جاد الحاج
تاريخ النشر: 21 أيار 2013

في
البداية نشر سركون القليل الخجول من ترجماته لشعراء تلك المرحلة، وذلك لهوسه
بالدقة والإتقان، ولخشيته ألا تفي ترجمته حق القصائد التي أحبها، فأراد تلقائياً
أن يعيد توليدها بلغته الأم. إلا أن إصرار يوسف الخال شجعه على المضي في المطالعة
والترجمة، وبدأ يرسل ما لديه إلى مجلة « شعر» مدخلاً إلى العربية عالماً إبداعياً
بالغ التجديد والغرابة، تاركاً أثراً عميقاً في نتاج شعراء السبعينات الذين كانوا
جائعين إلى خميرة جديدة لعجينهم الحارّ، فوجدوا في شعر الفوضويين الأميركيين
ملاذاً لتسكعهم على هامش المشهد الثقافي في تلك المرحلة. أما الترجمات الأربع التي
نراجعها اليوم، فهي تعكس نتاج أبرز أركان التجديد في بريطانيا والولايات المتحدة:
ميروين، غينسبرغ، أودن وهيوز.

يعيش
شيخ شعراء أميركا على قمة إحدى تلال جزيرة هايكو في هاواي. صدر ديوانه «أسفار» سنة
1995 وتلاه «ظل سيريوس» سنة 2009 وفي ما يلي مقطعان له من ترجمة سركون بولص:
في
الأشجار الصفراء يهطل المطر
الليل يرسل عالياً طيوره البيضاء
الشتاء تدخله دواجن
الظلام لكنني نادراً ما افكر بكِ
لم تفقدي شيئاً تحتاجينه وأنت تدخلين الموت.
من
البساطة بمكان أن تستدير
إلى صوت الصقيع
حين يتقلب بين نجومه كحيوان نائم
في
ليل الشتاء
وأن تقول ولدت بعيداً من بلادي
إن كان هناك مكان هذه لغته
فليكن
وطني.

«رأيت
أفضل العقول في جيلي وقد دمرها الجنون، يتضورون عراة ومهسترين (...)
من
سافروا إلى دنفر، من ماتوا في دنفر، من رجعوا إلى دنفر وانتظروا بلا جدوى، من
سهروا على دنفر وقرفصوا وتوحدوا في دنفر وأخيراً غادروا ليكتشفوا الزمان، وها هي
دنفر الآن تستوحش لأبطالها».
في
مساء دافئ من شهر تشرين الأول سنة 1955 جمع غينسبيرغ خمسة شعراء ناشئين وقرأ
معهم»عواء» في إحدى غاليريات سان فرانسيسكو على مسمع من حفنة مثقفين وطلاب. يومها
علّق الشاعر مايكل مكلور قائلاً: «كان واضحاً أن حاجزاً قد سقط، الجسم والروح كانا
محشورين في الجدار الصلف الذي كانت تمثله أميركا بعد الحرب العالمية الثانية:
العسكر وسلاحا البحر والجو والأكاديميات على أنواعها ونظام المؤسسات والملكية
الفردية، ناهيك عن القوى التي تحميها، كلها وقعت من مراكزها».
ومع
استمرار الخضة التي أثارتها «عواء» وظهور مقاطع منها على جدران الجامعات، ادعت
النيابة العامة في سان فرانسيسكو على غينسبيرغ بتهمة البذاءة. وطلب النائب العام
شطب عدد من سطور القصيدة، خصوصاً في ما يخص الجنس والمخدرات. لكن القاضي لم يوافق،
وقال: «هل يبقى لنا شيء من حرية التعبير لو طالبنا بتحديد المفردات اللائقة
بالنشر؟».
استلهم
غينسبيرغ في ملحمته الحديثة تجربة وولت ويتمن التي حررت الشعر الأميركي من طغيان
المقاييس الكلاسيكية. كان غينسبيرغ مهتماً، على غرار ويتمن، بالحرية الفردية
وبمصير الديموقراطية، خصوصاً بعد الملاحقات التي طاولت المثقفين في عهد مكارثي.
وعلى غرار ويتمن أيضاً، انصرف غينسبيرغ إلى روحانية شرقية – رومانطيقية تستوحي
التعاليم البوذية وتتوخى أحادية تجمع المخلوقات الحية في تناغم واحد وانسجام خالد.
ومن
ذلك المنطلق كانت له مواقف تخطت الجغرافيا الأميركية إلى قضايا عالمية، كحرب
فييتنام وكفاح البنغال للحصول على استقلالهم، فكتب دفاعاً عنهم ملحمة في مئة
وخمسين بيتاً أنشد بعضها بوب ديلن، وهي بعنوان :» أيلول في شارع جيسور».
من
الشعر البريطاني

كان
أودن أشرس المدافعين عن حق الشاعر في تغيير مجرى الأحداث في زمنه، ولم يترك مجالاً
من مجالات التجديد إلا وغاص فيه حتى القعر فكتب في المسرح والأغنية والمقالة
والدراسات... وبقي مؤمناً بوجود قوة عليا تحكم مسار الكون أطلق عليها في إحدى
قصائده اسم «القانون الخفيّ»:
«القانون
الخفي
لا ينقض قوانيننا في الاحتمال
لكنه يأخذ كلاً من الذرة والنجمة
والكائنات
البشرية كما هي
وعندما نكذب لا يجيب.
هذا هو السبب في أن كل الحكومات
تعجز عن
تشريعه تماماً
وما التفسيرات القانونية سوى وصمة
على وجه القانون الخفي.
إن
صبره المطلق
لن يحاول أن يوقفنا إذا اردنا أن نموت:
عندما نهرب في سيارة
عندما
ننساه في بار،
ما هذه كلها إلا طرق
يعاقبنا بها القانون الخفي».

ولعل
قصة تيد هيوز وزوجته الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث واحدة من المآسي الدرامية
النادرة في العصور الحديثة، بل تمكن مقارنتها بالمشهد العاطفي في المآسي
الأغريقية، حتى أن المقارنة بينها وبين روميو وجولييت تبهت حيال التأزم العاطفي
الذي عاشه الشاعران طوال سبع سنوات من قرانهما، الذي انتهى بانتحار بلاث سنة 1963
وعزلة هيوز حتى وفاته سنة 1998.
ويبدو
صعباً تصديق الفترة الزمنية التي قاربت ربع قرن لإنجاز مجموعة شعرية صغيرة الحجم
كهذه، لكن قصائدها القصيرة تطفح بخبرة ومراس وإبداع قل نظيرها في أي مكان او زمان.
في سطورها يجتمع العادي والخرافي، المحلوم والمعيش، السريالي والرومنسي في مزيج
مرجعيته مسرحية «العاصفة» لشكسبير حيث يفلت زمام الخيال وتتصدع معاقل المنطق
وتختلط الدواخل الروحية والغريزية والفلسفية في قلب أنواء لا تبقي من سفينة الوجود
سوى الحب خشبة خلاص وحيدة. الانهيارات العصبية والاضطرابات الذهنية والهلوسات
المرعبة ونوبات الهستيريا مما عاشته سيلفيا بلاث وعايشه هيوز، إن داخل المصحات أو
خارجها يتدفق زبدها في هذه القصائد مصفى من علائق الظروف إلى الكشف عن حب يتجاوز
الموت ويستمر بعد انتحار بلاث حياً، نابضاً بالحنان في هذه القصائد:
في
الخارج تحت الشمس يقف جسد.
إنه نموّ العالم الصلد.
هو جزء من جدار العالم
الأرضي
نباتات الأرض ركائز لأعضائه التناسلية مثلاً
والسرة التي لا زهر لها/
تعيش في شقوقه.
كذلك بعض مخلوقات الأرض- كالفم مثلاً.
كلها مجذرة في الأرض، أو
تأكل أرضاً، أرضية
مسهمة في تماسك الجدار
مدخلاً أسود:
بؤبؤ العين. عبر ذلك
المدخل جاء الغراب.
طائراً من شمس إلى شمس، حتى وجد بيته.
ويقول
هيوز في فهمه للشعر:» نعتقد أننا نكتب شيئاً نسلّي به الآخر، لكننا في الحق نقول
شيئاً نحتاج أن نشارك به الآخرين بيأس. السر الحقيقي هو هذه الحاجة الغريبة. لماذا
لا نستطيع أن نخفيه وحسب ثم نسكت؟ لماذا علينا أن نهذر؟ لماذا يحتاج البشر إلى
الاعتراف؟ ربما، لأنك إن لم تقم بذلك الاعتراف السري، فلن يكون عندك قصيدة. لن
تكون عندك حتى قصة. لن يكون هناك كاتب».
ويعكف
الشاعر خالد المعالي، صاحب منشورات «الجمل» حالياً على جمع رسائل سركون بولص إلى
أصدقائه لنشرها في وقت قريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق