النوم (لم أتناول دوائي الليليّ) ولذلك صعدتُّ في الساعة الثالثة فجراً إلى السقيفة حيث يوجد هناك نافذة نجمية الشكل في واجهة المنـزل. ليست قمة السقف عالية ما يكفي لأن أقف منتصباً وبكل الأحوال كان عليّ أن أجثم هناك متطلّعاً إلى سماء الليل حيث كان ثمة قمر شديد السّطوع بهر عينيّ! كيف أدركتُ أن القمر كان هناك، من القبو في الأسفل، لا أعرف. مزقُ غيوم كانت منطلقة من أمام القمر متلبّدة ومتشابكة مثل أفكارٍ تسعى محمومةً نحوك لكي تسمعها.

كوينتين الزريّ والغارق في البؤس.
لكننا نوشك على قلب صفحة جديدة أليس كذلك يا بنيّ.
يمكنك بلوغ السقيفة بواسطة درَجٍ ضيّق حاد في نهاية رواق الطابق الثالث. السقيفة موصدة واستخدامها محظور من قبل النـزلاء مثل القبو. اتخذتُ طريقي بصمت مرتدياً جواربي الصوفية آملاً أن لا أوقظَ الطالب الباكستانيّ الذي تكاد تقع غرفته تحت الدّرَج.
لن يكون "رامد" عيّنة موثوقة. ولا أيّ امرئ ممّن يسكنون تحت هذا السقف. أبداً لن أفكر في ذلك.
كان هناك في السقيفة رائحة غبار قوية نفاذة وتلك الرائحة الحامضة الحلوة التي تنبعث من الفئران الميتة. أخذتُ شهيقاً عميقاً ثم آخرَ ثم آخر- رئتاي منتفختان بالهواء مثل البالون. ما يدلّ أنني لا أحتاج ذلك الدواء اللعين. أأنا مريض؟ من يقول ذلك؟ وأنا أسلط مصباحي اليدوي إلى أركان السقيفة.
هذه قد تحقق المرجوّ بالفعل. إبراز المشكلة على الملأ. جلاءَ النهار.
أكنتُ هنا من قبل؟ منذ زمن طويل صعدَ صبيٌّ إلى هنا خائفاً وعلى عجلٍ ثم أخفى شيئاً مبهرجاً وبلاستيكياً على سطح إحدى العوارض الخشبية في الخلفية في الظلال لكنني لا أعرف إن كان يُفتَرَض أن أكون ذلك الصبي أم الصبي الآخر النازف والمحشرج. لكنني لم أكن أضع النظارات حينها فهل أنا الذي كان. (لم أبدأ استعمال العدسات الطبيّة حتى بلغتُ الثانية عشرة.) بذلك لا يمكن أن يكون كيو-بي. أو لعلّ الأمر اختلط عليّ مرتين.
أير في الماضي، إنه ليس الآن. كلّ ما ليس الآن ليس حقيقياً.
هادئاً ومسمّراً لدقائقَ عديدة. قد درّبتُ نفسي على فعل ذلك، ودرّبتُ عينيَّ على أن تخترقا العتمة.
أضيء مصباح اليد الذي هو مصباح يد ناظر الأملاك باتجاه زوايا السقيفة. حيث تتواثب الظلال كالخفافيش. أبتسم حين أرى كيف يحدث ذلك، إذ يجولُ الضّوء، الضوء الذي تحمله في يدك، ساطعاً مثل ضوء النجوم، كيف تتواثب الظلال. تنتشر الظلال في الأرجاء. لكنك أنت مَن يجعلها تتواثب.
جاثماً هناك قرب النافذة ترقب القمر ينتقل إلى خارج الرؤية. الطريقة التي سينتقل بها الحلم ولن يسعك أن توقفه. يخفق القلب بسرعة وقوة. ويبدأ إحساسي بالشّبق. الإثارة، والدم يتسرب إلى أيري. لستُ في مأمن في السقيفة وكذلك الحال في القبو حيث توجدُ طاولة الشغل. لقد نقلتُ أشيائي حيث أقفلتُ عليها درجَ طاولة الشغل الكبير التي تعود لناظر الأملاك.
فضاء السقيفة هذا شبيه بأحلام أكيدة اعتدتُ رؤيتها حيث أُعِدّت الأشكال لأن تكونَ صلبةً في طريقها إلى الانحلال. ليس ثمة ما يُحتمى به. ولا سيطرة. على عكس القبو الذي يتصف بكونه آمناً تحت الأرض، السقيفة عاليةٌ فوق الأرض. كثافة الأشعة الكونية عند المستويات الأعلى في كوكب الأرض أعلى منها عند المستويات الأكثر انخفاضاً.
كان الاقتراح بأن أنظّف السقيفة قد بدر من أبي بهدف تقليص مخاطر الحريق وأجبتُ نعم سأبدأ تلك المهمة بأسرع وقت. السقيفة الآن هي الرقم واحد على سلّم أولوياتي.
الآن نوشك على قلبِ صفحة جديدة أليس كذلك يا بنيّ وأجبتُ نعم يا أبي.

7

من بين الجميع، أمي وجدتي وأختي جوني كان الأمر أصعب على أبي كما أعلم. بالنسبة للمرأة، من طبيعتها أن تغفر. بالنسبة إلى الرجال، الأمر أكثر صعوبة.
إنه لمزعج بالنسبة إلى البروفيسور آر-بي- أن يعلم أموراً معيّنةً بشأن ابنه الأوحد وهذه الأمور تتعلّق بالرأي العام. بماذا يقرّ موكّلك، سأل القاضي، أجاب المحامي الذي أوكله لأجلي أبي، سيادة القاضي، موكّلي يقرّ بالذنب.
في داخلي لم أقرّ بالذنب لأنني لم أكن مذنباً وحتى اللحظة لستُ مذنباً. لكن الأمر كان قضية عرقية، أيضاً. كان الصبيّ أسود وكيو-بي- أبيض والمحامي أخطر أبي أن ذلك مسألة دقيقة في ماونت ڤيرنون في هذه الآونة وأن المحاكمَ تحت المراقبة على نحو دقيق، فقط اشكر الأقدار التي لم تضع في طريقنا قاضياً أسود.
لكنني الآن أعيش ظروفاً طيبة مع العائلة من جديد. وهذا ما شرح صدر كل الذين شابهم القلق. كنت أُقِلُّ أمي وجدتي إلى الكنيسة وقد حضرتُ أربعة آحادٍ على التوالي. كنت أقلّ جدتي إلى قسم شؤون العجزة وزيارة الأصدقاء. بحتُ لهم كم أشعر بالأسف لأنني آذيتهم. وكم غالية بالنسبة إليّ ثقتهم بي. سأكون جديراً بثقتكم من الآن فصاعداً كما قلتُ لهم.
كان الشّربُ سبب ذلك ولسوف يتوقّف ذلك من الآن فصاعداً.
إنه ليصعب عليّ معانقتهم! خصوصاً أبي. ثمة تصلّب في سائر عظامنا. لكنني أفعلها وأعتقد بأنه لابأس في ذلك. أمي وجدتي وأختي الكبيرة جوني كنّ يبكين وكانت ثمة دموع تفيض من عينيّ دون أن أقوم بمسحها.
حين نطقَ القاضي آل- بحكم السنتين كان هناك وهلة طويلة لم ينبس أحد خلالها بشيء أو حتى يتنفّس قبل أن يضيف وقف التنفيذ. عكستْ عينا القاضي آل- اللتان لم يكن لي إلا أنظرَ إليهما (كما نصحني محاميّ) ليس حدّةً فقط بل نوعاً من الطيبة.
القاضي آل- رجل عادل وليس ذا طبع انتقاميّ وليس ممّن يذعنون لإملاءات جماعاتٍ ذات مصالح خاصّة كما قيل. هو معروفٌ من قبل أبي وأبي معروف من قبل القاضي أل-. لم أستفسر لكن ماونت ڤيرنون مكانٌ حيث يعرف الرجالُ أصحاب المهن أحدهم الآخر وربما ينتسبون إلى نفس النادي أو النوادي. لدى أبي عضوية في نادي مركز مدينة ماونت ڤيرنون الرياضيّ غير البعيد عن مبنى المحكمة.
بعد ذلك صافحني أبي بقوة حتى أن يدي آلمتني ثم عانقني وكانت ثمة دموع في عينيه من وراء النظارات وكأن عينيه ارتختا في محجريهما مثل الجيلي وعلى وشك أن تُفلتا نحو الخارج. ناولني مفاتيح سيارته لكي أقلَّ العائلة إلى البيت.

8

كان الأمر قاسياً للغاية على أبي لأن آر-بي- اسمٌ معروف للناس. في ماونت ڤيرنون حيث يسكن هو وأمي لثلاثين عاماً وفي مكان عمله حيث يُنظَرُ إليه كرجل متميّز.
لا أعني أن والدي مشهور مثل شهرة إينشتاين أو أوبنهايمر أو أستاذ أبي في معهد واشنطن الدكتور آم-كي-، أو أنه فطحل في حقله لكنه معروف ومحط إعجاب والعديد من الطلبة يتمنون أن يدرسوا على يديه. شهادة الدكتوراه خاصته في الفيزياء والفلسفة ولربما كان لديه شهادتا Ph.D. وكلاهما من هارفارد ما لم تكن إحداهما من مكان آخر، زار أبي العديد من الجامعات وعلى معرفة بالكثير من الناس.
قبل أن أولد عندما كان آر-بي- حاملَ دكتوراه جديداً نال منحة جامعية من معهد واشنطن في D.C. وهناك ارتبط بأواصر صداقة مع عالم الأبحاث الدكتور أم-كي- الذي حاز جائزة نوبل عام 1958. في شيءٍ ما مثل البيولوجيا العصبية، أو بيولوجيا الخلية. فوق رفّ الموقد في منـزل دايل سبرينغز حيث ترعرعتُ هناك صورة لرجال في بزّات السهرة وأحدهم كان الدكتور كي- وأحدهم كان أبي الذي بدا شابّاً لدرجة يصعب أن تميّزه وهذان الاثنان يتصافحان ويبتسمان للكاميرا. ثمة لطخات ضوئية حمراء على أعينهما بسبب فلاش الكاميرا. الدكتور كي- عجوز يميل إلى الصلع مع بعض الشعر الآخذ بالبياض بلحية مثل لحية التيس تشعّبتْ شُعيراتها وقد يكون آر-بي- ابنَه كما يمكن أن تظن. جادّ ولمّاح وفي الثانية والعشرين من العمر لكنه كان آنذاك قد نشر بعض الأوراق كما يسمّيها هو. وتزوّج من أمي (وهي ليست في الصورة).
توجد صورةُ الدكتور أم-كي- و آر-بي- هذه في أماكن ثلاثة: في مكتب أبي، قاعة إيراسموس في الجامعة وفي منـزل دايل سبرينغز وفي منـزل جدتي على حائط غرفة الجلوس إلى جانب معظم صور العائلة. يحملق فيها الزوار ويتساءلون آه! أهو؟- ليجيب أبي نعم إنه هو. وقد تورّد خجلاً مثل ولد. في الواقع لم أعرفه معرفة عميقة- لكنه كان رجلاً عظيماً، ترك أثراً في حياة الكثيرين وبالتأكيد ترك أثراً في حياتي.
عندما توفي الدكتور كي- منذ سنوات قليلة عن عمر ناهز الثمانين كان ثمة الكثير من النعوات على صفحات مجلة تايم، بيبول، نيويورك تايمز، وحتى ماونت ڤيرنون إنكويرر. اقتطعها أبي كلها وغلّفها بغلاف شفّاف وهي الآن معلقة على حائط مكتبه في الجامعة. كان هناك نعوة في ديترويت فري برِس اطّلعتُ عليها وكان يجب أن أقتطعها وأحتفظ بها لأجل أبي غير أنني نسيتُ أو أنها ضاعت. كنتُ في ديترويت حيث أذهب أحياناً وأبقى في فندق. كنتُ برفقة روستر وكلانا كان تحت تأثير الماريغوانا ونتضاحك ونحن نتصفّح الجريدة التي طالما تدفعني إلى الضحك إذا كنت في مزاج سويّ وأحدنا كان يقلّب الصفحات بسرعة وخشونة مثل ولد يحاول تمزيقها ما لم يكن كلانا ورأيتُ ذلك الوجه على صفحة النعوات وفاة حامل جائزة نوبل ولكزتُ روستر وقلتُ إن هذا الرجل واحد من معارف أبي فقال روستر أكيييد؟ ما تقوله هراء؟

9

كانت فكرة اختلاق زومبي لأغراضي الخاصة منذ خمس سنوات خطرتْ لي في لحظة تألّق عقليّ بهدف تغيير حياتي.
يا يسوع! في تلك المرّات النادرة بوسعك أن تشعر بالخلايا العصبية للفص الجبهيّ التي شحنت كهربائياً تكيف ذاتها مثل برادة الحديد وهي تنجذب إلى مغناطيس.
تُمْطَرُ الأرضُ باستمرار بأشعة كونية هائلة السرعة يقولُ صوت المحاضر. صوتٌ مُضَخَّم. أكان أبي؟ أم أحد آخر يدّعي أنه البروفيسور بي- بخنّته الأنفية وعادته بنحنحة الحنجرة ووقفاته الوجيزة لكي يترك لكلماته أن تتناهى.
أشعة كونية من الفضاء الخارجيّ. بعمر عدة ملايين من السنين. أشد تركيزاً في الطبقات الأعلى مما هي في السفلى. كانت محاضرة قاتمة على مدرج الجامعة. لم أدرِ كيف حدث أن كنتُ هناك. لم أتذكر دخولي المدرج. قد راعى كيو-بي- أن يخبّئ نفسه قصداً لكي يستمع إلى محاضرة البروفيسور بي-، ربما كان يبحث عن نوع من المعرفة أو السّرّ؟ ككلبٍ يبحث عمّا تبحث عنه الكلاب وهي تتشم الأرض وأعينها متيقّظة. باستثناء أنني لابد رحتُ في إغفاءة في الصّف الأخير وحين أفقتُ لم أعِ بادئ الأمر أين كنتُ الذي تكرّر في تلك الأيام عندما لم أكن على قدر وافٍ من التحكم في نفسي كما أنا عليه الآن وفي طريقي لأن أكمل ما يقارب الثماني والأربعين ساعة بلا نوم مُهشِّماً بذلك ما أهشمه. يُصْدِرُ جلدي حرارةً تنبض ولأنفاسي طعم المعدن ولدى رؤيتي يحافظ الناس على مسافة منّي متجنّبين الجلوس في أيّ صفٍّ يجاورني. لم أكن أسكن في البيت في ذلك الوقت بل كان لدي مأوى في مركز المدينة. كان من الصعب أن أستحم هناك، لم يكن هناك ماء ساخن.
كان أبي على المنصّة إلى جهة اليمين. يلتفّ المايكروفون على عنقه. مائتان أو ثلاثمائة طالب في المدرج يدوّنون الملاحظات ولو شاهد أبي ابنَه لما أبدى مايدلّ على ذلك. لكنني على يقين بأنه لم يستطع رؤيتي بسبب الظلام.
المادّة القابلة للحصر والمادة غير القابلة للحصر. ابحثوا في إيحاءات بدايات الكون. كان هناك محاكاة كمبيوترية على شاشة مضاءة في مقدمة المدرج حيث عرّفَها البروفيسور بي- على أنها قطّاع من الكون منذ مائتي مليون سنة. شارحاً كيف تطوّرَ الكون من الانسجام والتوزّع العادل للمادّة حتى وصل إلى الوضع الحاليّ من عناقيد المجرّات العملاقة والمادة السوداء. فما ينوف عن تسعين بالمائة من كتلة الكون تقع في "ثقوب سوداء" لا حصر لها. بذلك يكون معظم الكون عصيّاً عن الاكتشاف بواسطة معدّاتنا ولا "يخضع" لقوانين الفيزياء كما نعرفها.
كان هناك همهمة ودمدمة وتواتر في القاعة. ذلك الاحساس الذي ينتابك بأن الأرض تميلُ أو أن الكوكب ينحرف ويستقرّ تحت قدميك. كان طلبة البروفيسور بي- منهمكين بتدوين الملاحظات ورحتُ أرقبُ رؤوسهم المحنيّة وأكتافهم وداخلني أنّ أيّاً منهم على وجه التقريب قد يكون عيّنة مناسبة للزومبي.
باستثناء: قد تحتاج شخصاً فتيّاً يتمتع بصحة لائقة، ذكراً. ذا طولٍ معيّن، وزن وجسد مكتمل إلخ. قد تحتاج امرءاً يتّصف بـ"مقاومة" و"حيوية". ويتمتّع بأير كبير.
لكن طلاب الجامعة كانوا محرّمين بالنسبة إليّ. بعد تلك الحادثة التي نمّت عن جهل التي، لحسن حظ كيو-بي-، انتهت إلى ما يُحمد عقباه. كان ماوراء الوحدة السكنية معتماً وكان الولد ثملاً وقد انحنى ليتقيّأ و ليحرّض البلعوم على التّقيّؤ وحين رفع رأسه لينظر وقد طرق أذنيه بقوة معدن الإطار مُلقياً به إلى الأرض قبل أن يتسنى له رؤيتي لذلك مرّ الأمر بسلام إذ كنتُ أرتدي سترةً بغطاء رأس ولم يكن هناك شهود، رغم ذلك ذعرتُ وركضتُّ كما لن يسعني أبداً أن أفعل الآن بما أمتلكه من التجربة. لكن لابأس. قد تعلّمتُ درساً.
ومنذ أمد بعيد لدرجة يصعب عليّ تذكّره على وجه التحديد، في إيبسيلانتي، وصلتُ إلى نفس الخلاصة كما أظن. لحقيقة مفادها: أن أيّ طالب جامعيّ (باستثناء الطلبة الأجانب الذين هم بعيدون عن أوطانهم) سيُعْلَمُ بأمر غيابه على الفور. فلديهم عائلات وعائلاتهم تهتم لأمرهم..
العيّنة الأكثر أماناً من أجل الزومبي ستكون شخصاً من خارج البلدة. راكباً متطفّلاً أوجوّالاً أوبائع مخدرات متسوّلاً (في حالة حسنة وليس هزيلاً أومَن أذهبَ به الإدمان أومريضاً بالإيدز). أو من ضواحي سكن السّود في مركز المدينة. شخصاً لايعيره أحدٌ الاهتمام. شخصاً ما، كان يجب أن لا يولد.
سرتُ خارجاً من المدرّج وسطَ دمدمة الأصوات وقصدتُّ مكتبة علم النفس لكي أستخرجَ الجراحة الفَصِّيَّة الدماغية.

10

لهذا السبب: لدى رؤية الكون كذلك (وذلك نسخة طبق الأصل لشيء بائد منذ ملايين السنين!) ألا ترى كم من العقم اللعين أن تصدّق أن أيّ مجرّة تشكّلُ فَرقاً ناهيك عن نجمٍ يتبع أيّ مجرّة أو أيّ كوكبٍ بحجم لا يكاد يتجاوز حبّة رمل في في ذلك الفراغ الحبريّ. ناهيك عن أيٍّ من القارّات أو أيٍّ من الأمم أو أيّ من الدول أو أيّ من المدن أو أيّ من الأفراد.
خطرتْ لي الفكرة في ذلك الوقت لسبب إضافي لأنني كنتُ أكابدُ الأمرين في إبقاء أيري منتصباً مع الأعين المتيقّظة للذكور التي ترقبني في اللحظات الحميمة.

11

كنتُ أسكن شقة من غرفتين على الشارع الثاني عشر في ريردون، لأعود إلى ماونت ڤيرنون بعد قضاء بعض الوقت في ديترويت وكان هذا المكان معروفاً من قبل أبي وأمي وكنتُ أعمل في شركة Ace Quality Box. )كموظف كما كان يظن أبي، وفي الحقيقة كنتُ أقوم بتحميل الشاحنات وتفريغها) أو ربما تركتُ العمل أو طُرِدتُّ عندما زارني أبي. بعد المحاضرة في المدرّج بعدة أيام كما أظن. كان الأمر قد اختلط في ذهني أن كان أبي قد لمحني هناك في الظلام فعيناه تخترقان الظلام ولكن ربما لم يكن الأمر كذلك.
قد بلغتُ السابعة والعشرين وحان الوقت لكي أتحمّل مسؤولية نفسي بنفسي كما قلت لهم. وقد عنيتُ ما أقول.
 )باستثناء: أعطتني أمي بعض المال عندما احتجتُ، ليس عن طريق الشيكات بل نقود حقيقية. بذلك لن يدري أبي(
في الأسبوع الذي تلا عيد الشكر، 1988. كان قد انقضى على اختفاء بوني غلوفز اثنا عشر يوماً لكن لم يكن هناك من ذِكرٍ لذلك في صحيفة ماونت ڤيرنون إنكوايرر أو في التلفزيون المحليّ، ولماذا ينبغي أن يكون؟ انطلِقْ من ديترويت إلى مونتانا ولن يكون هناك ثمة أثر.
كم من المئات، الآلاف في السنة الواحدة. مثل عصافير الدّوري في الهواء تعلو بأجنحتها وتحلّق وتترنّح وتهوي وتختفي وليس ثمة أثر. وليبتلعها الله ذاتُه هو الهيولى المظلمة.
أطراف دايل سبرينغز. رقم 800 هو المكان حيث يعيش آل بي- وحيث نشأ ابنهم كيو-. ضاحية من ماونت ڤيرنون قرب بحيرة ميتشيغان حيث الكثير من الأشجار وأفق لامتناه من الاخضرار المزروع بأزهار إبرة الراعي صيفاً عندما تقود السيارة عابراً الحد (اللامرئي) لمدينة ماونت ڤيرنون. على بُعد ستة أميال شمالي غرب الجامعة الذي هو الآن الحرم الجامعيّ المترامي الأطراف. مركز مدينة ماونت ڤيرنون، هذه المنطقة الخرائية حيث كنتُ أستأجر مسكني على بعد خمسة أميال إلى الجنوب. قال أبي إنه مرّ بالجوار بقصد زيارتي.
الطّرقُ على الباب. فتحتُ عينيّ بسرعة نازعاً الأجفان الدّبقةَ عن بعضها وتسارعت دقّات قلبي بذعرٍ شديد لأن الآن ليس الوقت المناسب.
متلعثماً سألتُ مَن الطارق وأنا أنهض عن السرير متعثّراً بينما ألبس بنطالي. رافعاً السّحّاب. ساحباً البطانية الخاكي على الفرشة. للشراشف الوسخة رائحة الحلوى العفنة. كنتُ آنذاك قد اعتدتّها وكان يستحسن لو جرّبتُ فتحَ النافذة لكنني لم أفعل.
"حسناً،" قلتُ "سأفتح. مهلاً."
وكان الأب. أبي. مرَّ بالجوار ليسأل عن أحوالي.
كانت سلسلة القفل محكّمة. كان البروفيسور آر-بي- يبتسم وقد تقلّدَ وجهه الرّمليّ اللون شبيه القماش المخمليّ وإستَه التّويديّ على فمه ونظارته السوداء البلاستيكية البروفيسورية تركبُ جسر أنفه. تردّدتُ في فتح الباب. حاولتُ أن أقول إنّ الباب استعصى عن الفتح، وإنّ السلسلة قد علقتْ. لكن عينيّ أبي على بُعْدِ بوصاتٍ قليلة من الشّقّ.

خارجاً من حلم مداعبةٍ شبقةٍ مع بوني غلوفز، صوته بالغ الصفاء في رأسي كما لو كان قبل التّبدّل الذي طرأ فيه. وعيناه البنيّتان الداكنتان كأن المعرفة قد تجذّرت فيه والبؤبؤين انكمشا إلى حجم ثقوب الدبابيس.
"مرحباً، كوينتين! هذا أنا! هل أزعجك؟"
مددتُ يدي وفككتُ سلسلة القفل. واحتل أبي العتبة وهو يتفحّص المكان وحابساً الأنفاس من على الدرج. عندما تحوّلت لحية ذقن البروفيسور آر-بي- من بنيّة براقة إلى رمادية غزاها الشيب قام بحلاقتها دون وجل لكن آثار اللحية لاتزال بادية على وجهه. تلك الحدة في صوته.
"يا بُنَيّ؟"
يبدو كلانا بنفس الطول إذا وقفتُ مشدوداً ورفعتُ رأسي في مواجهته. كالعادة سألني كيف أحوالي، وأجبتُه. وسألتُه كيف أحواله، وكيف الأمور في البيت؟ وتبلغك أمك وجدتك محبّتهما. وجوني. الكل يتساءل لماذا لم أتصل ولم أمرّ بهن ويعتورهن القلق (تعرفُ النساء كيف يفكّرن!) ربما أنا مريض. وعينا أبي ترشقان المكان بنظراتهما وكلني يقين أنهما ستتوقفان عند شيء واحد. صمتٌ ومن ثم يسأل، "هذه الخزانة، هي جديدة أليس كذلك؟" صمتٌ. و"ماذا فيها مايستدعي القفل، يا بنيّ؟"
التفتُّ لأنظر إلى الخزانة المعدنية ذات الخمس أقدام التي تستند إلى الركن. بين السرير والحمّام. كأنني لم أرّها من قبل وكأنني نفسي فوجئتُ بها.
"مجرّد أشياء النادي، يا أبي،" أجبتُ. أجبتُ بسرعة. "أحذية العَدْوِ، جرابات. مناشف وأشياء مشابهة."
سألَ الأب، وهذا منطقيّ للغاية، "لكن لماذا تحتاج إلى قفل؟"
كان قفلَ أرقامٍ كالذي يُستخدم على خزانة المدرسة الثانوية. لقد حفظتُ تركيبة الأرقام وتخلّصتُ من مِزقة الورق.
كنتُ أقول، "القفلُ جاء معها، يا أبي. من هيئة المعونة. كانت صفقة رابحة فقط 12 دولاراً. إنه جزء منها. إنها طريقتي في الاستفادة القصوى من الخزانة، كما أفترض."
"مع ذلك، لن تحتاج إلى استعماله. لماذا ستستعمله؟"
البروفيسور المتميّز، جامعة الولاية، ماونت ڤيرنون. درجتان في الفيزياء والفلسفة. زميل ذو أقدمية في معهد ولاية متشيغان للأبحاث المتقدّمة.
عينا أبي وراء نظارته اللامعة. تنظران إليّ عندما كان عمري سنتين وأنا أقعي متبرّزاً على أرضية الحمّام وعندما كنت في الخامسة من عمري أداعب أيري الصغير وعندما كنت في السابعة وتي- شيرتي ملطّخ بدمٍ من أنفِ ولد آخر وعندما كنت في الحادية عشرة عائداً إلى البيت من المسبح حيث غرق صديقي باري وأكثر ما أبدتْ عينا أبي من ضراوة عندما كنت في الثانية عشرة حين اقتحم أبي الطابقَ العلويَّ ومجلات بناء الأجسام تهتزّ في يده. "بُنَيّ؟ يا بنيّ؟"
"م ماذا؟" تأتأتُ. "أنا مصغٍ."
كان أبي مقطّباً. في السابعة والخمسين بفتحتيّ أنفٍ غزاهما الشعر الأسود تتسعان وتنقبضان. "لماذا تتطلّب ,أشياء النادي, قفلاً خاصّاً، يا بنيّ؟ لماذا تنبعثُ من ,أشياء النادي, رائحةٌ كهذه؟"
خطر لي: يظن أبي أني رجعتُ إلى عادة الشّرب من جديد وتعاطي المخدرات من جديد، هل الأمر كذلك؟ انغماسي في العادات القذرة مرة أخرى سيهدد صحّتي؟
أما بشأن بوني غلوفز فماذا يسع أبي أن يعلم؟ هل يتسنى له أن يعلم؟
بين نوابض السرير والفرشة الرقيقة كنتُ أخبّئ سكين تنظيف الأسماك ومثقاب الثلج ومسدس سميث وِسّون المنكّل من عيار38 غير أني كنتُ مشلولاً ولم يُتَح لي أن أقوم بأدنى حركة لأدافع عن نفسي. محدّقاً في يديّ اللتين كانتا ترتعشان بعض الشيء وكأن البناء كان يميد من أساسه. قد تساءلتُ، هل باستطاعتي أن أخنق والدي؟ لكنه سيقاوم، سيستميت في المقاومة، وهو قويّ. وفي المقاومة سيكون كلانا متساويين. كنتُ أحدّق في يديّ كأنني لم أرهما من قبل، كأنني أتعلّم أن اسمي هو كيو-بي- والذي هو أنا، ولن يكون هناك شخص آخر لكي أكونَه، كانت الأصابع قصيرة وبدينة كأصابع الأطفال وقد تقشّرت ثنياتها والأظافر بلونها الحليبي العليل كأنصاف أقمارٍ غير مستوية ومتقصّفة وملأ السخام ماتحتَها. كم من المرات فركتُ يديّ بالصابون الرماديّ الذي ابتعتُه من Ace ونظّفتُ ما تحت الأظافر بنصل السّكين ورغم ذلك عاد كلّ شيء كما كان.
ثم خطر لي الجواب.
قلتُ، "-أراهنُ بأني أعلم ماتكون، يا أبي. إنها رائحة جرذ ميت."
"جرذ ميّت؟"
"أو فأر. ربما فئران."
"أهناك فئران ميتة هنا؟"
أكان يظنها طعاماً، طعاماً فاسداً. أو خراء.
ناقراً على الخزانة بمفاصل أصابعه. كانت الخزانة مطليّة باللون الأخضر العسكريّ ومخدوشة على نحو سيء وصدرت عنها طقطقة حين لطمها. تغضّن وجه أبي بخطوطه التي تشبه المخملَ بالاشمئزاز.
قلتُ، "أعـ عرفُ بأنها ليست الحال التي تربّيتُ عليها، يا أبي، أو جوني، آسف لذلك."
"كوينتين، منذ متى والأمرُ هكذا في هذه الغرفة؟"
"ليس منذ أمد بعيد، يا أبي. يوم أويومان."
"أنتَ نفسك ألستَ مستاءً من الرائحة؟"
"أنا بصدد إجراء بعض التنظيفات في نهاية الأسبوع، يا أبي."
"كنتَ تنام بالصبط هنا قرب هذه الخزانة، هذه الرائحة، ولستَ مستاءً منها؟"
"أنا مستاء، يا أبي. الأمر أنها لاتثير عصبيتي."
"إنه لمن بالغ الإزعاج بالنسبة لي، يا بنيّ، بأن يكون ما تقوله كذباً."
"حسناً، لا أقصد أن أكذب، يا أبي. قد لا يعدو الأمر أنني لا أعرف ماذا كنتَ تسأل."
"أسألُ لماذا تُحكِمُ إغلاق الخزانة بقفلٍ، ولماذا تصدر عنها رائحة. أنتَ تعرفُ عمَّ أسألُ."
"عدا عن الفئران، يا أبي،" قلتُ، "-لستُ أدري ماهو سؤالك."
"والدتك قلقة عليك، وأنا قلق عليك،" قال الأب، "-ليس فقط مستقبلك، بل اللحظة الراهنة. ماهي حياتك هذه اللحظة، يا كوينتين؟ كيف يمكن لك أن تصفَها؟"
"حياتي في ,هذه اللحظة,-؟"
"ألا تزال تعمل في تلك الشركة؟"
"بالتأكيد. اليوم فقط هو يوم عطلتي."
"ما الذي كنتَ تفعلُه هنا عندما قرعتُ الباب؟"
"كنتُ في قيلولة."
"قيلولة؟ في هذه الساعة من النهار؟ مع هذه- الرائحة؟ يابنيّ، ماذا دهاك؟"
هززتُ رأسي. كنتُ ساهماً في الأرضية لكنني لم أكن أراها.
لو نظرَ في الحمّام، أظنّ، لأكلتُ خراء. المغطس الذي لم أمتلك الوقت الكافي لكي أفركه. ستارة الدوش ملطّخة ومبقّعة. ملابس بوني غلوفز الداخلية ملفوفة ومنقوعة بالدم وشعر العانة الذي كشطتُه مبعثر على الأرض.
"يا بنيّ، أنا أتوجّه بحديثي إليك. كيف تفسّر نفسَك؟"
"حسناً،" قلتُ، "-فيما عدا الفئران، لستُ أدري ما المشكلة."
ومضى الأمرُ على هذا المنوال. صاغ فمُ أبي كلماتٍ محدّدةً تخرج مثل البالونات وصاغ فمي كلمات محدّدة وكانت مألوفة لديّ وكان في ذلك بعض الراحة. في النهاية يستسلمُ أبي لأنه لايريد أن يعرفَ ويمسح وجهه بمنديل ويقول، "كوينتين، السبب الرئيسي لمجيئي هو- إن كنتَ تودّ الذهاب معي إلى البيت للعشاء الليلةَ؟ أعدّتْ والدتك فطيرة الكسترد بالموز،" وقلتُ، "شكراً، يا أبي، لكن لا أظن أني جائع. لقد أكلتُ قبل مجيئك."

12

في الثانية عشرة من العمر وفي الصف السابع وأنا أضع نظارات وذراعاي طويلتان ونحيل والشعر ينبت تحت إبطيّ وعلى حوافّ عانتي وأعينهم تنـزلق عليّ وحتى المدرسون وفي حصّة الرياضة رفضتُ الاستحمام رفضتُ أن أمشي عارياً بينهم وأيورهم تلمع وتحكّ صدورهم وبطونهم وبعضهم مفتولو العضلات، فيهم الوسامة ويتضاحكون كالقِرَدة غير عابئين إلا لدى رؤيتي وعيناي اللتان لم أستطع أن أبقيهما ساكنتين دون أن ترشقا وتسبحا بينهم كأسماك المنوةِ وكلّما لمحوني فهموا وستنشطُ وجوههم بالاشمئزاز لوطيّ لوطيّ كوينتين لوطيّ وفي ذلك الحين اقتحم أبي الطابق الثاني ليعاقبني حيث كنتُ أنجز وظيفتي في غرفتي ولينتزعني من ذراعي وإلى الطابق السفليّ ومن ثم الكراج وليريني مجلات بناء الأجسام ودمية كين الذّكَر عاريةً التي كنتُ أتيتُ بها من الملعب وخبّأتها خلف أكداس من الجرائد القديمة ووجهه ممتقع وغاضب وفي ذلك الحين كان لأبي لحية مثل الدكتور أم-كي- وهذه بدورها استشاطتْ غضباً. لاوياً المجلات بين يديه كمن يلوي عنق الدجاج ليتجنّب رؤية الأغلفة والرسومات التي رسمها أحدهم عليها بقلم ذي حبرٍ أحمر مضيئ. ولكي لايرى ما بداخلها من رسوم شبيهة بموديلات أجساد الذكور المفتولة في صفحة المنتصف والشاب الذي كان يشبه ما سيكونه باري خلال سنوات ويزيده وزناً بعدة أرطال وموزة وردية لمّاعة تنتصب عند عانته وأجزاء من الصور قد اقتُطعتْ بمقصّ. هذا عتْهٌ يا كوينتين نبسَ فمُ أبي، لاهثاً، هذا مُغثٍ لا ثم لا، لا أريد رؤية شيء كهذا مرة أخرى في حياتي. لن نُخبرَ والدتك موشكاً أن يقول المزيد لكن صوته خانَه.
قمنا سوية بحرق الدليل. خلف الكراج حيث لا يمكن أن ترى أمي.

13

خزع الدّماغ الجبهي، المعروف أيضاً بـ Leucotomy (من كلمة leuco، التي تعني "أبيض" باليونانية). أكثر أنواع الجراحات النفسية صرامةً واستحالة إذا أُرِيْدَ التراجع عنها. الإجْراء يدمّرُ المادّة البيضاء في كلا الفَصّين الجبهيين اليساري واليميني من الدماغ البشريّ. النواقل العصبية التي تصلُ الفصين الجبهيين بالـ limbic systemوالأجزاء الأخرى من الدماغ بالغة الاستعصاء. النتائج المرجوّة: "تسطيح" الأثر لتقليص الانفعالات، الهيجان، الإدراك العقلي القهريّ والسلوك النفسيّ في الفصاميين والمرضى العقليين الآخرين. الأولاد الذين يبلغون الخامسة من العمر قد يكتب لهم الشفاء إلى حد بعيد.
هذه الصفحة، اقتطعتها بمشرطٍ من كتاب مدرسيّ. وراء أكداس ٍ في خلفية المكتبة النفسية حيث لا يستطيع أحد أن يراني. أستطيع أن ألمح تجسُّدَ الزومبي خاصتي قاب قوسين أو أدنى منّي.
ثمة كتاب آخر ربما أفضل، الجراحة النفسية (1942) من تأليف الدكتور وولتر فريمان والدكتور جيمس و. واطس من جامعة واشنطن-
عندما يغيب المريض عن الوعي أقبضُ الجفنَ الأعلى بين إبهامي وسبابتي وأبعدُها مايكفي عن مقلة العين. ثم أقومُ بإيلاجِ رأس المسبار عبر المحجريّ إلى كيس الملتحمة، محاذراً عدم ملامسة الجلد أو الأجفان، ثم أحرّكُ الرّأسَ حول البؤرة التي يتموضع فيها حتى يستقرَّ إلى قبّةِ المحجر. ثم أعتمدُ على ركبةٍ واحدة، إلى جانب الطاولة، لكي يتسنى لي تسديد الأداةِ بموازاة نتوءِ عظمِ الأنف، وبرفق باتّجاه خطّ الوسط. عندما يتمّ وصول المؤشّر إلى الـ 5 سنتيمترات، أشدّ مقبضَ الأداة مراعياً ما أمكن السير أفقيّاً إلى الحدّ الذي تسمح به حافّة المحجر بغية قَطعِ الألياف عند قاعدة الفصّ الجبهيّ. ثم أُعيدُ سحب الأداةَ جزئياً إلى الوضعية السابقة وأُرسلها أبعدَ حتى عمق 7 سنتيمترات. انطلاقاً من حافّة الجفن الأعلى. مرة أخرى أصوّبُ الأداة بأقصى ما يمكنني من انتباه، وألتقط صورة جانبية لها بهذه الوضعية. إنها الطريقة الأقرب إلى الإحكام الذي يمكن أن يتوخّاه هذا الأسلوب. ثم يلي الجزءُ الحساس. الشرايين في المتناول. مُبقِياً الأداة في المستوى الأمامي، أحرّكها بمقدار 15 إلى 20 درجة وسطيّاً و30 درجة أفقياً، أعيدها إلى الوضعية الوسطى، وأسحبها بحركة ملتوية، مُبدياً  في نفس الوقت ضغطاً كبيراً على الجفنِ لكي أحول دون حدوث نزيف. ثم إلى الاتجاه المعاكس، مستعيناً بأداةٍ مماثلة، عُقِّمتْ للتوّ.
كنتُ مهتاجاً حتى الانتعاظ لدى اقتطاع هذه الصفحات، أدركتُ أنها نقطة تحوّل في حياتي. كم من آلاف عمليات خزع الدماغ عبر المحجريّ أجرى هؤلاء الناس بين عاميّ 1940 و 1950 وكم يسيرٌ إجراؤها، أعلن مؤلف مبادئ علم النفس أنه أجرى أحياناً مايقارب الثلاثين منها في اليوم الواحد مستخدماً فقط مثقابَ ثلجٍ "متواضعاً" كما وصفه!
كان أبي وأمي يأملان أن أصبح عالِماً مثل أبي، أو طبيباً. لكن الرياح لم تسرْ بما تشتهي السفن. غير أني أيقنتُ أن بإمكاني أن أجريَ خزع دماغ عبر محجريّ حتى لو في السّرّ. كلّ ما أحتاجه هو مثقاب الثلج. والشخص العيّنة.

14

في اللقاء الجماعيّ يوم الثلاثاء حثّنا الدكتور بي- على أن نتحدث من القلب. كان هناك أحد عشر منّا. العيون تجنّبتْ بعضها. حسناً يا رجال دعونا نُدحرج الكُرةَ، مَن يريد البدء؟ كان ثمة طنين غريب في قحف رأسي. واصلتُ النظر إلى الوراء من فوق كتفي ومزحزحاً قفاي على مقعد الكرسيّ لكن لم يكن هناك أحد ورائي أو بما كان هناك أحد ما لم أستطع رؤيته. تذكّروا أن ليس لأحدٍ أن يحاكم أحداً آخرَ. تلك هي الخلاصة، يا شباب.
أضواء النيون وبعضها يومض. جدار إسمنتيّ مصمتٌ مطليّ بلون الخردل الأصفر والملصقات الدعائية والنشرات الإعلانية وأوراق التواقيع وصورة ماجِك جونسون عليها رسالة ولا نوافذ باستثناء التي على الباب بزجاجها الثخين المقوّى بالأسلاك الشبيهة بدارات الدماغ وأنا أتساءل إذا كان زجاجاً أحاديّ الرؤية وإذا كنّا تحت المراقبة مثلما يتم تصوير جرذان الاختبار؟ مع أن ذلك الباب الذي دخلناه هو، ,أقسم على ذلك، نفس الباب الذي نمرّ عبره كلّ أسبوع.
حسناً يا رجال دعونا نُدحرج الكرةَ، تحدثوا بصفاء ومن القلب. مَن يريدُ البدء؟
يبدأ بيم، بيم هو فتى أبيض في مثل عمري ذو وجه يشبه الجبن المفتّت وارتجاجات الهالدول وأنف دائم السيلان لذلك هناك التماعة مخاطٍ في فتحتيّ أنفه تشبه قطرات الدموع، حين يبدأ الحديث والضحك والكلام بسرعة لا يستطيع التوقف وأنا أحدّق في الأرض أفكّر فيما يمكن أن يقوله كيو-بي-، لثلاثة أسابيع على التوالي أجلس هنا محدّقاً في الأرض وأبكم-و-أصم مثل الأبله. إذا لم تتعاون/تتواصل ستكون مُخوزقاً. التالي هو الشخص الأبيض الآخر بيرش الأربعيني الذي يرتدي دائماً معطفاً منقّشاً وربطة عنق يكشر عن ابتسامة ويحاول مصافحة الجميع، رآني في الخارج في الطريق ذات يوم ونادى كوينتين! وكأننا أصدقاء ووقفت هناك أحدّق فيه دون تواصل بصريّ بل إلى مستوى الصدر ثم يحدق بي ويدنو مني ويده ممدودة للمصافحة وأنا جامد في حيّزي الشخصيّ حابساً الأنفاس وأخيراً يتراجع قائلاً اعذرني، ظننتك شخصاً آخر أعرفه. والتالي هو ذلك الفتى السمين، ولدٌ أصغر منّي بكرشِ بيرةٍ تهدّلتْ على حزام رعاة البقر مندفعةً نحو ذقنه مثل ضفدع منفوخ. بوز الضفدع هو الاسم الذي أطلقتُه عليه ويتكلم بسرعة أيضاً ويتعرّق ويلهث ورغم أنني لستُ مصغياً إلا أنني لا أستطيع أن أتوقف عن سماعه، بعض ما يختص به من هراء يتعلّق بأنه مسكون بذكرى، لا أستطيع الكفّ عن التفكير، أشعر ببالغ الأسف لسفالةِ إحراق أولاد أخته في حادثة دلقِ البنـزين حول البيت وإشعاله بقصد الانتقام دون أن يعلم أن هناك أحد في داخل البيت وهذا يستغرق وقتاً طويلاً. هناك الفتية السّود الذين كان من بينهم اثنان لابأس بهما أطلقتُ عليهما ڤلڤيت تونغ/ اللسان المخمليّ و زا تيز، هذان الشخصان فنّانان خرائيان بمعنى الكلمة وكلاهما أُخلي سبيلُه بشكل مشروط من جاكسون وقد تمكن كيو-بي- من أن يتعلم منهما ولكن لم يُنشئا تواصلاً بصرياً. لذلك لم أفعل.
نسيتُ أدويتي الصباحية وموعد الغداء ولذلك في طريقي إلى هنا ازدردتُّ حبّتي ,لودز . مع شطيرتيّ تشيزبرغر وبطاطا مقليّة مع شرب بعض البيرة في الڤان، اشتريت عبوة السّت زجاجات من متجر الـ 7-11 وشربتُ أربعاً منها مباشرة، الحنجرة العاهرة جافة جداً. أطوف الطريق السريعة والنهر وهناك قرب سكن السّود. محظور ارتيادُها منذ حُكم عليّ. مجازفاً في أن يوقفني شرطيّ وأنا متلبّس في حالة شرب لكن لا شرطي سيوقفني، شاب أبيض بتسريحة شعر أنيقة يقود ڤاناً بأضواء أمامية وخلفية مقبولة، ضمن حدود السرعة المسموحة، وعلى الخطّ اليميني. حصل كيو-بي- على رخصة القيادة عندما كان في السادسة عشرة وهو على الدوام سائق حذر.
إذاً أنا على مايرام وفي حالة ابتهاج وأصغي إلى الفتية الآخرين أو أبدو كمن يصغي والدكتور بي- مقطب ورأسه تهتزّ كالآخرين، أيضاً كما يصغون ويتقبّلون الأمر كلّه. وأنا لن أجفلَ لأن دوري يأتي بعد الشخص التالي. وأعرف بأنني أزيد من تعقيد كوني لستُ مساهماً في النقاش كما يسميه الدكتور بي-. أعلم بأنه ماضٍ في إعطائي العلامات الدّنيا أو ؟؟؟ (علامات الاستفهام) في تقاريره. لا أحد بصدد إطلاق الأحكام عليكم، يا رجال. فقط تحدثوا من القلب. لن يخرج شيء خارج هذه الغرفة، مفهوم؟
تقوسّت كتفاي ككتفيّ النسر وأنا أحدّق في حذائي وهما حذاءا عَدْوٍ ملطخان بما يشبه الصدأ. كوينـ ـ تين؟ ماذا بشأنك؟ وأفتح فمي لأقول شيئاً ويخرج ذلك الصوت، إنه صوت كيو- بي- لكنه صوت شخص آخر أيضاً، شخص في التلفاز ربما، أو أنني أقوم بتقليد بيم، بيرش، بوز الضفدع، متلجلجاً أقول كم كنتُ مسربلاً بالعار بأن خنتُ الثقة الغالية التي أولاني إياها أمي وأبي وذلك كان الشطر الأسوأ مما حدث لي، ليس مرة واحدة وحسب بل حدث مراراً منذ كنتُ في التاسعة عشرة، رغم أنني لم أُعتقَل قبلها ولم أفعل ما هو خارج عن القانون باستثناء بعض صغائر الأمور. (لا أعرف لماذا قلتُ التاسعة عشرة، بدتْ مجرّد سنٍّ ملائمة. في الحقيقة كانت الثامنة عشرة هي العمر حين وقعت حادثة يبسيلانتي ولكم كانت كبيرة درجة انزعاج أبي وأمي.) قلتُ إني تمنيتُ لو أُرجع الساعة إلى الوراء إلى سنّ الطفولة! وأبدأ العمر من جديد. عندما كنتُ بريئاً وطيباً. عندما كنتُ مع الله. قلتُ إني آمنتُ بالله لكنني لم أظن أنه آمن بي لأنني لم أكن أستحق ذلك. ثمة تلك الطريقة التي يتغضّن بها وجهُ أمي وينطوي عندما تبكي بما أنها تكبر في العمر ووجهي انطوى بنفس الطريقة وكان الفتيةُ مرتبكين وأشاحوا بأنظارهم بعيداً ما عدا بيرش الذي سلّم بالأمر لاعقاً شفتيه كمن يلعق المنيّ والدكتور بي- مقطب ورأسه تهتزّ. أحد الفتيان السود "اللسان المخمليّ" ناولني منديلاً لكن دون أن ينظر إليّ وكان صوتي يتسارع الآن كمقطورة سيّارة أفلتتْ جارية عن طريق جبلية. قلتُ كم أسفتُ على الصبيّ ذي الاثنتي عشرة سنة الذي اتُّهمتُ "بالتحرّش" به (لكن دون أن أسوقَ التفاصيل عن أنه كان أسود ومتخلّفاً عقلياً وزومبياً طبيعيّاً- كما كنتُ أظن!)- قلتُ إني لم أعِ ما حدث بالتحديد إذا كنتُ قد دنوتُ من الصبيّ بنفسي في الزقاق الخلفيّ وراء حاوية الزبالة حيث رُكِنَ الڤان خاصتي أو أن الصبيّ قد تبعني إلى هناك ونال مني دون علمي. لأنه يحصل أحياناً أن تقع أمورٌ لا أستطيع إدراكها. أسرع وأكثر إرباكاً من أن أدركَها. هذا الصبي الي يبدو أكبر من اثنتي عشرة سنة ذو عينين حادّتين كالنّصال يطلب مني نقوداً وإلا سيبلغ عني، طلب عشرة دولارات وحين أعطيته عشرة دولارات طلب عشرين دولاراً وحين أعطيته عشرين دولاراً طلب خمسين دولاراً وحين أعطيته خمسين دولاراً طلب مائة دولار التي عندها لم أستطع ضبط نفسي وصرختُ فيه وهززتُه لكنني أقسم بأنني لم أُلحق به الأذى.
إلى هنا كنتُ أتلجلج وكان وكان وجهي مبللاً بالدمع! لم أكن أعلم أن ثمة دمعاً داخل محجريّ عينيّ قريباً من موضع السيلان وإذ يبدأ يصبح البكاء سهلاً ونصف الفتية كانوا يشيحون بأنظارهم عني والآخرون الذين في معظمهم فتيةٌ بيضٌ كانوا يوجهون أنظارهم إليّ والدكتور بي- كان متوهّج الوجه كمن قذفَ في بنطاله يطرح أسئلة عن الصبيّ وكأن هذا كان ولداً ممّن عرفتُهم في الجوار وليس غريباً بشكل كليّ وأسئلةً غريبة مثل هل شعرتُ بِمَيْلٍ تجاه الصبيّ وهل أحسستُ بأن هذا الشعور بالميل كان ذا أثرٍ وهذا ما يفسّر عدم قدرتي على ضبط النفس، كانت المسألة ضبط انفعالاتٍ خاصة لم أستطع التعامل معها أليس كذلك؟ وخفتُ؟ وكنتُ الآن أرتعدُ مُحاكياً بيم بعض الشيء، ارتعاش الأنامل والفم المتهدّج ووجهي يلتمع من أثر الدموع ورفعتُ ناظريّ إلى الدكتور بي- للمرة الأولى متجرّئاً على افتعال تواصل بصريّ لأن الدموعَ حالتْ بيننا وقلتُ بصوتٍ جهوري واضح وكأنها كانت مفاجأة بالنسبة لي وأعجوبة –نعم يا دكتور. شعرتُ بميلٍ وهذا مايفسّر عدم قدرتي على ضبط النفس.
بعد كلّ جلسة من جلساتنا يصيغ الدكتور بي- هذا التقرير لصالح مكتب مراقبة السّلوك، كما أعلم. ليس متاحاً لنا الاطلاع على هذه التقارير التي تبقى سريّة لكن في ذلك المساء أُبلغتُ شيئاً ما لكي يبعث فيَّ الأمل، الدكتور بي- وهو يمسّد لحيته وكأنها أيره ويبتسم بلطف بطريقة مَن يقدّم إليك هديةً من خرائك الخاصّ. كوينـ ـ ـتين أخيراً أنتَ تحرزُ تقدّماً ملحوظاً، اختراقاً، في ملامستك انفعالاتك يا كوينـــتين!

15


الزومبي الحقيقيّ سيكون لي للأبد. سيمتثل لكلّ أمرٍ ولكلِّ نزوة. قائلاً "نعم، أيها المعلّم" و"لا، أيها المعلّم." سيركع أمامي مرتفعاً بعينيه إليّ قائلاً، "أحبك، أيها المعلّم. وليس مِن أحد سواك، أيها المعلّم."
وكذلك سيتحقّق الأمر، وكذلك سيكون. إذ أن الزومبي الحقيقيّ لا يستطيع أن يقولَ شيئاً لم يحدثْ، فقط الشيء الذي حدث. ستكون عيناه مفتوحتين وصافيتين ولكن لن يكون في داخلهما ما يَرى. ولن يكون خلفهما ما يفكِّرُ. لاشيء يُطلِقُ الأحكام.
مثلك أنتَ الذي تراقبني (أتظنُّ أني لا أعرف بأنك تراقب كيو-بي-؟ تصوغ التقارير عن كيو-بي-؟ تتداول مع مَن هبّ ودبَّ بشأن كيو-بي-؟) ولتقلِّبْ أفكارك السريّة- دائماً وأبداً تُطلِقُ الأحكام.
لن يطلق الزومبي الأحكام. سيقول الزومبي، "بارك الله بك، أيها المعلّم." سيقول، "أنت معطاء، أيها المعلّم. أنتَ لطيفٌ ورحيم." سيقولُ، "نكني في الإست، أيها المعلّم، حتى أنزف أمعاءً زرقاء." سيتذللُ كي يحظى بطعامِه وسيتذلل من أجل أوكسجينٍ يتنفّسه. سيتذلل لكي يستعمل التواليت حتى لا يُدنّسَ ملابسَه. سيكون بمنتهى الاحترام في كلّ الأوقات. لن يضحك أو يبتسم أو يُجعِّدَ أنفَه علامةَ الاشمئزاز. سيلعقُ ولسانُه مستور. سيرضع وفمه مستور. سيفرشُ فردتيّ طيزه وهما مستورتان. سيضمُّ كما الدبُّ الدميةُ مستوراً. سيريحُ رأسَه على كتفي مثل رضيع. أو سأريح رأسي على كتفه مثل رضيع. سنأكل شرائح البيتزا من أصابع بعضنا. سنستلقي تحت أغطية سريري في غرفة ناظر الأملاك نُصغي إلى ريحِ آذار وأجراسِ برجِ مدرسة الموسيقى وهي تدقّ وسنعدّ الدّقّات إلى أن يداعبَ الكرى أجفاننا تماماً في نفس اللحظة.

16

اشتريتُ مثقاب الثلج الأوّل خاصّتي، في آذار 1988. أقود ڤاني على الطريق 31 خارجاً من شاطئ بحيرة متشيغان وعبر البلدات الواطئة ستوني ليك، سيبل بوينت، لودينغتون، بورتاج وأركاديا. بسترتي الطويلة، غطاء الرأس الصوفيّ، نظارتيّ وقد زلقت فوقهما عدستين شمسيتين ببلاستيك داكن، ذقنٌ لم تحلق منذ أسبوع تاركاً لصوتي أن يبقى خفيضاً أجش وأنا أتوقف في متجرٍ عند تقاطع طرقٍ يبع لوازم البقالة والخردوات ولم يكن في عملية الشراء مشكلة ولم يكن هناك ما يبعث على الارتياب. عجوزٌ يشاهد التلفاز قرب موقد حطب ويدقّ سعر السلعة على صندوق محاسبة عتيق الطراز ووجهه ذاوٍ مثل الخوخ المجفف وأقولُ، على سبيل الدّعابة، رجلٌ يحتاج مثقابَ ثلجٍ لعين في هذا الوقت من السنة، هه؟- الشتاء اللعين، يختلس العجوزُ نظرة إليّ وكأنه لايعرف اللغة الإنكليزية لذلك أقول، بابتسامة وجاعلاً منها نكتة، هذه العواصف الثلجية، هه؟- شتاء متشيغان اللعين وهذه المرة يبدو أن العجوزَ الضّرطةَ يسمع أو على الأقل ينخرُ بشفتيه ويوافق. وأنا أفكّر لو طُلبَ منه مستَقبَلاً تَعَرُّفَ هوية مشتري مثقاب الثلج إيّاه وعرضِ صورة كيو-بي- عليه (حليقاً، بنظارات عادية ودون غطاء رأس) لهزَّ رأسه وقال لااا، إنها لا تشبهه من قريب أو بعيد.


راكناً الڤان عند نقطة تطلّ على شاطئ الجليد المتراكم والبحيرة والسماء رمادية وثمة وهج يمنعك من أن ترى أين ينتهي أحدها وأين يبدأ الآخر لكي ترتقيَ من الدنيا إلى السماوات إذا كنتَ ممن يؤمنون بهذا الخراء الذي لا يؤمن به كيو-بي-! لديّ في يدي مثقاب الثلج في طريقه لأن ينغرز وينخسَ ويطعنَ هدفه وفي حالة اهتياج مباغتة دون سابق إنذار أقذفُ في بنطالي قبل أن أُنزلَ السّحّابَ اللعين، آه يا يسوع أهو نذير بما هو آت؟

17

صباحا الإثنين والخميس هما موعد جمع الزبالة في شارع نورث تشرش. لذلك أجرّ البراميل البلاستيكية الصفراء باتجاه زاوية الرصيف عند الساعة السابعة والنصف صباحاً ولا أتذمّر من ذلك لأنني ممّن يستيقظون باكراً ولستُ أحتاج النوم الطويل مثل ضعاف الناس. مرتدياً بلوزتي وقبّعة عليها شعار فريق تايغر للبيسبول وناظراً أمامي بالضبط حيث أمشي وكأنني امرؤٌ يتدبّر شؤونه الخاصّة وهناك هذا الصوت من السماء اللعينة!- هناك صوت ذلك الطنين!- وكدتُّ أن لا أسمعه ثم سمعتُه وطاف في الأرجاء وكأن المكانَ ڤييتنام وأنا كائن أثب ناخراً كما في السينما وكان أحد المقيمين!- واحد من المقيمين هو رامد المهذّب في طريقه إلى الجامعة وقد اعتمر غطاء رأس كولد صغير بوجهٍ كوجه ولد صغير وعيناه مثل تمرتين ليّنتين وهو يسألني إذا كنتُ في حاجة لأيّ عون؟ أحدّق فيه، هناك اتصال بصريّ لكن لوهلة خاطفة ثم عدتُّ إلى رشدي، أجيبه قائلاً شكرا لا إنه واجبي. لكن أشكرك.

18

يسأل الدكتور إي- ما هي طبيعة خيالاتك، يا كوينتين؟ وأنا خالٍ من التعبير وصامتٌ محمرّ الوجنتين كما حين كنتُ في المدرسة أعجز عن إجابة سؤالِ مُدرِّسٍ ولا حتى (وأنظار الجميع تعلّقتْ بي) فهمَ معناه. لأقولَ في نهاية الأمر، بصوت شديد الخفوت ما حدا بالدكتور إي- أن يكوِّر راحتَه حول أذنه ليسمع، أظنّ بأنه ليس لديّ شيء منها- تلك التي تسميها "خيالات"، يا دكتور. لا أدري.

19

في فترة بوني غلوفز، رايزن آيز، وبيغ غاي لم يكن لي وسيلة للدخول إلى مأوى ناظر الأملاك وبالتأكيد إلى القبو في 118 نورث تشرش. فقط الڤان خاصتي والشقة ذات الحجرتين في الشارع الثاني عشر. مغطس الحمّام.
كانت إجراءاتي بسيطة وباستمرار كان هناك ثمة مايعوقُ اختباراتي. ينبغي أن يُشَغَّلَ مذياعٌ بصوتٍ مرتفع، موسيقى الميتال الحادّة على إذاعة WMWM من مدينة مسكِغون وأحياناً ستردُ بعض الإعلانات اللعينة، شيء من صوتٍ غريبٍ متطفّل في لحظةٍ دقيقةٍ. ولو ارتعشتْ يداي أو إذا لم أكن قد أخذتُ جرعة الميثاكوالود ولم أستطع أن أؤدّي ما نذرتُ ليديّ أن تقوما به كما في حلم حين تخطو في الغراء. إذا حدث وأصابني اهتياجٌ عاتٍ على الفور. فياللخراء.
بوني غلوفز مَن تركتُ هذا التّوق له، كونه الأول، تشنّج كمجنون حينما دفعتُ بمثقاب الثلج إلى الزاوية كما في الرسم التخطيطي عبر "المحجرِ العظميّ" أعلى مقلة العين (أو فلتكن ماكانت، فهي عظم متكسِّر) وصرخ من خلال الإسفنجة التي حشرتُها وربطتّها في فمه قاطعاً أسلاك الرّبط التي تقيّد كاحليه غير أنه لم يستعِدْ وعيَه وهو يحتضر في غضون اثنتي عشرة دقيقة أجريت خلالها ماءً بارداً على وجهه لكي أغسل آثار الدم وأُعيده إلى الوعي. زومبيَّ الأول- استحقَّ درجة الـ  F اللعينة.
عاش رايزن آيز سبع ساعاتٍ في المغطس مستعيداً الوعي أحياناً وشاخراً أو محشرجةً أنفاسه لذلك حسبتُ أن العملية آتت مفعولها! آتت مفعولها! ها هو زومبيَّ! لكن كان عليّ أن أرفعَ جفنَ عينه المتبقية ("أنجزتُ" واحدةً فقط) وأثبّتَها بلاصقٍ، فلم تبقَ أبداً مفتوحةً بشكل تلقائيّ. حركتُ ذراعيه وساقيه لكي أحرّضَ الدورة الدموية. قبضتُ واعتصرتُ أيره (الذي بقي رخواً ورطباً بارداً مثل أحشاء الدجاج) لكن شيئاً لم يحدث. وهكذا انتهى الأمر ويا لك من مخفقٍ خرائيّ.
كان بيغ غاي في ذلك الحين أكثرهم وعداً إذ أنني ظننتُ أنني تعلمتُ كيف أستخدم مثقاب الثلج بإتقان، إنها مهارة يمكنك أن تكتسبها بالمران، باستخدام مطرقة كما قال الدكتور فريمان بدلاً من، ما درجتُ على استخدامه، مجرّد الطّرْق براحة كفّيَ اليسرى، لإيلاجِ مثقاب الثلج في "الفصّ الجبهيّ." كذلك، كان بيغ غاي نصف- زنجيّ  نصف هنديّ أميركيّ ترك الجامعة لاعب كرة السلة- تاجر مخدرات من لانسينغ كان أمره غريباً، كان يتمتع بصحة كاملة، أقصد إنه بدا صحيح البدن، شعره أسود كثيف لامع أطرافه رشيقة قوية، عضلاته، بطنه المستوية وشعر الصدر وعضوه بطول قطعة السجق، بشرته سمراء خوخية جذابة جعلتني مهووساً بلعقها بلساني وبأسناني لدرجة القضم. حتى أصابع قدميه، أصابع قدميه الكبيرة!- أنا مأخوذٌ به. رغم أن بيغ غاي خذلني كالآخرين لأنه لم يستعِدْ ما يسمونه الوعي بعد الجراحة ومثل رايزن آيز كان يتنفّس بهذه الانقباضات الراعشة العميقةِ الغطيط بعد أن انتزعتُ الاسفنجة لظنيَّ أنه كان يختنق بها. هاي؟ هاي كفاك دَلَعاً؟ أنتَ على مايرام افتحْ عينيك؟ لكن العين اليسرى التي أولجتُ مثقاب الثلج فيها كانت تالفة والعين اليمنى لم تكن أفضل بكثير، تدحرجتْ إلى عمق الرأس كأنما لم تكن عيناً بل شيئاً آخر. عاش بيغ غاي خمس عشرة ساعة فيما أظن وهو يحتضر بينما أنكحه في الإست (ليس في المغطس بل في فراشي) لكي أهيئه كزومبي وتبيّنتُ أنه كان ميتاً عندما استيقظتُ أثناء الليل للتبوّل شعرتُ كم كان بارداً، الذراعان والساقان اللتان أدليتهما فوقي ورأسه على كتفي لكي أحتويه لكن بيغ غاي كان يتصلّب بسبب التيبّس المَواتيّ لذلك أصبتُ بالذعر لفكرة أنني قد أعلقُ في تطويقه لي!
الزومبي الثلاثة- كلهم استحقّوا درجة الـ F.
وأنت يا كيو-بي- لا تفقدن الأمل. ولم أفقده حتى هذا اليوم.

20

كيف لحادثة بكماء أن تغيّرَ مجرى حياتك.

كان من المفترض أن ألتقي أحد الأشخاص، ولد من جامعة واين، عند نافورة في منتزه غراند سيركُس، وسط مدينة ديترويت، كانت ليلة صيف رطبة وحارّة منذ سبعة أو ثمانية أعوام وكان كيو-بي- في المدينة في نهاية الأسبوع وحيداً بوجه متألّق وسطّ مدمنيّ الخمر وفي كل مكان زرَقُ الحمَام تنبثق النافورة من تمثال طائر الرّعد بعضهم قد غاب حتى لتُخطئ الشابَّ من العجوز، الشخصَ الأبيضَ من الأسود، العيون المحتقنة بالدم أو غشَتْها مادة مخاطية وبشرة رمادية أصابها البلى كرفاتٍ للتوِّ نُبش. صادف الوقت آنذاك فيما أذكر الدورة التي كنت أخضع لها لأصبح وكيلاً عقارياً في ماونت ڤيرنون، فكرة أختي الأكبر جوني وكانت فكرة منطقية، لكنها لم تثمر. ربما لأنني كنتُ أشرب أكثر مما ينبغي لكنني لم أكن سكّيراً، بالتأكيد لم أكن ما يُسمى سكّيراً بل كنتُ ثابتاً في مشيتي ومُرَكِّزاً في رؤيتي، صلباً كالفولاذ. وكنتُ أبدو أنيقاً للغاية في بنطال الجينـز الضيّق وسترة الجلد الضيقة التي ارتديتها لأسباب تتعلّق بالأناقة على الرغم من من حرارة التسعين درجة، شعري مفروقٌ ومزيّت وممشِّط من جبهتي باتجاه الوراء ليلتفّ بالضبط تحت أذنيّ. للتوّ نهضتُّ من النوم دائخاً غير مدرك في بادئ الأمر أين أنا في شرفة إحدى دور السينما الفخمة القديمة على شارع وودوورد حُب الصبيّ المتّقد والنشوات المحرَّمة. والساعة الآن الثانية منتصف الليل ومنسلاً من الأضواء رغم أن شارعيّ وودوورد وغاريوت كانا بالفعل مهجورين. وانتظرتُ صديقي، وانتظرتُ، ولم يأتِ وكنتُ منـزعجاً لتبديد ليل السبت ومضيتُ إلى بعض الحانات على شارع غراند ريڤر ولابدّ أنني قد ثملتُ وبعد ذلك وبينما أسير على الرصيف أُمسِكتُ من الخلف من قبل اثنين أو ثلاثة مهاجمين مجهولين، ربما كان أكثر منهم يقفون ويراقبون، أعصابة زنوج؟- مجرّد مراهقِين لكنهم ضخام وأقوياء ويضحكون بهجة مُخَدّرين حتى مُقَلِ العيون مُلقين بي أرضاً كأن الأمر رفسة كرة قدم على الرصيف الوسخ وركلٌ ركلٌ مزيد من الركل هادرين أين محفظة نقودك، يا رجل؟ أين تلك المحفظة؟ للتوّ رأيتُ عربة شرطة تعبر التّقاطعَ لكن لم يأتِ أحدٌ لنجدتي، لو كان هناك شهود في الشارع لما كانوا ألقوا بالاً بل مضوا في طريقهم، أو وقفوا يتضاحكون على أبيض يُضربُ بكل ضراوة، وقد تكسّرتْ نظارتاه وأدمي أنفُه وكلّما تلوّى أكثر كسمكة على صنّارة كلّما ضحك الفتية أكثر وصاحوا ممزِّقين سترتي الجلدية وخطفوا محفظتي في ثوانٍ لكنهم لايزالون يضحكون، وهم يترنّمون بـ أين محفظة نقودك، يا رجل؟ أين تلك المحفظة؟ كأنها كلمات نوعٍ من موسيقا زنجيّة التي يرجح أنها كانت كذلك. وأنا أنشج وأحاول أن أقول لا! لا تؤذني! آه أنتَ أرجوك! لا, لا! ليس كولَدٍ بل كطفل، ربما كرضيع، أبولُ في بنطالي وحين ينقضي الأمر ويلوذون بالفرار لن أعرف إذا كنتُ لا أزال أنشجُ، محاولاً أن أخبّئ وجهي، أنثني مثل دودةٍ تتلوّى جاهداً أن أقيَ باطني بركبتيّ، وبعد ذلك بوقت طويل يأتي أحدٌ ما ليحدّق إليّ ويسأل، يا رجل، أأنت على قيد الحياة؟ هل تريد الإسعاف أو شيء من هذا القبيل؟
كنتُ كمن حلّت عليه الرّويا عندما رأيتُ وجهي في اليوم التالي.
أنظر مواربةً وأنحني مقترباً من المرآة لأن نظارتيّ ضاعتا، وكان هناك هذا الوجه! الوجه الخياليّ! مليئاً بآثار الضرب والضمادات (ولايزال الدم يرشح بطبيعة الحال) وتمّ تقطيب الجروح (أكثر من عشرين قُطْبة على ثلاثة جروحٍ بليغة أجريتْ لي في مشفى ديترويت العمومي) والكدمات على الشفتين اللتين تورّمتا وكان هناك لطخة الاحمرار والهالة السوداء حول العينين الغريبتين عنّي.
وأيقنتُ حينها أنه يمكنني أن أتعايش مع وجه غريبٍ عني. غريب في أيّ مكان في العالم. أستطيع أن أتنقّل في العالم بصفة شخص آخر. يمكنني أن أستثير الشفقة، الثقة، التعاطف، الاستغراب وأبعثَ الرّوعَ بوجه كهذا. قد أَلتهمُ قلبَك ولن تدري بذلك، أنتَ، يا بخش  الطيز.


تصدر قريبا

مترجم سوري مقيم في أميركا
ahmadarwad@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق