جاد الحاج
تاريخ النشر: 21 أيار 2013
عاد
الشاعر العراقي الراحل سركون بولص إلى المعترك الشعري ولكن مترجماً، بعدما جمعت
دار «الجمل» أربع مجموعات شعرية غير منشورة كان ترجمها عن الإنكليزية خلال أعوام.
عاش سركون متنقلاً بين ضفتي المحيط الأطلسي، وعُرف بريادته في ترجمة شعراء بارزين
تركوا آثاراً عميقة على ثقافة العصر الحديث. وصل إلى أميركا لاجئاً في نهاية
ستينات القرن الماضي وغاص في مكتبات سان فرانسيسكو ومقاهيها الساهرة حتى الفجر،
حيث التقى مجانين غينسبرغ ورؤيويّي فيرلانغيتي وكبار الهامشيين الذين افترشت
حكاياتهم قصائد كورسو، مما أتاح للأشوري النافر أن يكون على تماس مع لغة تخلع
موروثها بعنف وشغف وفكاهة لتكتب شعراً في لغة السابلة، مشفرة برموزهم، متألقة
بنضارة الولادات الجديدة، تتباهى بمفردات عرفت طريقها إلى الحبر للمرة الأولى.
في
البداية نشر سركون القليل الخجول من ترجماته لشعراء تلك المرحلة، وذلك لهوسه
بالدقة والإتقان، ولخشيته ألا تفي ترجمته حق القصائد التي أحبها، فأراد تلقائياً
أن يعيد توليدها بلغته الأم. إلا أن إصرار يوسف الخال شجعه على المضي في المطالعة
والترجمة، وبدأ يرسل ما لديه إلى مجلة « شعر» مدخلاً إلى العربية عالماً إبداعياً
بالغ التجديد والغرابة، تاركاً أثراً عميقاً في نتاج شعراء السبعينات الذين كانوا
جائعين إلى خميرة جديدة لعجينهم الحارّ، فوجدوا في شعر الفوضويين الأميركيين
ملاذاً لتسكعهم على هامش المشهد الثقافي في تلك المرحلة. أما الترجمات الأربع التي
نراجعها اليوم، فهي تعكس نتاج أبرز أركان التجديد في بريطانيا والولايات المتحدة:
ميروين، غينسبرغ، أودن وهيوز.
يُعتبر
الشاعر الأميركي ويليام ستانلي ميروين وحده من حاز جائزة بوليتزر للشعر مرتين،
تكّرس بعدها شاعراً رسمياً للدولة الأميركية، أو أمير شعراء أميركا في لغة العرب.
من مواليد 1927، برزت موهبته باكراً في الشعر والأقصوصة، لكنه لم يستعجل النشر.
وسنة 1952 صدر ديوانه الأول «قناع لجانوس» فأحدث وقعاً مدوياً في الأوساط الأدبية
لما فيه من ثراء لفظي ومتانة لغوية محتشدة بمؤثرات من ت. س. إليوت والتراث
الأوروبي العريق. كان التجديد هاجسه الأول، وسرعان ما تخطى ميروين المؤثرات
الأليوتية خالصاً إلى ابتكار صوته الخاص. كان ديوانه الرابع «الدريئة المتحركة»
الصادر سنة 1969 بمثابة قفزة شاهقة في سماء الشعر عموماً، نسف عبره أسس النقد
المستتبة، ومعظمها مبني على الشكلانية الجمالية المنضبطة، فحرر القصيدة من كل شيء
عدا الشعر الخام المتماسك من مفاصله الداخلية، بصرف النظر عن تكريس وحدة عضوية
للقصيدة. وشكل ديوان «المطر في الأشجار» الصادر سنة 1987 منعطفاً آخر في الاتجاه
نفسه ولكن عبر توطيد نظرته الكونية الشاملة للوجود والإنسان وغوصه اللامحدود في
عوالم الماء والنبات كما في الأساطير المنوطة بحكايات البحر والسفر في المحيطات
على غرار أوديسوس أو يوليسيس، كما أسماه الرومان.
يعيش
شيخ شعراء أميركا على قمة إحدى تلال جزيرة هايكو في هاواي. صدر ديوانه «أسفار» سنة
1995 وتلاه «ظل سيريوس» سنة 2009 وفي ما يلي مقطعان له من ترجمة سركون بولص:
في
الأشجار الصفراء يهطل المطر
الليل يرسل عالياً طيوره البيضاء
الشتاء تدخله دواجن
الظلام لكنني نادراً ما افكر بكِ
لم تفقدي شيئاً تحتاجينه وأنت تدخلين الموت.
من
البساطة بمكان أن تستدير
إلى صوت الصقيع
حين يتقلب بين نجومه كحيوان نائم
في
ليل الشتاء
وأن تقول ولدت بعيداً من بلادي
إن كان هناك مكان هذه لغته
فليكن
وطني.
من
الولايات المتحدة أيضاً اختار سركون بولص شاعر جيل الغضب ألان غينسبرغ في ترجمة
فريدة لقصيدته الشهيرة « عواء» التي عُرفت بـ «إنجيل البيتنيك». من مواليد 1926،
توفي غينسبيرغ سنة 1997 في نيويورك حيث عاش معظم سنواته في شقق متواضعة وأحياء
شعبية، فكان يرتدي الملابس المستعملة ويركب الميترو والقطارات في معظم مواصلاته.
أدرك غينسبيرغ أعلى مراتب التقدير الأدبي في حياته المليئة بالعواصف، إلا أنه لم
يبلغ شأوه الإبداعي إلا في «عواء»، التي بات مطلعها من أهم علامات الأزمنة، تتلى
في مقدمات الخطب ويحفظها جيل بعد جيل. يبدأها غينسبيرغ بنفس ملحمي يصعب التغاضي عن
غنائيته الثرية بموسيقى التواتر المقطوف عفوياً من اللغة البسيطة:
«رأيت
أفضل العقول في جيلي وقد دمرها الجنون، يتضورون عراة ومهسترين (...)
من
سافروا إلى دنفر، من ماتوا في دنفر، من رجعوا إلى دنفر وانتظروا بلا جدوى، من
سهروا على دنفر وقرفصوا وتوحدوا في دنفر وأخيراً غادروا ليكتشفوا الزمان، وها هي
دنفر الآن تستوحش لأبطالها».
في
مساء دافئ من شهر تشرين الأول سنة 1955 جمع غينسبيرغ خمسة شعراء ناشئين وقرأ
معهم»عواء» في إحدى غاليريات سان فرانسيسكو على مسمع من حفنة مثقفين وطلاب. يومها
علّق الشاعر مايكل مكلور قائلاً: «كان واضحاً أن حاجزاً قد سقط، الجسم والروح كانا
محشورين في الجدار الصلف الذي كانت تمثله أميركا بعد الحرب العالمية الثانية:
العسكر وسلاحا البحر والجو والأكاديميات على أنواعها ونظام المؤسسات والملكية
الفردية، ناهيك عن القوى التي تحميها، كلها وقعت من مراكزها».
ومع
استمرار الخضة التي أثارتها «عواء» وظهور مقاطع منها على جدران الجامعات، ادعت
النيابة العامة في سان فرانسيسكو على غينسبيرغ بتهمة البذاءة. وطلب النائب العام
شطب عدد من سطور القصيدة، خصوصاً في ما يخص الجنس والمخدرات. لكن القاضي لم يوافق،
وقال: «هل يبقى لنا شيء من حرية التعبير لو طالبنا بتحديد المفردات اللائقة
بالنشر؟».
استلهم
غينسبيرغ في ملحمته الحديثة تجربة وولت ويتمن التي حررت الشعر الأميركي من طغيان
المقاييس الكلاسيكية. كان غينسبيرغ مهتماً، على غرار ويتمن، بالحرية الفردية
وبمصير الديموقراطية، خصوصاً بعد الملاحقات التي طاولت المثقفين في عهد مكارثي.
وعلى غرار ويتمن أيضاً، انصرف غينسبيرغ إلى روحانية شرقية – رومانطيقية تستوحي
التعاليم البوذية وتتوخى أحادية تجمع المخلوقات الحية في تناغم واحد وانسجام خالد.
ومن
ذلك المنطلق كانت له مواقف تخطت الجغرافيا الأميركية إلى قضايا عالمية، كحرب
فييتنام وكفاح البنغال للحصول على استقلالهم، فكتب دفاعاً عنهم ملحمة في مئة
وخمسين بيتاً أنشد بعضها بوب ديلن، وهي بعنوان :» أيلول في شارع جيسور».
من
الشعر البريطاني
من
بريطانيا اختار سركون بولص تيد هيوز وويستن هيو أودن الذي نزح من المملكة المتحدة
إلى أميركا في منتصف حياته وحصل على الجنسية الأميركية سنة 1946. ولد أودن سنة
1907 وبقي مثيراً للجدل الحاد والمواقف المتناقضة حتى بعد وفاته سنة 1973، لكن
السجالات حوله انتهت إلى قناعات ثابتة في النهاية. قناعات لم تعد قابلة للمراجعة
بعدما أفضت الدراسات المعمقة عن أصالة مسيرته وتحقيقه قفزة نوعية جبارة على أثر
رحيل ت. س. إليوت. والواقع أن الصفاء الأكاديمي لم ينجز بالكامل نسبة إلى أودن حتى
أوائل ثمانينات القرن المنصرم. ربما لأنه كان عنيداً في مواقفه إلى حدّ تضحيته
بجائزة نوبل التي ترشح لنيلها منذ الخمسينات، وكان ممكناً أن تعطى له لو أنه وافق
على شطب ثلاث عبارات تتحدث عن الاشتراكية من مقدمته لكتاب داغ همرشولد «علامات»،
لكنه أصرّ على إبقائها، مضحياً بنوبل...
كان
أودن أشرس المدافعين عن حق الشاعر في تغيير مجرى الأحداث في زمنه، ولم يترك مجالاً
من مجالات التجديد إلا وغاص فيه حتى القعر فكتب في المسرح والأغنية والمقالة
والدراسات... وبقي مؤمناً بوجود قوة عليا تحكم مسار الكون أطلق عليها في إحدى
قصائده اسم «القانون الخفيّ»:
«القانون
الخفي
لا ينقض قوانيننا في الاحتمال
لكنه يأخذ كلاً من الذرة والنجمة
والكائنات
البشرية كما هي
وعندما نكذب لا يجيب.
هذا هو السبب في أن كل الحكومات
تعجز عن
تشريعه تماماً
وما التفسيرات القانونية سوى وصمة
على وجه القانون الخفي.
إن
صبره المطلق
لن يحاول أن يوقفنا إذا اردنا أن نموت:
عندما نهرب في سيارة
عندما
ننساه في بار،
ما هذه كلها إلا طرق
يعاقبنا بها القانون الخفي».
أخيراً،
لا آخراً، تيد هيوز و«رسائل عيد الميلاد». يشي العنوان في ترجمته العربية بوجود
رسائل ميلادية، كبطاقات المعايدة السنوية التي نتبادلها قبيل رأس السنة، علماً أن
المقصود هو «رسائلي في عيد ميلادها» أو أي ترجمة أخرى تخصص ولا تعمم توخياً للدقة.
وبما أن المترجم والناشر آثرا الحفاظ على ترجمة حرفية للعنوان، اقتضى التنويه
بالمفارقة.
ولعل
قصة تيد هيوز وزوجته الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث واحدة من المآسي الدرامية
النادرة في العصور الحديثة، بل تمكن مقارنتها بالمشهد العاطفي في المآسي
الأغريقية، حتى أن المقارنة بينها وبين روميو وجولييت تبهت حيال التأزم العاطفي
الذي عاشه الشاعران طوال سبع سنوات من قرانهما، الذي انتهى بانتحار بلاث سنة 1963
وعزلة هيوز حتى وفاته سنة 1998.
ويبدو
صعباً تصديق الفترة الزمنية التي قاربت ربع قرن لإنجاز مجموعة شعرية صغيرة الحجم
كهذه، لكن قصائدها القصيرة تطفح بخبرة ومراس وإبداع قل نظيرها في أي مكان او زمان.
في سطورها يجتمع العادي والخرافي، المحلوم والمعيش، السريالي والرومنسي في مزيج
مرجعيته مسرحية «العاصفة» لشكسبير حيث يفلت زمام الخيال وتتصدع معاقل المنطق
وتختلط الدواخل الروحية والغريزية والفلسفية في قلب أنواء لا تبقي من سفينة الوجود
سوى الحب خشبة خلاص وحيدة. الانهيارات العصبية والاضطرابات الذهنية والهلوسات
المرعبة ونوبات الهستيريا مما عاشته سيلفيا بلاث وعايشه هيوز، إن داخل المصحات أو
خارجها يتدفق زبدها في هذه القصائد مصفى من علائق الظروف إلى الكشف عن حب يتجاوز
الموت ويستمر بعد انتحار بلاث حياً، نابضاً بالحنان في هذه القصائد:
في
الخارج تحت الشمس يقف جسد.
إنه نموّ العالم الصلد.
هو جزء من جدار العالم
الأرضي
نباتات الأرض ركائز لأعضائه التناسلية مثلاً
والسرة التي لا زهر لها/
تعيش في شقوقه.
كذلك بعض مخلوقات الأرض- كالفم مثلاً.
كلها مجذرة في الأرض، أو
تأكل أرضاً، أرضية
مسهمة في تماسك الجدار
مدخلاً أسود:
بؤبؤ العين. عبر ذلك
المدخل جاء الغراب.
طائراً من شمس إلى شمس، حتى وجد بيته.
ويقول
هيوز في فهمه للشعر:» نعتقد أننا نكتب شيئاً نسلّي به الآخر، لكننا في الحق نقول
شيئاً نحتاج أن نشارك به الآخرين بيأس. السر الحقيقي هو هذه الحاجة الغريبة. لماذا
لا نستطيع أن نخفيه وحسب ثم نسكت؟ لماذا علينا أن نهذر؟ لماذا يحتاج البشر إلى
الاعتراف؟ ربما، لأنك إن لم تقم بذلك الاعتراف السري، فلن يكون عندك قصيدة. لن
تكون عندك حتى قصة. لن يكون هناك كاتب».
ويعكف
الشاعر خالد المعالي، صاحب منشورات «الجمل» حالياً على جمع رسائل سركون بولص إلى
أصدقائه لنشرها في وقت قريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق