إبراهيم العريس
تاريخ النشر: 24 أكتوبر 2014
ستمئة رسالة، في أكثر من ألف صفحة، هي المحصلة الغنية للكتاب الذي صدر للمرة الأولى بعد سنوات طويلة من انتحار مؤلفه، أولاً بالانكليزية ثم بلغات اوروبية عدة بينها الفرنسية. إنه كتاب يضم مراسلات إرنست همنغواي... لكن الرسائل التي يضمها الكتاب ليست سوى جزء مختار بعناية من ألوف أخرى من الرسائل كان همنغواي يصر دائماً على ألا تنشر، لا خلال حياته، ولا بعد موته... فلماذا؟ عندما أطلق إرنست همنغواي على نفسه تلك الرصاصة الشهيرة في احد ايام العام 1961 واضعاً حداً مفاجئاً لحياة عمره بالكتابة والمغامرات والإخفاق والنجاح، راهن كثر على ان هذا الكاتب لن يكون واحداً من الذين تعيش ذكراهم طويلاً. وقالوا ان أدبه ليس له وزن أدب فولكنر، وأن اسلوبه يقل اهمية عن اسلوب شتاينبك، وأن حياته الشخصية اقل جدارة من حياة سكوت فيتز جيرالد، وقالوا، ايضاً، ان اهم ما في سيرة همنغواي انتحاره... لذلك «حين سينسى الناس حكاية الانتحار سينسون صاحبها». ثم أفليست رواياته الكبيرة عبارة عن ميلودرامات شعبية لا تستحق اكثر من ان تتحول الى افلام سينمائية، ومسلسلات متلفزة تدر الدموع؟
> اليوم، بعد اكثر من نصف قرن على رحيل همنغواي... وبخاصة بعدما مرت سنوات خيّل فيها للبعض ان النسيان قد طوى، حقاً، ذكر صاحب «لمن تقرع الأجراس؟»، ها هو همنغواي يقفز حيوياً اكثر من اي وقت مضى... وها هي كتبه ما زالت تبيع اكثر من كتب اي مؤلف اميركي آخر... وها هي الدراسات توضع عنه، بل ها هي اعمال له تكتشف من جديد وتنشر بعدما كانت ضائعة في زوايا الصناديق.
ثم ها هو إرنست همنغواي، بعدما شغل الناس طويلاً في حياته، يشغلهم اكثر بعد موته بسنوات وسنوات. بل وإن الذين خيل اليهم، ذات يوم انهم يعرفون – على الأقل – تفاصيل التفاصيل حول ذلك الكاتب الأفاق، وجدوا انفسهم بفضل تلك الرسائل على الأقل، أمام فرصة مدهشة لاكتشاف انهم، في الواقع، لم يكونوا يعرفون عنه إلا القشور. ففي رسائل همنغواي الى جانب اشياء اخرى بالغة الأهمية أحكام صارمة على معاصريه وكشف عن افكار كانت تشغل باله في وقت كان الآخرون يعتقدون انه يلهو، وتفكير عميق بعمله بل انتقادات حادة لذلك العمل. ولعل المفاجأة الأكبر كانت ما كشفته المراسلات عن رأيه مثلاً بفولكنر، اذا كان همنغواي يبدي اعجابه بكتبه الاولى، فإذا به هنا يعتبره فاشلاً في السيطرة على عمله، بحيث انه انتهى ما ان بدأ، اما شتاينبك فكتاباته شديدة الرطانة، وتوماس وولف أسوأ.
> بمثل هذه الأحكام تمتلئ مراسلات همنغواي. لكن عالم الأدب لا يشكل في الرسائل سوى جزء يسر، فهناك الحياة العائلية، والسفر المتواصل، والبلدان التي تزار، وهناك الحروب التي تخاض (الحرب الأهلية الاسبانية)، واللقاءات الغريبة. وهناك لحظات الحزن والفرح، لحظات القوة والضعف، ولقد احصى الناقد فرانسوا فايرجانج في الرسائل عدداً كبيراً من القضايا المثارة على النحو الآتي: الحرب الاسبانية والحربان العالميتان الاولى والثانية، الأدب المعاصر من جيمس جويس الى اندريه مالرو، الجسد الانساني (الاجندة العضوية، الصحة بشكل عام، الجسد والرياضة، الجراح، الأمراض)، الظواهر الطبيعية (الأعاصير، الحرارة، البحر، الجبل)، افريقيا، مدينة البندقية، هوليوود (بخاصة هوليوود)، الرجولة، كل الحيوانات والنباتات، العائلة، التربية، الحياة الخاصة (اربع زيجات، ثلاثة طلاقات) والصداقة، وغيرها... وغيرها.
> رسائل، هي كما قلنا، سيرة حياة. ولأنها سيرة حياة مكتوبة يوماً بيوم، ها هي ذي تخون صاحبها وتعريه امام القارئ. وهمنغواي كان من الذكاء بحيث يدرك هذا مسبقاً. ومن هنا احتاج الأمر الى انتظار عشرين سنة وأكثر قبل ان تقتنع «مؤسسة إرنست همنغواي» بضرورة التصرف على عكس ما كان الرجل يريد، فهو كان قد قال في وصيته مشدداً انه لا يريد ان تنشر، ابداً، اي من الرسائل التي كتبها طوال عمره. وحسناً فعلت المؤسسة بالطبع ان هي خالفت الوصية. فهمنغواي الذي، حين منعه الاطباء من السفر الى ستوكهولم لتسلم جائزة نوبل التي فاز بها، كتب خطاباً قصيراً سجله بصوته، وكان ابرز ما جاء فيه تذكيره الحاضرين بأن الكتاب يعملون وسط ركام وحدتهم، وأن عليهم في كل يوم ان يجابهوا الخلود او غياب هذا الخلود.
> قبل قراءتنا لرسائل همنغواي كنا نعرف الكثير عن حياته، منذ ولادته في اول بارك بولاية الينوي (21 تموز/ يوليو 1899)، حتى انتحاره في كيتشوم بولاية اوهايو (2 تموز/ يوليو 1961)، وكنا نعرف انه شارك باكراً في الحرب العالمية الأولى وجرح في ايطاليا، ثم عاد الى الولايات المتحدة حيث كان زواجه الاول من هادلي ريتشاردسون التي عاد معها الى ايطاليا وأوروبا عموماً، واستقر لفترة في باريس، حيث كان كتاباه الأولان، بعد صداقته مع غرترود شتاين وإزرا باوند. لكن كتابه الحقيقي الاول كان «ولا تزال الشمس تشرق» (1926) وتلاه «وداعاً للسلاح» (1929). واذا كان معظم الباحثين يعتبرون هذين الكتابين افضل ما كتبه همنغواي، فإن هذا لم يمنع الكاتب من مواصلة الكتابة حتى نهاية حياته... ولم يمنعه من ان تكون كتبه على الدوام شرائح من حياة عاشها ممزوجة بشرائح من حياة يتمنى عيشها. والحقيقة ان همنغواي لفرط هيامه بأوروبا، أوروبا الحرب وأوروبا السلام... أوروبا المرح الباريسي وأوروبا قسوة الطبيعة، امضى جزءاً كبيراً من حياته فيها، بل وجعل احداث قسم هام من كتبه يدور فيها وبوحي من احداثها. وهو كان لا يغيب عن اوروبا الا ليعود اليها، ومن هنا تكشف لنا نظرة نلقيها على المصدر الذي منه بعث همنغواي بعدد كبير من رسائله، عن انها مرسلة في معظمها من اوروبا. لكن هذا لم يكن شيئاً امام الجهود التي بذلها همنغواي خارج نطاق الكتابة، اذ نعلم انه توجه في العام 1944 الى اوروبا كمراسل حربي لمجلة «كولييرز» وقام بإحدى مهماته الصحافية وهو على متن احدى طائرات سلاح الجو البريطاني. كما انه شارك قوات الحلفاء في تحرير باريس. وبعد اوروبا توجه الى افريقيا، ثم مرة اخرى الى كوبا التي كان لا يفتأ يزورها بين الحين والآخر... وهو بعد ذلك التجوال الطويل، الذي تواصل نحو عشرين عاماً، عجز همنغواي خلالها عن كتابة اعمال كبيرة له تأتي على قوة اعماله التي صدرت في الثلاثينات، عاد في العام 1950 وأصدر «خلف النهر وتحت الأشجار» ثم ألحقها بعد عامين بـ «العجوز والبحر» (1952) الذي كان آخر كتاب ينشره خلال حياته. وهذا الكتاب هو الذي جعله يفوز اولاً بجائزة بولتيزر ومن بعدها بجائزة نوبل في العام 1954، وأعطاه شهرة كبيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
هذا كله كنا نعرفه قبل قراءتنا رسائل إرنست همنغواي... غير ان ما لم نكن نعرفه بدقة، انما كان موقف الرجل من هذا كله، ورد فعله ازاء هذه الحياة الغريبة. ما لم نكن نعرفه انما هو الجواب عن السؤال الآتي: لماذا كان يركض همنغواي؟ وكيف قيض لتلك الحياة الغريبة والحافلة ان تنتهي بانتحار صاحبها. وقراءة الرسائل تجيبنا – في الحقيقة – عن هذين السؤالين، لأنها تضع امامنا الرجل في واقعه الحقيقي: في اضطرابه، في قلقه، في أزماته المتواصلة... حيث نلاحظ هشاشة شخصيته، مثلاً، حين يغضب لأن صحافياً وضع رجولته موضع الشك... ان رد فعل همنغواي ازاء مثل هذا الامر يكشف لنا ان صورة «البطل» التي كان يعطيها همنغواي لنفسه لم تكن في الحقيقة سوى قناع خارجي. ولأن همنغواي كان يعرف هذا ويخافه... ولأنه كان يعرف ان رسائله تكشف عنه ما لم يكن يحب له ان ينكشف، كان يصر على عدم نشر الرسائل... لا خلال حياته، ولا بعد موته. لكن الرسائل صدرت ومكنت قراءه من الوصول الى فهم جديد وأكثر غنى وتنوعاً لأعمال واحد من أكبر روائيي القرن العشرين.
ـــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق