الاثنين، 25 يوليو 2016

«أهل الهاوية» لجاك لندن ... حياة الضواحي

هيثم حسين
تاريخ النشر :  06 ايلول 2010


كتب الروائيّ الأميركيّ جاك لندن عمله «أهل الهاوية» (نينوى، دمشق، ترجمة أسعد الحسين، 2010)، حين عاش في شرق لندن. ذهب إلى عالم لندن السفليّ، بموقف المستكشف، وكان راغباً في تصديق الأدلّة كي يطّلع عليها، ويراها، لا من خلال الأقاويل والحكايات المرويّة. تسلّح بالحدّ الأدنى من المعايير التي يستطيع من خلالها المحافظة على الحياة والصحّة البدنيّة والنفسيّة، وحاول تجنّب ما يهدّد الحياة ويضرّ بها ويقصّرها، في مغامرته التي وُصفت بأنّها مجنونة.


يتقاطع جاك لندن مع تيودور باركر في توصيفه لإنكلترا بأنّها فردوس للأغنياء، ومطهر وجحيم للفقراء. لم يقف جاك لندن، المولود في سان فرانسيسكو عام 1876، عند حدود المتعة في المعايشة والتجريب، بل آثر نقل معاناة الملايين الذين يرزحون في قلب الجحيم، في عصر يفترض به أن يلبّي احتياجات الإنسان الضروريّة، لا أن يلقي به على قوارع الجوع والبطالة والأسى. لندن الذي نشر قصّته الأولى «إعصار على ساحل اليابان» عام 1893، بعد رحلة بحريّة إلى سواحل سيبيريا واليابان، كانت تلك القصّة السيريّة الشرارة التي فجّرت ينبوع إبداعه. توالت سلسلة أعماله الروائيّة والقصصيّة، منها: «ابن الذئب»، «ربّ الآباء»، «ابنة الثلوج»، «أولاد الصقيع»، «بيت الغرور وحكايات أخرى من هاواي»، «الوحش المخيف»، «وادي القمر»... وغيرها الكثير. وقد أنتجت هوليوود أكثر من أربعين فيلماً سينمائيّاً عن أعماله.

يتوضّح أنّ الأشياء السيّئة التي رآها الكاتب كانت أكثر بكثير من الأشياء الحسنة، من دون أن يغفل التذكير بأنّ الزمن الذي كتب فيه روايته، كان يعدّ من الأزمنة الجيّدة في إنكلترا، حيث كانت المجاعة ونقص المأوى حالات مزمنة من البؤس، لم يتمّ التخلّص منها حتّى في ما يوصف بأعظم فترات الازدهار

في روايته التي يقسّمها إلى ستّة وعشرين فصلاً، يتوغّل جاك لندن في قلب العالم الذي يصفه بأنّه العالم الحقيقيّ، يسبر أعماقه، يتعرّف إلى سكّانه المغمورين، يتقرّب من المهمّشين والمرضى والمنسيّين، يدخل الملاجئ والمشافي، يصادق أناس القاع اللندنيّ، حيث الحياة الحقيقيّة في عاصمة المملكة العظمى، الحياة التي يكون مدماكها القسوة والوحشيّة والأسى والأوجاع المتناسلة المتعاظمة، بعيداً من حياة القصور الزائفة، ويوميّات مَن يصنّفون بأنّهم النخبة، أو الطبقة الأرقى

أثناء سياحته في الهاوية، يتنكّر الكاتب في ثياب بالية، يقتنيها من أحد المحالّ الخاصّة ببيع الألبسة البالية، كي يتمكّن من التنقّل بأريحيّة وسهولة بين الناس، في محاولة منه للاندماج واكتساب ثقة أهل الهاوية، الذين يتجنّبون ذوي الثياب الأنيقة النظيفة، يرون فيهم أعداء محتملين، أو مشاريع أعداء لاحقين. يخبّئ قليلاً من النقود في جيوب سرّيّة، كي لا ينقطع من النقود، يحفظها بعيداً من اللصوص الذين يملأون شوارع شرق لندن، المنطقة الموبوءة بالفقر والجوع، المهملة المنسيّة التي يُنظر إليها على أنّها بركان قذارة راكد، أو مستنقع ينبغي تجنّبه وتجاهله، أو إلقاء النفايات المجتمعيّة إليه. يستكشف خبايا أهل الهاوية وأساطيرهم، يكتشف الطيبة السائدة، واللؤم الدارج، والسذاجة الطاغية، حيث تختلف القيم والمعايير، تختلف الرؤى ووجهات النظر، تغدو أبسط الأمور أحلاماً عصيّة على التحقّق، تتغيّر المفاهيم، يتحوّل الإنسان إلى كائن نهم، معرّض لغزو مستمرّ من المجاعة والحاجة والبرد والعنف من كلّ شيء. كما أنّ البطالة التي تعمّ، لا تفسح أيّ مجال للإنسان كي يستفيد من طاقاته التي يبدأ بهدرها وتبديدها بما يروي الجنون المختلق، الذي ينتعش في الأجواء الفوضويّة العبثيّة

حين أعلن جاك لندن قراره المفاجئ بزيارة شرق لندن، اتّهمه المحيطون به بالجنون، لكنّه قرّر خوض المغامرة، واكتشاف العالم القابع خلف أسوار الفقر والرعب. ثمّ حين دخل قلب المنطقة، وغيّر هيئته، تنفّس الصعداء. وبعد أن أحرق سفنه وأصبح حرّاً، ليغطس في تلك البرّيّة البشريّة التي لا يعرف عنها أحد، كان يرغب في النزول إلى المنطقة، ليرى الأشياء بنفسه، يريد أن يعرف كيف يعيش الناس هناك، ولماذا يعيشون هناك، ومن أجل ماذا يعيشون هناك. يودّ أن يعيش بنفسه هناك. يرى الثملين يترنّحون. الهواء ملوَّث بأصوات الشاحنات والشجار. كبار السنّ من الرجال والنساء يبحثون في القمامة المرميّة في الوحل عن الأطعمة الفاسدة، أو ما يمكنهم التهامه. غدا واحداً منهم، لم يشعر بالاغتراب بينهم، يشقّ طريقه مسروراً باكتشافه أنّ الخوف من الحشود لم يعد ينتابه، لأنّه أصبح جزءاً منها. غمره البحر الواسع ذو الرائحة الكريهة، شعر بالانتماء إلى هذا العالم الذي كان مرعباً جدّاً له ولأبناء الطبقة الأخرى

يوصي الكاتب بوجوب اعتماد التحدّي كسلوك دفاعيّ، في مواجهة النهب المعتمد، ويعزو الكثير من الخطايا المرتكبة إلى سوء استخدام الحضارة، والتلاعب السلبيّ بالإدارة، حيث الحضارة التي يفترض بها أن تزيد قوّة الإنسان الإنتاجيّة، تكون السبب الرئيس في توفير حياة قاسية سيّئة، وظروف أصعب ممّا يعاني المتوحّشون، ما يتسبّب بلجوء الكثير منهم إلى الانتحار كحلّ نهائيّ مريح، أو إلى إدمان الكحول للتهرّب من آلام الواقع غير المحتملة

يقدّم جاك لندن دراسة ديموغرافيّة عن عوالم مختلفة بمقدار ما هي متشابهة، لا ينتقي الأسوأ ليستعرضه للقارئ، ولا يحتفي بالحسن ليعظّمه، بل يسرد مشاهداته في المدينة التي غاص في أعماق أناسها، باعتباره شكّل جسراً بين عالمين: العالم الجديد بكلّ ما يشتمل عليه، والعالم البائس بكلّ ما يغرق فيه. ومحاولته التجسير لم تبدُ بقصد الاستعراض أو البحث عن مغامرة الاختلاف للاختلاف ذاته، بل كانت نابعة من قناعة راسخة، للانتصار للعالم الذي ترزح في أغلاله أعداد هائلة من البشر، يعيشون تحت خطّ الفقر، يحتاجون إلى كلّ شيء

ينضح سرد جاك بالألم الحقيقيّ المصور، والإيلام لواقع الحال، بعيداً من التنبّؤ بالمآل، لم يلغِ التفاؤل، ولم يقصِ الأمل، بل صوّر ما رآه وعاشه، كي يثير الانتباه، ويشحذ الهمم الراغبة في التغيير المنشود

تتأتّى أهمّيّة رواية «أهل الهاوية»، كونها لا تزال متجدّدة ومَعيشة بعد أكثر من قرن على كتابتها (1903)، كأنّها قد كتبت للتو، وعالجت أحوال شرائح واسعة من الناس في كثير من المجتمعات. يودّ لندن أن يبدّد النظرة الساخرة إلى سكّان الضواحي، بعد التحليل الدقيق والتفصيل الممعن، عساه يلفت الأنظار إلى الإنسانيّة المهدورة، في ظلّ التباهي بالتطوّر المنجز الذي لم يتمكّن بعد من إنقاذ الملايين من الهاوية التي وجدوا أنفسهم فيها، بطريقة أو أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الحياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق