باريس - أنطوان جوكي
تاريخ النشر: 24 مارس 2016
جميعنا
يعرف رواية الكاتب الأميركي جايمس غرادي «أيام كوندور الستة» من خلال الفيلم الذي
اقتبسه المخرج سيدني بولاك منها وأدّى دور البطولة فيه روبرت ردفورد وفاي داناوي.
لكن ما لا يعرفه معظمنا، هو أن غرادي استتبع هذه الرواية البوليسية بروايتين لا
تقلان أهمية عنها: «ظل كوندور» و «كوندور.نت»، وها هو اليوم يضيف جزءاً رابعاً على
هذه الثلاثية صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار Rivages الباريسية، بعد أشهر قليلة من صدوره في
أميركا.
مَن يتابع إصدارات هذا غرادي الغزيرة يعرف أن ثمة ثابتة في جميع
رواياته تتمثّل بعميل سرّي ساذج يخدعه جهاز المخابرات الذي يعمل لصالحه عبر
استخدامه لغايات مريبة، كي لا نقول قذرة، لكن ما يميّز بطل رباعيته الروائية
كوندور عن سائر أبطال غرادي، هو عدم انصياعه لأوامر «وكالة الاستخبارات الأميركية»
التي يعمل لصالحها، وتمكّنه في كل مرة من مفاجأتها ومفاجأة القارئ بقراراته
وسلوكه.
ولا عجب من تمكّن هذا الكاتب من الإمساك بأنفاسنا حتى نهاية كل واحدة
من رواياته، وخصوصاً «نهر الظلمات» و «مدينة الظلال» و «كلاب مجنونة»، فمهاراته
السردية والكتابية تجعل من رواياته البوليسية نصوصاً أدبية رائعة لا تستمدّ قيمتها
فقط من عنصر التشويق الذي يعرف جيداً كيف يوظّفه داخلها. مهارات تتجلى بقوة في
روايته الأخيرة التي تحمل عنوان «أيام كوندور الأخيرة»، وتشكّل حصيلة مثيرة
لمرحلتين من عمل غرادي، فإلى جانب شخصيتها المركزية الساذجة والمستقيمة التي توظّف
جميع طاقاتها لكشف حقيقة مؤامرة حاكتها حكومة بلدها، نعثر فيها على عناصر استعان
بها الكاتب في رواية «كلاب مجنونة» وتصوّر على أفضل وجه عملية استلاب إرادة ليس
فقط عميل سرّي، بل أمّة بأسرها. مزيجٌ تكمن فضيلته أيضاً في إثارة اهتمامنا مجدداً
بسلسلة كوندور التي صرّح غرادي بأن روايته الأخيرة لا تشكّل خاتمتها.
في مطلع هذا العمل الذي يقع في ٣٨٤ صفحة، نجد كوندور يعيش معزولاً
على نفقة الدولة داخل شقة في واشنطن، ويعاني من إصابة تعرّض لها خلال مهمته
الأخيرة. وفي أحد الأيام، يزوره عميلان من وكالته (بيتر الأقرع وفاي الساحرة)
للاطمئنان على صحته النفسية، وخصوصاً للتأكد من أن عزلته لم تدفعه نحو اهتمامات
مريبة. وبما أن هذين العميلين مزعجان لكن غير سيئين تجاهه، تستيقظ غريزته كعميل
سابق حين يشاهد في اليوم التالي، لدى دخول منزله، بيتر مصلوباً في صالونه. ويتبيّن
له أن الجريمة أُعِدّت بطريقة تجعل منه المتّهم الأول بها...
باختصار، ننزلق بسرعة في هذه الرواية داخل قصة نموذجية للكاتب، حيث
لا نتفاجأ بتناوب وجهات النظر أو بالآثار المتضاربة التي سيتقفاها كوندور في
تحقيقاته، أو بقصة الحب التي سيعيشها بالرغم من أنها تبدو مستحيلة في البداية، أو
بنهاية الرواية التي أرادها غرادي أن تكون خير مرآة لما هو عليه عالمنا اليوم، أو
على الأقل الولايات المتحدة. وبالتالي، تشكّل قراءة هذا العمل متعة حقيقية ليس فقط
بتطوّر أحداثه الغزيرة وعنصر التشويق فيه، بل خصوصاً بالتأمّل العميق الذي يقوده
الكاتب في القوانين المناقضة للحريات التي فرضتها الإدارة الأميركية على مواطنيها
بعد اعتداءات ١١ أيلول ٢٠٠١.
وفعلاً، يسعى غرادي على طول الرواية إلى إظهار لقارئه أن شيئاً لم
يتغيّر في عالمنا رغم الأحداث الكبرى الكثيرة التي طرأت والمعطيات المهمة التي
تغيّرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي
وتدمير برجي «مركز التجارة الدولي» في نيويورك، إذ يمكن قلب أو زعزعة المعطيات
الجيوسياسية، لكن لا يمكن تغيير البشر بسهولة، فجاذبية السلطة من أجل السلطة ورغبة
الهيمنة بأي ثمن وهاجس التحكّم بمصائر وسلوك الآخرين، حقائق ما زالت حاضرة وظاهرة
للجميع.
ومع أن وسائل هذا التحكّم تغيّرت وأضحت أكثر فعالية وخطورة، لن يمنع
هذا بطله كوندور، بوسائله السابقة لعهد الإنترنت والمراقبة الإلكترونية المعمّمة،
من النجاح في مهمته وهزم المجموعة التي تتآمر ضده، ليس لأنه مطّلع بدقّة على
التقنيات والأجهزة الجديدة المستخدمة، بل لأنه يعرف كيف يعمل عقل أقرانه -الذي لا
يتغيّر- ما يمكّنه من استباق طريقة تفكيرهم المبنية خصوصاً على الريبة والغطرسة.
يبقى أن نشير إلى أن قيمة هذه الروايـــة لا تكمن فقط في راهنية
موضوعها وواقعيتـــها، بل أيضاً في التوتر الذي يبرع الكاتــب في إضفائه على
جمـــيع مشاهدها، بما في ذلك تلك العاطفية التي لا ننتظر عادة أن تكون بهذه الحدة؛
مشـاهد تعكس مهارات كتابـــية تتجاوز ما يتطلّبه النوع الروائـــي الذي يكتب غرادي
ضمنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الحياة اللندنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق