الثلاثاء، 12 يوليو 2016

سعيدة - قصة قصيرة - جويس كارول أوتس

 ترجمة : د. علي القاسمي



 ولدت الروائية الأمريكية جويس كارول أوتس Oates Carol Joyce في قرية قريبة من بلدة لوكبورت في ولاية نيويورك. وتفتحت موهبتها الأدبية في سن مبكرة إذ شرعت في كتابة رواياتها وهي في الرابعة عشرة من عمرها. ودرست الأدب الإنجليزي في جامعتي سيراكوز ووسكانسون. وهي كاتبة كثيرة الإنتاج، فبالإضافة إلى رواياتها الثماني والعشرين صدرت لها بضعة مجلدات من القصص القصيرة والمقالات والمسرحيات، ما أّهلها لقطف عدة جوائز أدبية رفيعة منها (جائزة الكتاب الوطنية) المرموقة. ويلمس القارئ في ثنايا مؤلفاتها حنينا إلى طفولتها الريفية. ولكنها مضطرة حاليا للعيش في مدينة برنستون في ولاية نيوجرزي، حيث تشغل منصب أستاذة في برنامج الإبداع الأدبي في (جامعة برنستون) الشهيرة، وتساعد زوجها الكاتب ريموند سميث Smith Raymond في إصدار دوريتهما( مجلة أونتاريو النقدية Review Ontario (وإدارة مطبعتهما الصغيرة. وفي القصة التي نترجمها هنا نقد مبّطن هادئ لطريقة الحياة الأمريكية المعاصرة المطبوعة بالمادية. وتمثل هذه القصة نموذجا لأسلوب هذه الكاتبة الزاخر بتقنيات التضمين والتلميح والإيحاء.

 استقلت الطائرة في عطلة عيد الميلاد عائدة إلى منزلها، واستقبلتها في المطار أمها وزوج أمها الجديد. ضمتها أمها إلى صدرها بحرارة وقالت لها إنها تبدو جميلة، وصافحها زوج أمها الجديد وقال لها نعم، إنها تبدو جميلة بالتأكيد، ورّحب بها. وكان شعر رأسه قد امتد بصورة قاطعة من الجانبين على خديه الممتلئين، وتغيّر لونه بحيث أصبح أشيب في الجزء السفلي من وجهه. وفي أثناء مصافحته لها شعرت بأن يدها صغيرة ولزجة وأن عظيماتها على وشك أن تتهشم. ضمتها أمها إلى صدرها مرة أخرى، يا إلاهي، إنني سعيدة برؤيتك، وكانت شرايين ذراعيها أغلظ مما تتذكره الفتاة والذراعان أنحف من ذي قبل، ولكن أمها كانت سعيدة، وبإمكانك أن تحس ذلك في جميع كيانها. وكانت مساحيق التجميل على وجهها في لون الخوخ، لون يتدرج بمهارة حتى يصل إلى حنجرتها. ولبست في يدها اليسرى الخاتم الجديد، ماسة صغيرة لامعة في وسط تويج من الذهب الأبيض.

 توقفوا لتناول المشروبات في مقهى (إيزي صول) الواقعة على الطريق السيّار، وطلبت الفتاة مشروبا من الصودا مع قليل من الليمون الحامض (ذلك رائع، قالت أمها). أما أمها وزوج أمها الجديد فطلبا مارتيني صرف غير ممزوج بماء، وكان ذاك شرابهما في " حفلة الزفاف ". وتحدثوا وهلة عن دراسة الفتاة وعن خططهما للمستقبل. وعندما أتى ذلك الحديث إلى نهايته، تحدثوا عن خططهما الخاصة، التخلص من الدار القديمة، وكان ذلك أول المهمات البغيضة، وشراء دار أصغر، أحدث، أو ربما مجرد كراء منزل موقت. وقالت أم الفتاة إن ثمة قرية من الشقق الصغيرة على ضفة النهر، سنريك إياها عندما نمر بالقرب منها، ثم ابتسمت لشيء ما، وتناولت جرعة من مشروبها المارتيني، وضغطت على ذراع الفتاة ومالت برأسها نحو رأسها ضاحكة، وقالت: والله إن ذاك يسعدني جدا. وجاءت نادلة تلبس بذلة ضيقة من الحرير الأسود وهي تحمل كأسين إضافيتين من المارتيني وصحنا صغيرا من البندق الذي يؤكل عادة مع البيرة. فقال زوج أمها الجديد: شكرا، يا عزيزتي.

 لم تكن الفتاة قد تحدثت مع أمها أكثر من مرتين أو ثلاث مرات حول خططها للزواج من جديد، ودائما كان الحديث بالهاتف من مسافة بعيدة، وظلت أمها تردد: نعم، إنه أمر مفاجئ في نظرك، ولكن هذا النوع من الأمور هو دائما مفاجئ، فأنِت إما أن تُحسي به في الحال أو لا تحسين مطلقا. انتظري وسترين. وكانت الفتاة لا تقول إلا القليل، مهمهمة بـ نعم أو لا أدري، أو أفترض ذلك. وقالت أمها بصوت أجش إنه يجعلني أشعر بالرغبة في الحياة مرة أخرى، تعرفين، إنني أُحس بنفسي امرأة من جديد. وكانت الفتاة محرجة جدا بحيث إنها لم تستطع الإجابة، فقالت: ما دمت سعيدة.

 والآن قاربت الساعة الثامنة والنصف، وأخذت الفتاة تشعر بالدوار بسبب الجوع، ولكن أمها وزوج أمها الجديد ما زالا يتناولان الكأس الثالثة من مشروبهما. وكان مقهى (إيزي صول) يقدم وصلات ترفيهية، كان هناك بالأول عازف على البيانو يعزف موسيقى خفيفة من ألحان هواغي كارميكائيل المختارة، ثم تظهر مغنية سوداء ترتدي فستانا موشى ينفتح عند الرقبة على شكل V ،وبعد ذلك تأتي ممثلة كوميدية في حوالي السادسة والعشرين من عمرها، ذات وجه شديد النحول بارز العظام ويخلو من مساحيق التجميل، وشعرها مقصوص على طريقة (البونك)، ينتصب إلى الأعلى بفعل الشمع اللاصق، وترتدي بذلة رياضية من الجلد الاصطناعي، وكانت تقف مثل عارضات الأزياء مبرزة صدرها إلى الأمام ومحولة وجهها الخالي من أي تعبير إلى جنب، وهي تتمتم بكلمات وكأنها تفكر بصوت مسموع: وكأن رؤساء العمل سمعوا ما لا ينبغي سماعه، وأعظم شيء بخصوص إجراء عملية الإجهاض في الصباح الباكر هو، كما تعلمين، أنك تمضين بقية النهار وكأنك تتسلقين جبلا، صحيح؟ هنالك حوالي ست نساء في حمام، نساء شاذات جنسيا في حوض حمام حار، ينخرطن في لعبة جديدة تسمى (الفتحات الموسيقية) أخذت تنتشر مؤخرا في نيوجرزي. لماذا لا يضحك أحد منكم؟

 كانت الكلمات تتوالى بسرعة من فم الممثلة منطوقة بصورة سيئة بحيث لا تستطيع الفتاة متابعتها واستيعابها، ولكن يبدو أن أمها وزوج أمها الجديد يستطيعان سماعها. وعلى أي حال، فهما يضحكان، على الرغم من أن زوج أمها الجديد اعترف بعد ذلك بأنه لا يقر استعمال اللغة البذيئة وخروجها من شفاه النساء أيّا كُن.

 وتوقفوا لتناول طعام العشاء في مطعم آسيوي على بعد عشرة أميال من موقف الأداء على الطريق السيار بين نيويورك ونيوجرزي، فقد أوضحت أمها أنه لا يوجد أي شيء طيب في المنزل ليؤكل، وأيضا فالوقت متأخر، أليس كذلك؟ وغدا ستتولى طهي عشاء فاخر، ألسِت موافقة، يا عزيزتي؟ وكانت قد اختلفت مع زوجها حول تناول العشاء قبل موقف الأداء أو بعده مباشرة، ولكن أثناء العشاء كانا مسرورين، ويضحكان كثيرا، ويشبكان يديهما في الفترات بين طبق وآخر، ويشرب أحدهما من مشروب الآخر، وهما مشروبان استوائيان موضوعان في كأسين طويلتين مغطيتي الحافتين بالسكر. والله إنني مجنون بتلك المرأة، قالها زوج أمها الجديد عندما ذهبت أمها إلى غرفة التجميل، إن أمك سيدة من مستوى رفيع. وقّرب كرسيه الخيزران منها، وأحاط كتفيها بذراعه الدافئة المكتنزة باللحم. وقال ليس هنالك في العالم شيء أغلى بالنسبة لي من تلك السيدة، أريدك أن تعرفي ذلك، فقالت الفتاة نعم أعرف ذلك، فقال زوج أمها الجديد بصوت حاد يقرب من الدموع، تماما يا عزيزتي: أنت تعرفين ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: مرافئ على الشاطئ الآخر- روائع القصص الأمريكية المعاصرة، ترجمة د. علي القاسمي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق