السبت، 30 يوليو 2016

«لعل الخريف هو اللحد» الشعر بين التوثب والانزياحات الجمالية

 مفيد عيسي أحمد

تاريخ النشر: 01-01-2014


قليل من النصوص الشعرية تحتفظ بألقها وروحها بعد الترجمة، فترجمة الأدب الشعر خاصة، مهما بلغت من دقة وأمانة حسبها أن تنجح في الحفاظ على روح النص الحقيقية، من هذا القليل نصوص حافظت بنسبة كبيرة على ألقها وزخمها الأصلي، هي نصوص الشاعر الأمريكي روبرت بلاي «في ديوانه» لعل الخريف هو اللحد، ترجمة: أحمد.م.أحمد، دار أرواد، طرطوس، عام 2013

اشتغل بلاي في نصوصه على مواضيع متأتية من الحياة اليومية العادية والتي قلما تشكل محرضاً ودافعاً إبداعياً، وهي مواضيع تصعب الكتابة عنها وتشكل تحدياً حقيقياً للمبدع كما في قصيدة «أقود السيارة نحو نهر لاك كوي بارل»

هأنا أقود عند الغسق في مينيسوتا
حقل الهشيم يتمسك بآخر فلول الشمس
العالم الصغير
يضمحل في حقول الليل النائية
في الطريق من ويلمر إلى ميلان

الموضوع في هذه القصيدة ينبثق من الفعل «قيادة السيارة، الانتقال» لكن ليس هو محور القصيدة، هو مولّد لهذا الموضوع فقط، والملاحظ أن هناك أكثر من قصيدة تبتدئ بهذا الفعل، قيادة السيارة، وبأفعال أخرى ذات طابع حركي  كما في قصيدة «المرور ببستان أثناء رحلة قطار»  هذا ما يعطي هذه النصوص طابعاً حيوياً.
لم تقتصر النصوص على تلك المواضيع بل أضافها إلى تلك المواضيع ذات الطابع الوجودي والإنساني العام.
استفتح قصائده بعناوين ذات علاقة عضوية بقصائده، اتصفت هذه العناوين بالطول غالبا،ً تصل بعض العناوين إلى عشر كلمات كما في هذا العنوان «أقود باتجاه المدينة في ساعة متأخرة، لكي أضع رسالة في البريد» لا ندري إن كان العنوان طويلاً هكذا أم إن الترجمة أطالته، هذا العنوان يستفتح قصيدة قصيرة لا تتعدى مقطعاً واحداً:

إنها ليلة باردة وثلجية،
الشارع الرئيسي خاو
الأشياء الوحيدة التي تتحرك
دوامات الثلج
حين أفتح غطاء علبة البريد
أحس ببرودة الحديد

رغم قصر القصيدة إلا أنها استوفت شروطها الإبداعية في التعبير عن الوحشة المحيقة به وهو يضع الرسالة في صندوق البريد.
يعمل بلاي في كل القصائد على رصد التفاصيل الدقيقة ليوظفها دلالياً في صور شاملة ذات أطياف جمالية  متعددة، يفعل ذلك من دون تكلف أو ابتذال، تبدو مكونات هذه الصور متسقة أحياناً تشكل جملة تعبيرية واحدة، بينما في أحيان أخرى تكون قائمة على التناقض الذي يؤجج  اثرها التعبيري والجمالي أكثر، كما في هذه الصورة:

ثمة في الأوردة أساطيل تمخر
انفجارات طفيفة عند مستوى الماء
ونوارس تحوم في ريح باردة

تحضر الأنا في بعض القصائد من دون أن تقحمها في الذاتية، ذلك لأن الشاعر نجح في صبغ  الحالات التي تناولها في تلك القصائد بطابع إنساني عام، فالأنا هنا حامل وليست غاية ومحور القصيدة، كما في القصيدة التالية:

كم أتوق إلى مجيء الليل
من جديد.. أنا أمضي طوال الظهيرة
وطلوع النجوم الهائلة
على مد السماء.. المساحات السوداء بين النجوم
وتلاشي الازرقاق.

أغلب القصائد تحافظ على وحدتها بنائياً وذلك بشكل متماسك  تمضي بشكل هارموني يكسبها طابعاً درامياً، كقصيدة «بعد أسبوع من وفاتك، رؤى في الكوخ، لماذا نموت»
لا ينسحب هذا على كل القصائد ففي بعضها تتخلخل هذه الهارمونية بانتقالات أو انزياحات تحرفها عن خطها الواحد، لتكسبها جمالية غير متوقعة ، نجد ذلك في قصيدة البيضة القاتمة:

رجل يتكئ على شفير مركب
يحدق إلى البحر
ساعة بعد ساعة تقع عيناه
على أسد يطلع إلى الأعلى
اذ ينظر إلى السماء
يبصر بيضة قاتمة.

مجمل النصوص لا تسعى وراء الابهار، لذلك لا نقرأ فيها مبالغة أو تصعيداً، النصوص تجري بشكل هادئ  ومشحون بطاقة وافيه، وهو ما يجعل الدهشة الناجمة أرحب وأكثر دواماً وتأثيراً، أجواء بعض القصائد تستمر فترة أطول بعد مغادرة القصيدة، كقصيدة «خريف سري» وهي قصيدة جميلة مشغولة بحس ما ورائي:

ما الذي ولد..؟ الشتاء .؟
كان الفراعنة على حق إذاً
كل شيء يلتمس فرصة لكي يموت
لكي يبدأ في هواء الخريف.

وقد عنون المجموعة بشطرة شعرية من هذه القصيدة، لكن ما يفاجئك في القصيدة هو اختلاف دلالة ومعنى العنوان كشطرة مجتزأة عنها كشطرة في سياق قصيدة أو مقطع من قصيدة، فالعنوان هو «لعل الخريف هو اللحد» وهو ذو دلالة واضحة تقوم على الاحتمال، مع وجود حالة ثابتة هي حالة الموت، في القصيدة تتغير الدلالة بتغير الحالة، ينزاح الاحتمال الخاص بالخريف القاضي بكونه لحداً أم لا، ليصبح احتمالاً بأن يكون الطفل قد ولد منه أم لا.

لعل الخريف هو اللحد
الذي ولد منه الطفل
يداخلنا سرور دفين
ثم لا نقول لأحد شيئاً

في المجموعة  نصوص أخذت شكلاً مختلفاً ربما تماشياً مع مضمونها وبنيتها النثرية، لا يمكن إغفال تأثير مسألة الشكل على أسلوب القراءة، فهذه النصوص تبدو كدفقة لا يمكن التوقف أثناء قراءتها، وهي أقرب للتداعيات أو الهذيان، تتميز هذه النصوص عن الأخرى بنزوع تخييلي أوسع، وبمفارقات غرائبية تجعلها أقرب للسوريالية هذا ما نجده  في «الترحيب بالطفل على كثبان ليمانتور، أنظر إلى طائر نمنمة ميت في يدي، شجرة جوفاء، الخروج لتفقد النعاج، المشي بتؤدة وجسد ميت».
حفلت المجموعة بفيض من أسماء الأماكن والأشخاص، وظفت هذه الأسماء في النصوص فشكلت دالات تعبيرية ومفاتيح جمالية ينطلق منها ومن المحسوسات الأخرى إلى اللاشعور ويؤوب في حركة تبدو أحياناً أقرب للتنازع.

تذخر النصوص بتنوع وغنى بالقاموس اللغوي، يتضح ذلك من الألفاظ الخاصة بحالة واحدة، وهو ما  حافظت عليه الترجمة وهذا يحسب للمترجم إضافة إلى أن الترجمة لم تنل من أثرها الجمالي، قد يكون مرد ذلك إلى أن المترجم عرف الثقافة الأمريكية بالاحتكاك المباشر بها، إضافة إلى كونه ليس مترجماً فقط، فهو شاعر في الأساس، هذا ما هيأ له ترجمة موفقة حافظت على ألق النصوص وروحها.

النصوص  تنم عن سعة وعمق الخبرة الشعرية، لاسيما أن بلاي ذو تجربة عريقة ومعروفة في الولايات المتحدة الأمريكية،  بدأت من أيام الدراسة الجامعية، وهو معروف بنظرية في الشعر سماها «الشعر الوثاب» الجدير ذكره أن بلاي كان عضواً في مجموعة «كتاب أمريكيون ضد حرب فييتنام» التي رفضت العدوان الأمريكي على فييتنام.


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : تشرين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق