الثلاثاء، 19 يوليو 2016

الواقعية القذرة ريتشارد فورد نموذجا

 كامل يوسف حسين   (كاتب ومترجم من مصر)

تاريخ النشر: 1 يناير 1997



الذين قرأوا ، بحب وتعاطف ، المقدمة التي مهدنا بها لترجمتنا لرواية "حياة وحشية " للكاتب الأمريكي ريتشارد فورد، وطالعوا هذه الرواية واستشعروا ، بهذه الدرجة أو تلك من الوضوح ، أنهم أمام شيء مختلف ، ومغاير وله ما بعده ، لم يخنهم حدسهم ، فهذا العمل أول كتاب من مؤلفات تيار الواقعية القذرة في الأدب الأمريكي يمثل بين يدي القاريء العربي بلغته .
ومنذ أطل هذا الكتاب للنور في طبعته البيروتية ، تتابعت الأسئلة التي وجهت لي عن تيار الواقعية القذرة ، وعن أفقه الابداعي، والمساهمين في انجازاته ، والوضعية الواهنة لأعماله ، والمسيرة المستقبلية المتوقعة له ، ومدى ابتعاده أو اقترابه مما يسمى بالتيار الرئيسي لحركة الابداع الأدبي الأمريكي ،وغير ذلك كثير.
وقد تفهمت حقا العالم الخلفي الذي نبعت منه هذه الأسئلة والسر في تواترها والحاحها واستمرارها بهذا الشكل ، فتيار الواقعية القذرة على نحو ما تناهى للكثير من القراء العرب ،ما كان يمكن الا أن يوحي بالجدة والصدمة معا.
ولا حصر لعدد المرات التي بادرت فيها الى القول إنني أتفهم الشعور الذي ساور الكثيرين بالصدمة حيال هذه الاطلالة الفريدة من نوعها لتيار الواقعية القذرة في إطار المكتبة العربية . ذلك أن "حياة وحشية " شأن معظم أعمال الواقعية القذرة تستشرف أفقا غير مألوف في الكتابات الماثلة بين أيدينا وتمني الى هذا الأفق بشكل باتر وعلى نحو غير معهود وبأدوات لا يمكن إلا أن تثير الشعور بالصدمة حقا. أما الشعور بالجدة فلا أحسب أني أوافق عليه تماما.

لماذا ؟

في المقام الأول لأن الواقعية القذرة ليست صرعة ، ولا "موضة " ولا هي وليدة الأمس ، وانما يمكنك القول بأن حشدا من الكتاب الأمريكيين يحفرون هويتها بإصرار ، وكأنما في قلب الصخر، منذ ربع قرن من الزمان على الأقل .
وحتى بالنسبة للقاريء العربي فالواقعية القذرة ليست جديدة تمام الجدة ، فالقواء الذين يتابعون الصحف العربية التي تصدر خارج العالم العربي لا شك في أنهم قد لاحظوا أن بعض الصفحات والملفات الثقافية في عدد من هذه الصحف _ وهي جديرة بالاهتمام والمتابعة حقا _ قد ألقت الضوء عل هذا التيار، عبر الاشارة الى بعض انجازاته وعدد من مبدعيه ثم هي بين الحين والأخر تقدم بعض النصوص القصيرة لهؤلاء المبدعين .

ما المشكلة إذن ؟

المشكلة ، في اعتقادي، نبعت من الاطار الذي صيغ فيه ، اصطلاح الواقعية القذرة نفسا، حيث أطل هذا الاصطلاح على يد بيل بو فورد، رئيس التحرير السابق لمجلة "جرانتا" في مقدمته الشهيرة للعدد الثامن من هذه المجلة والتي قام فيها وعبر أقل من صفحتين بتعريف القاريء بالاصطلاح وبالتيار وبالكتاب المندرجين في إطاره قبل أن يقدم أعمال جانب من هؤلاء الكتاب ، ثم عاد في العدد الثاني عشر من المجلة ليقدم أعمال عدد آخر من مبدعي هذه التيار دون إضافة كلمة واحدة في معرض التعريف بعالمهم الابداعي والقاء الضوء على ما يميزهم عن غيرهم من الكتاب الأمريكيين .

وما كان يمكن لهذه المشكلة إلا أن تزداد عمقا وصعوبة مع مرور السنين دون أن يقرر للتيار والاصطلاح معا أي تأصيل نقدي حقيقي، بل حدث العكس تماما، حدث نوع من محاولة التنصل من الانتماء الى هذا التيار وايجاد صلات تربط بعض مبدعيه بتقاليد أدبية أمريكية أقدم عهدا.

ومن الواضح أن ما سيجده القاريء عبر هذه الصفحات ليس محاولة لاستدراك هذا القصور أو حتى اقترابا من مساهمة في مثل هذه المحاولة ، كما أنه ليس تكرارا لما أوردناه في مقدمة "حياة وحشية " من إضاءات حول هذا التيار.

ما الذي نجد أنفسنا حياله هنا إذن ؟

لا يعدو ما أحاول تقديمه للقاريء هنا أن يكون تناولا موجزا لثلاثة أبعاد، هي على التوالي : إضاءة لعالم الواقعية القذرة من خلال عشر ملاحظات لنا على ما أنجزه هذا التيار وما أضافه الى الأدب الأمريكي حتى الآن ، وتناول للمسيرة الابداعية لريتشارد فورد باعتباره أحد أبرز مبدعي هذا التيار، وقراءة في رواية "العاشق" لفورد باعتبارها من أجمل أعماله وأكثرها تجسيدا لطموحات الواقعية القذرة ، وأيضا لأننا نأمل أن ندفع نصها المترجم الكامل ال القاريء العربي عما قريب كإضافة أخرى الى جهود التعريف بهذا التيار.
فلنبدأ ، إذن بمتابعة كل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة على حدة ، مع التزام الحرص على الا نثقل على القاريء باستفاضة في الطرح ، ليس هنا الموضع المناسب تماما لها.
واذا بدأنا بالبعد الأول المتعلق باضاءة عالم الواقعية القذرة ، لوجدنا أن علينا أن نبدأ البداية ، كما يقولون ، من محاولة فهم ما الذي تعنيه الواقعية القذرة ، فلندع هذه الملاحظات العشر تقود خطانا عبر هذا البعد:

1- مأساة الواقعية القذرة ، أو بالأحرى ماساتنا معها، أنها قدمت لنا من خلال التعريف بالسلب بأكثر مما قدمت عبر التعريف بالايجاب ، فقد حرص بيلي بو فورد على أن يوضح ما ليست عليه ، وأشار الى أنها مفارقة للواقعية الأمريكية في تقاليدها المعروفة ، وهي مفارقة لكل ما يكتب في بريطانيا، إنها ليست بطولية ولا شامخة ، وهي بعيدة عن الطموحات الملحمية عند كتاب مثل نورمان ميللر وسول بيلو، وهي أيضا ليست تجريبية بصورة واعية مثل الكثير من كتابات الستينات والسبعينات ، وهي ليست فنا للقص مكرسا لصياغة الطرح التاريخي الكبير.

ما هي الواقعية القذرة إذن ؟

الاجابة ليست لنا، إنما هي أيضا لبو فورد، حيث يقول في الموضع الوحيد من افتتا حيته الشهيرة الذي يحاول فيها تحديد مضمون هذا الاصطلاح ، من حيث مقوماته الذاتية ، وليس من حيث التحديد بالسلب ، "إنها فن للقص على نطاق مختلف ، مكرس للتفاصيل المحلية ، العنا هر العاطفية للقلب ، القلاقل الصغيرة في اللغة والايماء، ومن المناسب تماما أن الشكل الأولى لفن القص هذا يتمثل في القصة القصيرة ، وأنه على نحو ملموس تماما جزء من حركة إحياء القصة القصيرة الأمريكية ، ولكن هذه القصص هي قصص غريبة ، بعيدة عن التجميل ، لا أثاث فيها، إنها تراجيديات تدور في أماكن رخيصة الايجار حول أناس يشاهدون التليفزيون نهارا، ويقرأون الروايات الرومانسية الرخيصة ، ويستمعون الى الموسيقى الريفية وموسيقى القرب ، إنهم ناد لات في مقاه على جوانب الطرق ، وموظفو تحصيل في محال السوبرماركت ، وعمال بناء ، وسكرتيرات ، ورعاة بقر لا يجدون عملا، يلعبون البنجو، ويلتهمون شطائر التشيزبرجر، ويصطادون الغزلان ، وينزلون في فنادق رخيصة ، ويشربون الكثير ويتعرضون للمتاعب ، غالبا لسرقة سيارة أو تهشيم واجهة عرض ، أو سرقة حافظة نقود. إنهم من كنتاكي، أو الاباما، أو أوريجون ، ولكن بالأساس يمكن أن يكونوا من أي مكان ، إنهم ضائعون في عالم حافل بالغذاء الذي يلحق الضرر بمن يتناوله ، وبالتفاصيل القاهرة المنتمية للنزعة الاستهلاكية الحديثة ".

ليكن . ولكن عبر أي لفة تتناهى الينا تفاصيل عالم الواقعية القذرة ؟ الاجابة ، مرة أخرى ليست لنا ، وانما هي لبو فورد، حيث يوضح إنه : "كثيرون ، مثل ريتشارد فورد، أو ريموند كاوفر، أو فراريك بار ثلمي ، يكتبون بلفة شديدة الصراحة ، لا تعكس شعورا بالدهشة ثم الوصول بها الى أبسط الأساليب ، فالجمل مجردة من الزخرفة ، وتحكم سيطرتها التامة على الموضوعات والأحداث البسيطة ، التي تطلب منا أن نكن شهودا عليها. أما ما يبدو أنه يتحدث أكثر من غيره فهو ما لا يقال ، ضروب الصمت ، ألوان الحذف ، صفوف الإلغاء".

-2 إذا استقر ما تقدم فلا شك أن سؤالا بديهيا سيبادر بطرح نفسا: من هم الواقعيون القذرون وما الذي يجمع بينهم فيجعل إبداعهم يشكل تيارا مستقلا من تيارات الأدب الأمريكي؟
مرة أخرى سنلمح هنا جانبا من سوء حظ هذا الاصطلاح ، فبيلي بو فورد في إطلاقه له في سماء الاهتمام الأدعبي والنقدي لم يحدد على وجه الدقة ما الذي يربط بين كتاب هذا التيار، واكتفى بإيراد قائمة حصرية لهم ، وهم : ريموند كاوفر، ريتشارد فورد، جين آن فيليبس ، إليزابيث تالينت ، فريد ريك بار ثلمي، بوبي آن ما سون ، توبياس وولف ، ماري ربيون ، آن بيتي، ريتشارد بيقس ، جين ترمسون ، ستيفن ديكسون ، لويز إريدريك ، ريتشارد روسو، إيلين جيلكريست ، روبرت أولمستيد، جوي وليا مز.
غير أن المزيد من التأمل يتيح لنا اكتشاف العرى والصلات التي تربط هذا التيار وتضم روافده وينابيعه معا، وما إلقاء الضوء على هذه العرى والصلات الا جوهر ما نحاوله عبر هذه الصفحات .

3- منذ البداية لم يندفع تيار الواقعية القذرة في صورة تيار متكامل ولا حتى جهود تندفع من منابع واحدة ، وانما انطلق في شكل سلاسل متتابعة من الكتابات الغاضبة ، التي تتخذ من القصة القصيرة أساسا شكلا للا بداع ، وان لم يحل ذلك دون الامتداد الى الرواية ، بل والشعر، والتي تعبر عن الاحتجاج على الخيبات الكبيرة وانكسار الأحلام وتأكل الايديولوجيات ، وسيطرة ليل طويل من اللامعني واللا جدوى والسقوط الانساني في نزعة استهلاكية تستمري؟ ذاتها، ولا تضر إلا بنفسها .

-4 في ضوء هذا، بالضبط ، كان من الطبيعي لكتابات الواقعية القذرة أن تتأمل الانسان والمكان من حوله والانتقا؟ المطلق لهوية هذا المكان في صورة الرحيل الدائم ، ومن هنا فإن الطريق وقصص التشرد والمقاهي والحانات والنزل على جانبي طرق تمتد من اللا مكان الى اللاموضع ، ولا تفضي الى شيء ، أو هدف ، أو مكان أو غاية تلعب دورا ليس بالهين في كل كتابات الواقعية القذرة .

-5 هناك أمر لابد أن يلفت نظرنا بشدة ، فهذه الأماكن والشخوص والطرق هي أمريكية تماما، ولكنها أيضا غير مميزة الملامح ، وبلا هوية ، وبلا طابخ محدد. وكأنها تستحضر تلك البوتقة الأمريكية الهائلة ، التي تمتزج فيها الألوان والأ خلاط والأمزجة والاتجاهات والرؤى، ولكن ما الذي يخرج من هذا طه ؟ إنه مسخ شائه ، عملاق ، يفرض قبحه على كل مشيء في الكون ، وبصقة خاصة على كل ما هو جميل ومتميز وحضاري، وشديد الخصوصية . ترى هل من قبيل الصدفة أن شركة والت ديزني العالمية قد اختارت وادي المدرن على بعد كيلومترات قليلة من باريس لتقيم هناك حديقتها المعروفة باسم دداليوروديزنيدد والتي تقدم النقيض الفج والبشع – الصارخ لكل ما هو راق وانساني وأصيل في الثقافة الفرنسية ؟

-6خلافا لما حاول بعض النقاد الترويج له فإنه لا يمكن القول بحال إن تيار الواقعية القذرة قد استنفد أغراضه وضرب عميقا في أرض كل ينابيعا، فعلى الرغم من مرور عقد ونصف العقد منذ صياغة الاصطلاح نفسه ، إلا أن الحركة التي يختزلها تندفع بقوة واقتدار، وعلى الرغم من فقدها رصيدا حقيقيا برحيل ريموند كارفي عن عالمنا في العام 1988 متأثرا باصابته بسرطان الرئة ، إلا أن دما جديدا يتدفق في عروق الحركة مع انضمام كتاب شبان الى تقا ليدها في الكتابة ، ومع إضافة نجومها للزيا من الأعمال الى رصيدها ورصيدهم الابداعي.

-7 من الصعب التنبؤ بإمكان استيعاب أعمال الواقعية القذرة في إطار ما يعرف بالتيار الرئيسي للادب الأمريكي. ومن المحقق أنه ليس من قبيل الصدفة أن إبداعات كتاب الواقعية القذرة تنشر أساسا في انجلترا وفي دور نشر صغيرة في الولايات المتحدة ، وحتى في الحالات الاستثنائية ، مثل حالة ريتشارد فورد نفسه ، فإن كبرى دور النشر الأمريكية ، عندما تطرح حالة من حالات الاستثناء الذي يؤكد القاعدة وتنشر عملا لأحد مؤلفي هذا التيار، فإنها لا تستخدم اصطلاح الواقعية القذرة ، ولا تشير اليه من قريب أو بعيد في المقدمة ، أو تعريف الناشر بالكتاب أو في الاعلانات عنه ، بل وقد تحاول أن تتدخل لدى كبرى المطبوعات المتخصصة في عروض الكتب للحيلولة دون تناول العمل من هذا المنظور. ومح ذلك فإن كتاب هذا التيار يملكون مصدر قوة هائلة ، يتمثل في صلتهم الوثيقة منذ انطلاق تيارهم ، بعدد من عباقرة السينما غير التقليديين . ومن المؤكد أنه ليس من قبيل الصدفة أن المخرج روبرت التعان قد استلهم روح فيلمه ذائع الميت "مختصرات " من عشر قصص من أجمل أعمال كاوفر، كما أقبل الجمهور على رواية وولف "حياة هذا الفتى" الى حد التخاطف بعد قيام روبرت دي نيرو بتحويلها الى فيلم ناجح .

-8 تتعرض الواقعية القذرة لخطر حقيقي، وداهم ، ولا يمكن التقليل من شأنه بحال ، هو خطر الانحصار داخل عالمها بمعناه الضيق ، والعكوف داخل هذا العالم على تقليد الذات ،وهو الخطر نفسه الذي قضى على الواقعية الأمريكية في تقا ليدها الأقدم عهدا، ودفع كاتبا في شموخ قامة إرنست هيمنجواي الى الانتحار. وتجاوز هذا الخطر يتوقف على مدى قدرة كتاب الحركة على المزيد من الحفر في ينابيع الابداع ، وربما كان الوعي بهذا هو وحده الذي يفسر الحرص الاستحواذي من جانب ريتشارد فورد على أن يقدم في كل عمل جديد عالما جديدا ومختلفا وأفقا مغايرا لما قدمه في عمله السابق مباشرة .

-9 لا يتردد كتاب ما يعرف بالتيار "السوريالي المستنقعي" وهو أحدث تيارات الأدب الأمريكي ، وفي سقدمتهم مارك ريتشارد، ودونالد أنتريم ، في القول بأن أعمالهم ستبلغ من التألق حد وضع تيار الواقعية القذرة في هامش الظلال المنسية ، ومع إنني يخيل الي أن هذا الطرح يبدو أقرب الى التفكير بالتمني منه الى أي شيء آخر، إلا أنني أعتقد أن هذا التيار جدير بأن نلقي عليه ولو نظرة فضولية تستشرف الكيفية التي حول بها كتاب هذا التيار مستنقعات الساحل الشرقي الأمريكي الى ساحة للا بداع الحقيقي.

-10 على امتداد النصوص التي طالعتها لكتاب الواقعية القذرة ، وهي ليست بالقليلة ، ساورني شعور مدهش بأن هناك جسورا لا حصر لها تمتد بين أدبهم وبين ما يكتبه كثيرون من الكتاب في عالمنا الثالث ، إن لم يكن في التفاصيل وفي جزئيات النسيج الحياتي، فعلى الأقل في الأجواء وفي الهموم ترى هل يرجع ذلك الى أن الرجع في عالمنا العربي ليس بعيدا تماما عن نظيره في أمريكا الأخرى، التي لا تظهر لنا في الأفلام ولا المسلسلات ولا المجلات ذات الورق اللامع والألوان البراقة ، أمريكا الصدق : الريف الميت والضواحي الخالية من الروح والطرق المفتوحة الى العدم ؟
هذه النقطة على وجه التحديد، ستنقلني الى البعد الثاني من الأبعاد الثلاثة التي تتناولها هذه الصفحات وهو البعد المتعلق بالمسيرة الابداعية للروائي ريتشارد فورد، باعتباره من أبرز من تلمح في أدبهم هذه الجسور التي أشرت اليها لتوي.

ولكن قبل أن نرصد محطات المسيرة الابداعية التي قطعها فورد، أليس من حق القاريء علينا أن نرد على سؤال من المؤكد أنه سيقفز الى ذهنه على الفور ، لماذا فورد على وجه التحديد؟

الأسباب عديدة ، ربما في مقدمتها أن تيار الواقعية القذرة كان يتصدى لقيادته ريموند كارفي وريتشارد فورد، فلما غيب الرحيل عن عالمنا الفاني أولهما، كان من الطبيعي أن ينصب كل الضوء على الثاني.
وربما كان هناك أيضا الثراء المدهش لعالم فورد الابداعي، وقدرته المذهلة على التجدد وعلى طرق آفاق جديدة ، حتى ليذهب البعض الى القول بأن خير دليل يمني بنا تحت آفاق العالم الرحب للواقعية القذرة هو فورد.
وربما كذلك لأن فورد يثير جدلا محتدما بين النقاد يتراوح بين فتح النار على ابداعه وبين الاشادة المطلقة بهذا الابداع .
ربما هناك أيضا أن فورد من كتاب الواقعية القذرة القلائل الذين أفلحوا في الخروج من ليل التعتيم والتجاهل والتهميش الذي طال فرضه في المؤسسة الأدبية الأمريكية التقليدية على هذا التيار. وأعترف للقاريء بأنني شعرت بالذهول ، عندما فوجئت بأن أحدث روايات فورد "عيد الاستقلال " صادرة عن الناشر الأمريكي العتيد الفريد نوف ، لا غيره .

ولكن قبل بدء الانتقال بين محطات فورد الابداعية ، يتعين علينا أن نلقي نظره على مسألة على جانب كبير من الأهمية في فهم عالم فورد الابداعي.
لقد سبق للناقد الأمريكي جيف جايلز أن أشار الى أنه : أدفي كل مرة ينتهي فورد من انجاز كتاب جديد يتساءل عما إذا كان سيقدر له أن يؤلف كتابا آخر".
والعلاقة الدقيقة التي تربط فورد بكل كتاب جديد يقدمه للقاريء هي من الموضوعات التي تحظي باهتمام يكاد يكون استحواذيا لدى فورد نفسه ، وهو في هذا الصدد يبادر ال القول في حوار قصير مع جايلز نشرته مجلة " نيوزويك " عقب صدور روايته "عيد الاستقلال " حول هذا الموضوع : ددإنني أحاول أن أخترع المهنة بأسرها من جديد، فلابد من أن يكون هناك دافع قوي لكي يؤلف شخص ما كتابا. وعندما يسألني الكتاب الشبان عن الكتابة ، فإنني أقول : ددعاملوها كالزواج ، ولا تقدموا عليها إلا إذا لم تفلحوا في إقناع أنفسكم بالعدول عنها".

ومسألة إضافة كتاب جديد الى الرصيد المنجز بالفعل تستمد حساسيتها عند فورد من حرصه على الكمال ، من رغبته في أن يكون ما يقدمه إضافة جديدة وابداعا مختلفا ، وليس إعادة تأليف للكتاب نفسه بطريقة أخرى، أو استمرارا في الكتابة من جانب مؤلف كان ينبغي أن يقلع عنها منذ وقت طويل .

من هنا ، بالضبط ، سيأتي قوله لأنطوني كوين في مقابلة مطولة نشرتها مجلة ددإسكوايردد في طبعتها البريطانية بعد صدور رواية "عيد الاستقلال " بوقت قصير : أدفي نهاية كل كتاب أقوم بإغلاق آلية الكتابة تماما ، أو شيء من هذا القبيل ، وأعود الى الصفر، وعندما انتهى من كتابة رواية قصيرة وأتوقع أن يكون ذلك في وقت ما خلال نصف العام المقبل ، فإنني سأكف عن الاهتمام . وما زلت في سن تتيح لي التفكير في القيام بشي ء آخر. وما من أحد قال إنه بسبب تأليفك ستة كتب جيدة فحسب يتعين أن تؤلف كتابا سابعا، وفضلا عن ذلك فإننا جميعا نعلم أن هناك الكثير من الكتاب الذين يواصلون الكتابة بينما كان ينبغي أن يتوقفوا عنها منذ سنوات".
غير أن هذا الحرص من جانب فورد على مطاردة الجديد، وعدم تكرار ما يقدمه ، في تجسيد مباشر لاهتمامه الدائم بالرحيل والانطلاق تحت آفاق مفتوحة بلا انتهاء وتلمس ملامح جديدة باستمرار وهو ما سنرى أنه يشكل معلما رئيسيا من معالم عالمه الروائي، قد يسي ء بعض النقاد تفسيره . كيف ؟

في مقال يعد من أعنف الهجمات النقدية التي وجهت الى فورد على امتداد تاريخه الابداعي، نشرته مجلة "زاورلد أندآي" الأمريكية في عددها الصادر في سبتمبر 1990، لا يتردد الناقد والروائي الأمريكي تشيلتون وليامسون تحت عنوان "الحريق الهائل يبدأ في الدار" في أن يقول عن مجمل إنجاز فورد الابداعي هي تلك المرحلة "في غمار تصفحي لا أعماله ساورني شعور غير مريح بأن هذه الكتب لا ينبني كل منها فوق الآخر، ولا يضيف اليه كثيرا، سواء على الصعيد الفلسفي أو الفني، وأنها بشكل أو بآخر ليست منحوتة حقا من مجمل الاهتمامات الأساسية للكاتب .

فهل الأمور كذلك حقا؟

يغلب على ظني أن ما يقوله وليامسون هنا يعكس خلطا حقيقيا بين حرص فورد على ارتياد آفاق جديدة ومختلفة من حيث المكان والموضوع في كل عمل من أعماله وبين عدم وجود خطوط مستمرة في نسيج هذه الأعمال تعكس رؤية كلية للمياة وللوجود.
وفي اعتقادي أن نظرة ولو عجل على محطات المشوار الابداعي عند فورد كفيلة بأن تضع يدنا على جانب من هذه الخطوط .

وأول ما سيلفت نظرنا في مشوار فورد الابداعي أنه خلافا للكثير من الكتاب الأمريكيين بدأ بإصدار عمل كبير وطموح ، وذلك في العام 1976 هو روايته "قطعة من قلبي" . والطموح هنا ليس على مستوى المعمار فحسب ، وانما على صعيد النسيج اللغوي كذلك ، حيث نرحل طويلا مع لفة الجنوب الأمس يكي الخشنة ، وقد اكتسبت فجاجة الصدام مع المنعطف الرابع للقرن العشرين .

الساحة التي تجرى عليها أحداث رواية "قطعة من قلبي" هي ولاية المسيسبي، حيث نلتقي مع عجوزين في دارهما المتداعيتين ، ولا يكف الرجل عن الثرثرة وصب اللعنات ، دون أن يحجب عنا هذا كله لمحات من حكمته ، ومز رعتهما ترتبط عن طريق القوارب بجزيرة يستثمرانها في الحصول على مقابل من الراغبين في ممارسة الصيد عليها، وخاصة في مواسم صيد البط والد يكة الرومية البرية . ويقبل الى هذه الساحة شابان ، يحظى كل منهما بقسم من الرواية بالتبادل مع الأخر.

الشاب الأول يردد أصداء شخصية كوينتين كومبسون عند فوكز، وهو تأثر يبدو لنا طبيعيا ومنطقيا، وسنواه في أكثر من موضع من أعمال فورد الأولى . وهذا الشاب خريج جامعة كولومبيا ، ويدرس القانون في جامعة شيكاغو، وهو يعيش حالة من السقوط والهموا. وتعتقد صديقته أنه بما أنه من أبناء المسيسبي، فإنه قد يستعيد نفسه من خلال رقية سحرية من نوع ما في هذه المزرعة التي يمتلكها أحد أقاربها:

لكن الشاب الثاني هو الذي سيلفت أنظارنا حقا. إنه يدعى رو بارد، ومصيره يثير دهشتنا من خلال انطلاقه من نسيج روائي بالغ التشابك بلا حدود ، فهو يستيقظ ذات يوم في غبش الصبح ، ويلقي نظرة عجل على زوجته الغافية في سلام . وعلى الرغم من أنه يكن لها مشاعر رقيقة ، إلا أنه يرحل دون أن يترك لها كلمة واحدة . ورحلته ، أو إن شئت الدقة فقل سيرته الشائكة الى مستنقع الجنس الوحشي تطل من خلال التزام فضولي وملتو بخوض غمار تجربة هي اللعنة أقرب من – أي شي ء أخر . فقبل سنوات كان رو بارد قد التقط فتاة من الطريق – عندما تعطلت سيار تها، وانتهى الأمر بهما في ساحة للسيا رات القديمة حيث أمضيا ليلة أو ليلتين من الجنس الوحشي ، الفج ، النافر العروق ، كأنه مسيرة من الجحيم الى الجحيم . وبالنسبة لرو بارد كانت تلك هي نهاية الأمر، ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة للفتاة التي تدعى بيونا.

وفي اعتقادي أن بيونا من أغرب الشخصيات التي يصادفها القاريء في الأدب الأمريكي الحديث ، ومن أكثرها قدرة على الالتصاق بالذاكرة ، ففي قرارها جوهر انساني وحقيقي لكنها لكي تحقق هذا الجوهر تشق طريقا يثير ذهولنا، هو طريق الجنس الوحشي ، وهذه الوحشية لا تحجب عنا الطفلة البريئة الكامنة في أعماقها وان كنا نعلم أن هذه الطفلة تشق طريقها الى دمار حقيقي، حين تطارد أحلامها من خلال لقاءات جنسية فظيعة تزداد ضراوة مع استمرار تكرارها لذاتها.

لقد تزوجت بيونا من و.و. وهو نائب للشريف ولاعب كرة حواري مفلس على الدوام ،لكن حياتها معه تثير شعورها بالاحباط ، وبعا أنها تعرف المكان الذي يقيم فيا رو بارد فإنها تضغط عليه ، من خلال سيل من الرسائل والمكالمات الهاتفية ، لكي يلحق بها، وهو ما يفعله في نهاية المطاف ، وهو يلتحق بالعمل في المزرعة العتيدة ، كحارس صيد في الجزيرة يقضي وقته في إبعاد من يمارسون الصيد بطريقة غير مشروعة .

لكن عمل رو بارد الحقيقي هو أن يمني في كل مساء للقاء بيونا، ونكتشف قرار الجحيم الذي تردى اليه ، عندما نعرف أن بيونا مضت الى آخر لقاء ليلى لهما حاملة كيسا من البلاستيك يضم بعض الفضلات البشرية . وهناك ستار تعتيم رحيم يسدله فورد على مشهد هذا اللقاء، الذي يتحول الى مؤشر لرو بارد بحتمية الخروج من هوة هذه اللقاءات الايروسية الضارية مع بيونا، وهكذا فإنه يستقل شاحنته ، ويمني وراءه و.و. حاملا بندقيته ومل ء روحه دخان الرغبة في الانتقام ، ور وبارد يلقي حتفه بالرصاص فعلا ولكن ليس من بندقية نائب الشريف الغيور، وانما من بندقية حارس عين في الجزيرة عقب غيابه ، فأردأه وهو يظنه من الصيادين المتسللين .

وقليلة هي الأعمال الأدبية الأمريكية الحديثة التي تقدم لنا بكل هذه الطلاوة والجمال والفتنة ، الطبيعة في الريف الأمريكي العصي والوعر والضاري، ونمار أين نتوقف لنتأمل ونحن نمني عبر آفاق هذا العمل من مياه النهر ليلا الى خضرة الغا بات الى جهامة المدن وخواء الضواحي . ولكننا على كل حال لن ننسى رو بارد ، الذي سيكون النموذج المتألق الأول من بين رتق من الشخصيات المماثلة التي سنلتقيها في عالم فورد الروائي ونتابعها وهي ترد موارد التهلكة على نحو مأساوي قاهر.

في رواية فورد الثانية "منتهى الحظ الحسن " الصادرة في العام 1981 سنخوض مع فورد غمار رحلة مختلفة تمام الاختلاف ، حيث نمضي هذه المرة الى أواكاساكا في المكسيك ، عبر مسيرة تذكرنا بالسينما السودا؟، والصلة الوثيقة بين الواقعية القذرة والسينما ليست مجرد صدفة كما نعلم .
هنا سنلتقي مع كين ، وهو أحد قدامي المحاربين في فيتنام ، ومع صديقته راي، في غمار جهود مكثفة يبذلانها لإخراج سوني، شقيق راي من جحيم سجن مكسيكي أودع غياباته بعد ادانته بتهريب المخدرات ، والافراج عنه سيتحقق من خلال الرشوة ،الاتصالات الغامضة والمناورات الملتبسة التي يتم القيام بها بتوجيه من محام غامض يدعى بر نار، سيلقي مصرعه في نهاية المطاف على أية حال .
وهناك بالمقابل ويلز، الذي ينطلق بدوره الى سوني، ولكن بقصد النيل منه ، حيث إنه يعتقد أن سوني بحكم كونه شريكا له قد انتزع لنفسا أرباح إحدى عمليات تهريب المخدرات الكبرى التي قاما بها معا، وهو يظن أن سوني يرغب في البقاء في السجن ليحتمي بجدرانه من الانتقام الذي يعده له .

وفي هذا العمل سنلمح الثراء اللغوي المدهش الذي طالعنا في الرواية الأولى ، والتشبع العميق بروح المكان ، سوا أكنا في الريف ، أو الحانات ، أو الحواري، أو السجن والفهم المتكامل لعالم منتصف الليل ، ولدنيا الجحيم السفلي للا جرام والمخدرات والسجون .

في العام 1986 أصدر فورد روايته "كاتب الرياضة " التي تشكل رحلة ثالثة مختلفة كذلك عما سبقها وأيضا عما سيليها. ولسوف تظل مقترنة في أذهان النقاد والقراء على السواء بأنها الرواية الأكثر صدقا في تجسيد حياة الأمريكي العادي . حيث نلتقي مع البطل فرانك بيسكومب . الذي يقيم في بلدة هدام بولاية نيوجيرسي ، وهي بلدة شيدت مبانيها على طريقة مساكن الضواحي ، تتصف بأنها عادية تماما، ومن هنا فإنها تناسب حياة بيسكومب وعاداته وتوقعاته ، بل وطموحاته . فقد نشر مجموعة قصصية عادية ، وكتب بداية رواية "لم يتم أبدا" ، وحياته تجمع بين المرح وأيضا بين رفرفة أجنحة سوداء، حين يلقي ابنه رالف مصرعه وتطلق زوجته التي لا نعرفها أبدا إلا باسم " إكس " وهو الاختصار الامريكي الشهير للقب الزوجة السابقة ، وعندما يعرض عليه العمل في مجلة رياضية تصدر في نيويورك يقبل هذا العمل ، ولكنه لا ينتقل الى نيويورك ، وانما يبقى في بلدته وينتقل منها الى نيويورك ويعود اليها يوميا.

وعلى الرغم من اللقاء العجيب بين اللمسات المرحة والملامح السوداوية في "كاتب الرياضة " إلا أنه يظل عملا مركبا يحتفي بالحياة ، ويتحدث باسمها، وتكمن حيويته بشكل جوهري فيما يتمتع به من حرية وبلاغة .
مع صدور مجموعة فورد "الينابيع الصخرية " في العام 1987 سيحدث انتقال حقيقي في الشكل والمضمون معا، فهذه هي مجموعته الوحيدة -حتى كتابة هذه السطور- وهوابتداء منها سينتقل الى الغرب الأمريكي كساحة لابداعه الأدبي.
وأول ما سيلفت نظرنا في هذه القصص الاستخدام المتدفق والمفعم بالثقة للسرد بضمير المتكلم ، فهنا ينطلق في الحديث عبر تلك "الأنا" السحرية لصوص صغار ومشردون وجانحون وراحلون عبر طريق تمتد بلا انتهاء دونما هدف واضح، وهم لا يتذكرون أحداثا غابرة ولا يعيدون صياغتها بشكل جديد، وانما يحيون في المامي الخالص ، وأيضا في أحداث اليوم المبتسرة ، والمولودة كأنما عبر مخاض عسير، ويبلغ وهج هذه الأنا الحد الذي يكاد ظل المؤلف القائم بعملية الخلق والابداع والتلاعب أن يتبدد وينحسر تماما.
وشأن كل عمل من أعمال فورد نحن مع ساحة محددة للأحداث هي هنا مونتانا التي يبدو لنا مشهدها في قصة وراء الأخرى خاويا، وجميلا ، وموحيا بالوحدة ، والعزلة ، والرجال الذين سنقابلهم منا يقومون بأعمال عرضية ، ويتعرضون للفصل منها، فلا يجدون في نهاية المطاف إلا صيد الحيوانات والطيور والأسماك ، وممارسة الجنس ومشاهدة التليفزيون نهارا، والعكوف على الشراب والمشاجرة ، بحيث يصبح الطيش والتهور طريقة للحياة.
ولكن جوهر ما تقوله هذه القسر سر أن هؤلاء الناس الذين نلتقي بهم على صفحاتها ليسوا دائما سيئين بالقدر الذي توحي به أعمالهم ، وما من حكم يتم إصداره عليهم ، ومع ذلك فإن كل ما في نسيج حياتهم من يأس وحماقة وما يترتب عليهما من عواقب لا يثيران إلا اشفاقنا.
وقيما يتعلق برواية "حياة وحشية " فلست أراني بحاجة الى تفصيل القول فيها، فهذا العمل الصادر في طبعته النيويوركية في العام 1990 موجود باللفة العربية بين يدي القاريء، وقد مهدنا لترجمتنا له بمقدمة مستفيضة . ومع ذلك فلا بأس في أن نوضح لمن لم يقدر له الاطلاع على هذا العمل أن "حياة وحشية " تروى أحداثها بعيني فتى في السادسة عشرة من عمره ، يشاركنا أسرار الأيام القلائل في خريف العام 1960 التي ألحقت الدمار بأبويه .
إننا هنا أمام طبيعة مونتانا الرجراجة والقلقة والمتغيرة ، وبالمقابل فإن البلاغة اللبقة والمهمومة للأنا التي تروي الأحداث تحدث توازنا مع المكان الرجراج . وهو على وجه التحديد بلدة جريت فولز، التي تندلع حرائق الصيف في الغابات القريبة منها، فيواصل الدخان وألسنة اللهب التصاعد نحو السماء في وجه الخريف المقبل .
لقد أقبلت الأسرة من أيداهو ، سعيا وراء نصيب من الازدهار النفطي، ولكن الرخاء لا يمتد اليها أبدا، فالأب الذي يعمل بالقاعدة الجوية يومين في الاسبوع ويستكمل دخله بالعمل كمدرب جولف في النادي الريفي المحلي سرعان ما يطرد من عمله ظلما وبوقاحة ، ولكنه ينال فرصة للهرب من الانهيار العاطفي والروحي الذي يتحول الغرب عند فورد الى ساحة هائلة لهما، عندما يتم السماح له لأن يحتل مكانا وسط فرق من الرجال المخضرمين المنطلقين لمكافحة النيران في الغابات .
وتبقى الأم وحيدة ثلاثة أيام ، ولكن ما ألحو الأحداث التي تقع في هذه الأيام الثلاثة ، فهي تقوم مع الابن اليافع بزيارة للثرى النفطي الشره وارين ميللر، وبعد أن تعكف الأم ووارين على الشراب لا تبدي مقاومة للاغوا، وتقرر أن تهجر زوجها وأن تقيم في شقة مؤجرة لتحيا ما تعتقد أنها حياة أفضل مع وارين ميللر، وحينما يهبط الأب من التلال ويترامى أمامه المدى المتطاول للدمار الذي حاق بحياته والذي لا يختلف كثيرا عن الدمار الذي ألحقته الحرائق بالفا بات التي تركها لتوه يهرع مع ابنه الى دار ميللر، ويحاول إحراقها ، لكن الفشل يتوج محاولته ، ولا يوجه اليه وارين ميللر تهمة الاحراق العمد، وانما يبادر الى مغادرة المدينة عير امرأة أخرى.
ونتأمل مع الابن اكتمال دائرة القدر فبعد سنوات من التجوال تلتقي الأم والابن ، ويستقران معا، لأنه إذا كان شي ء ما غامضا ، وملتبسا ، قد مات بينهما ، فإن شيئا أخر قد بقي.
ولست أرغب في قول المزيد عن "حياة وحشية ". حتى لا يتهمني القاريء بأن اقترابي منها، من خلال ترجمتي لها، قد جعلني اتحيز لها، وأفقد الموضوعية حيالها، وبالتالي يكفيني القول هنا إن الايقاع الهاديء على امتداد التهديد الذي يحفل به المشهد الطبيعي والتحدي المتربص في قلب التجربة يعدان بمثابة نوع من الحل الوسط ، كأنهما المطر الذي ينهمر على الأشجار المسودة بفعل الحريق .
في العام 1992 أصدر فورد روايته القصيرة "العاشق "، ولسوف أترك الحديث عنها للبعد الثالث بين أبعاد هذه الصفحات ، لكن فورد قدم لقر ائه مفاجأة حقيقية عندما أطل عليهم في منتصف العام 1995 بروايته "عيد الاستقلال " التي تعتبر بمثابة الجزء الثاني لرواية "كاتب الرياضة ".
في "عيد الاستقلال " نجد أن فرانك بيسكومب بطل "كاتب الرياضة " ما يزال يعيش في بلدة هدام بولاية نيوجيرمي، ومازال مطلقا، وقد انتقلت زوجته السابقة للا قامة بعيدا، فقام بشراء دارها العتيقة ، وانتقل للسكنى بها، وتوقف عن العمل في الصحافة الرياضية ليحترف بيع العقارات ، وهي مهنة عجيبة ، تقدم في جوهرها دعما كوميديا على نحو بائس لأيام بيسكومب ولياليا.

وهذا الجانب من حياة بيسكومب يتكامل مع الجوانب المظلمة الأخرى في حياته ، والتي تجسدها رحلته في الرابع من يوليو – ومن هنا يأتي العنوان – مع ابنه الشاب بول الى قاعة مشاهير عالم كرة السلة في سبرنجفيلد بولاية ماسا شوستس وقاعة مشاهير عالم البيسبول في كوبرزتاون بنيويورك. وعلى الرغم من غرابة أطوار بول ، كانطلاقه فجأة في النباح احياء لذكرى كلبه النافق ، وربما لذكرى أخيه رالف ، فانه يبدو مرشحا لأن يشابه أبده في عفريته المدهشة ، وفي قاعة مشاهير البيسبول يلحق بول ضورا خطيرا بإحدى عينيه ، وتجيء أمه التي تزوجت للمرة الثانية من مهندس معماري ثري، في طائرة هليوكوبتر وتقله الى نيوهافن لاجراء جراحة عاجلة لعينه هناك .

وتحفل الرواية بالعديد من التنويعات ، فهناك سالي صديقة فرانك ومستأجرو بيت يملكه ، وأصدقاء قدامي. وكما هو الحال دائما مع ريتشارد فورد فإن الاحساس بالأماكن ، المدن الضواحي الدور الطرقات الرئيسية ، يبدو بتفاصيل شديدة الثراء يجري رصدها على امتداد العمل ، الذي ينتهي نهاية مفتوحة توحي بإمكانية الانطلاق مجددا.

هل يعني ذلك امكانية تحول عالم فرانك بيسكومب الى ثلاثية روائية ؟ إن فورد نفسه ينفي هذا الاحتمال في مقابلة مع مجلة "اسكواير" ولكن …. من يدري؟

إذا انتقلنا الى البعد الثالث من الأبعاد الثلاثة التي نناقشها على امتداد هذه الصفحات ، وهو المتعلق برواية "العاشق" لكان من حق القاريء أن يتساءل : لماذا "العاشق" من بين كل أعمال فورد؟
وسأبادر على الفور بالقول : لأن "العاشق" تشق الآن طريقها الى القاريء العربي، بعد أن قمنا بترجمتها ودفعها الى المطبعة ، وبالتالي ستكون تحت نظر القاريء ويمكنه أن يختبر بنفسه مدى دقة الملاحظات التي سنسوقها حالا، ويدخل في حوار معها من خلال ملاحظاته الخاصة .
ولكن ذلك ليس كل ما هنالك ، فرواية "العاشق" رغم سحدودية عدد صفحاتها تدور في آخر مكان يمكن أن يخطر على بالنا، تدور بعيدا عن الضواحي الامريكية ، وعن الطرق المفتوحة وعن الريف الخاوي كأنه بلا روح ، تدور في باريس . ومن حيث الموضوع يدور هذا العمل في جوهره حول مفهوم الاغتراب ، مع التركيز على البعد المتمثل في انفصال الشخصيات عما حولها تماما، بحيث يغدو من المستحيل الوصول اليها ، أو مد الجسور نحوها.
وهذه الرواية ، على الرغم من قصرها ، تشكل منعطفا مهما في عالم فورد الروائي ، حيث يبدو من خلالها جانب من رحلة التأمل التي قطعها متلمسا مساره والى أين ينبغي أن يمضي في خطواته التالية .
ولسوف أكتفي هنا بإيراد خمس ملاحظات رغم اعتقادي بأن القاريء يستطيع انطلاقا من هذه الملاحظات وبالرجوع الى النص العربي للرواية ، الذي سيمثل بين يديه قريبا، أن يضع ملاحظاته الخاصة . ولست أشك في أنها لن تقل عمقا عما تحاول إيراده هنا، إن لم تتجاوزه .

-الملاحظة الأولي : يكاد يكون من المستحيل أن يوجد حوار منشور مع ريتشارد فورد يخلو من إشارة ، ولو عابرة ، الى حدي الموضوعات الأساسية في عالمه الابداعي، وهي موضوعة انتزاع الانسان من عالمه اليومي ودفعه الى عالم آخر جديد، ومحاولته رسم معالم صورة إنسانية لهذا العالم الجديد تقوم على الاقتراب والتعرف وخلق علاقة انسانية معه . ومن المؤكد بالقدر نفسه أنه ما من عمل لفورد يخلو من تجسيد حي ومتوهج ئهذه الموضوعة ، ومن المؤشرات الدلالية التي تتجمع على نحو غامض ، وملغز، وملتبس ، ولا يفضي بأسراره إلا لمن يرصد ملامحها ويتابعها ويحاول المضي عبرها مؤشرا إثر الآخر، الى جوهر خفي يقودنا اليه المؤلف ، أو إن شئت الدقة فقل النص ، على نحو ما وصل الينا، سواء أراد المؤلف ذلك أو لم يرده.

وفي السطر الأول من "العاشق" لا نبدأ من البداية ، ولا من لنهاية أيضا ، وانما من نقطة في مسار الأحداث يضل فيها لبطل ، مارتن أو ستن ، طريقه وسط شوارع باريس ، وهو يحاول الوصول الى شقة جوزفين بلبار. ومن المدهش هنا أنه يحاول الوصول الى مكان يعد معلما بارزا من معالم باريس : حدائق اللوكسمبورج ، التي تطل شقة جوزفين عليها. ومع ذلك فهامو يخطي، فينعطف في شارع ساراز ان الضيق ، متصورا أنه سيفني الى شارع أكثر اتساعا ، ربما كان شارع فوجيرار ، يمكنه أن يمضي عبر امتداده ، وصولا ال شقة جوزفين .

وبعد أسطر قلائل سنعرف الحقيقة البسيطة : إن مارتن أو ستن من شيكاغو. وعلى الفور يدور في ذهننا سؤال محدد: ما الذي انتزعه من عمله الناجح في تسويق الورق الفاخر هناك ، ومن بين أحضان زوجته المحبوبة ، بربارة ، ومن عالمه الواضح والمحدد والدقيق ليضل طريقه في باريس ، عبر شوارع يحاول عبثا أن يعرفها ، وصولا الى امرأة لم يقدر له أبدا أن يعرفها بصورة حقيقية ، وليقني بطفل لم يره من قبل ، وليحاول دخول حياة لن يقدر لها أبدا أن تبدأ، دع جانبا أن تتكامل مقوماتها ؟ هذا الحشد من المعاني يفجره السؤال الهادر الذي ستطرحه عليه جوزفين في نهاية العمل : "من أنت ؟".

الملاحظة الثانية : ربما كانت رواية "العاشق" في جوهرها، أو في الجانب الأكثر قوة منها ،محاورة لاكتشاف مغاليق هذا السؤال نفسه ، ربما كانت بشكل من الأشكال رحلة مع مارتن عبر متاهة اغترابه ، ليعيد اكتشاف نفسه . وعلى الرغم من أن الجانب الأعظم من أحداث الرواية يقع في باريس ، إلا أن المنطلق الحقيقي الذي ينبغي أن نرصده هو علاقة مارتن بنفسه ، وبزوجته بربارة ، ويعمله في الترويج للو رق الفاخر ، الذي يستخدم في إصدار طبعات دوائر المعارف والقواميس والكتب المميزة (ترى هل اختيار هذه المهنة وهذا المنتج بشكل خاص يعد من قبيل الصدفة؟ أليسة هذه المطبوعات هي بشكل خاص الاصدا رات التي تضم الحقائق الأساسية المتعلقة بالحياة وبالوجود وبالكون الواسع من حولنا ؟ وما الذي يعنيا قيام مارتن بالفاء التزاماته في أوروبا للبقاء في باريس وكأنه يقول وداعا لهذا الورق وحقائقا التي اكتشف أنها ليست الحقائق بالمعنى المطلق وأن عليه هو نفسه أن يعيد اكتشاف حقائقه الخاصة التي طالما احتجبت عنه وراء ضباب العادي والمألوف ؟).

إن النص يقدم لنا إضاءة من خلال الظلال ، فلقاء مارتن الأول مع جوزفين لم يكن إلا عبر لمحة عجل لها في مكتبها الفارق في الظلال في دار النشر التي تعمل محررة مساعدة بها، وهي غارقة في الحديث بالانجليزية عبر الهاتف وبالكثير من الاشارة التي تصاحب حديثها ، وفي هذا المكتب الفارق في الظلال سنلتقي ببعدين محددين ، هما بعد انفصال وبعد اتصال ، فالانفصال يجسده غرق المكتب في الظلال وبعده عن أن يكون محطا للاهتمام ، ولهذا بالضبط فإن جوزفين كان يمكن أن تكون من الأشخاص العاديين ، الذين ينزلقون من سطح الذاكرة دون أن يتركوا أثرا يذكر. ولكن هنا بالضبط ينهض بعد الاتصال ، فهي تتحدث الانجليزية اللغة التي يتحدثها مارتن ، والتي لا تسعفه في مدينة تعتد أشد الاعتداد بلغتها المباينة وثقافتها المغايرة ،وتتمسك بهما الى حد التحيز المطلق ، بل وتصل الى مستوى لتعصب الكامل لهما. وربما من هنا فإن اتصال مارتن الهاتفي يجيء، حسبما يشير النص : ددولم يكن في ذهنه شي ء محدد، إنه مجرد اتصال هاتفي عشوائي ، مجرد من المعنى".

ولكن من المؤكد أن الأمر ليس على هذه الدرجة من لعشوائية ، فبدء صلته بجوزفين على هذا النحو وتطورها صورة مذهلة خلال ثمان وأربعين ساعة لا يوحيان بسحر مارسته جوزفين عليه ، وانما يشيران الى أن هنان خواء حقيقيا ني علاقة مارتن بزوجته بربارة .

هذه العلاقة ، علاقة مارتن ببربارة ، لا يمكن إلا أن تثير .هشتنا فنحن نعلم أن بربارة تشكل عالما بأسره بالنسبة له ، .انهما تزوجا عن حب ، وعاشا حياة بلغ تصورهما لامتلائها لحد الذي دفعهما الى اتخاذ قرار بعدم الانجاب.

هنا يلقي النص بعلامتين تقودان سيرتنا لفهم الدرجة لتي وصلت اليها حالة الاغتراب التي تفرض نفسها بينهما:

أ – الاتصال الهاتفي بينهما عبر المحيط يمتد لا تعبيرا عن اللهفة والشوق الى اللقاء ، وانما مشادة مكلفة يبعث الصمت الذي يتخللها برسالة الى طرفيها تؤكد مدى التخريب الذي لحق العلاقة بينهما.
ب – الاتصال الجنسي بينهما في مساء عودة مارتن الى داره يبدو أقرب الى ملمح في مأساة إغريقية منه الى أي شي ء آخر. والنص يضيء لنا حقيقة هذا الاتصال على نحو لا سبيل الى تجاوزه دون تأمل دلالاته ، حيث نقرأ:

"في وقت متأخر من تلك الليلة ، وكانت ليلة ثلاثاء ، ضاجع بربارة مضاجعة قصيرة ، يأخذ السكر باكنافها، في ظلام غرفة نومهما ذات الستائر الكثيفة على صوت نباح كلب الجيران السنبلي الصغير ، الذي لم يتوقف عن الدوي على مبعدة شارع واحد منهما . كانت مضاجعة تفصح عن مراس ، وتخلو من المفاجآت ، مجموعة من البروتوكولات والافتراضات التي درجا عليها بحب ، كأنها طقس ديني ، والتي تؤشر، وان لم ترتبط كثيرا بالألفان والعما، الذي جعلها ذات يوم ضرورة تتقطع لها الأنقاس . ولاحظ أو ستن من خلال الساعة الرقمية الموضوعة على خزانة الأدراج أن الأمر بكامله لم يستغرق إلا تسع دقائق من البداية الى النهاية . وراح يتساءل متجهما عما إذا كان هذا التوقيت عاديا أم أقل من العادي بالنسبة للأمريكيين معن هم في مثل سنه وسن بربارة . وقد افترض أنا أقل من العادي، على الرغم من أنه لم يكن هناك شك في أن القصور يقع على كاهله ".

إن طول هذا المقتطف يبرره ، في اعتقادي تعدد الاضاءات التي يحققها لنا ما نجد أنفسنا حياله ، فالصلة الجنسية ، التي ارتفع بها الزوجان الى مصاف الطقس ، هي في جوهرها نقيض ذلك ، بالضبط إنها الأداة الأكثر عفوية وحميمية التي تعيد بها الطبيعة تفكيك كل ما هو طقوسي ، وآلي ومرتب مسبقا، لتمنحه انطلاق نسيم الغابة وعفوية اللهو على أغصانها. ووصول هذه العلاقة الى طريق مسدود هو إعلان بأن كل ما في العلاقة بين الزوجين قد تكلس وتحجر وغدا تعبيرا عن انفصال بينهما لا سبيل معه الى إعادة مد الجسور.

ربما لهذا ليس غريبا أن تنفجر بربارة في مشهد المطعم لتكيل لمارتن الاهانات ، قبل أن تخرج ، وكأنها تخرج من حياته بأسرها.
وربما لهذا، أيضا ليس غريبا أن يحمل مارتن حقيبته ، ويمضي عبر المحيط ، تاركا الولايات المتحدة بأسرها وراء ظهره .
إن التصرفين يبدوان لنا وليدي لحظه مفاجئة ، ولكنهما ، بالطبع ، ليسا كذلك ، وانما هما الطبيعي والمنطقي والعقلي في علاقة ألقى الاغتراب المطلق والذي لا سبيل الى تجاوزه ، بظلاله عليها.
ولكن لوحة الاغتراب التي تشكل حياة مارتن أو ستن لا سبيل الى أن تتكامل إلا إذا تلمسنا بعدين في غاية الأهمية :
 أ – علاقة مارتن بنفسه .
ب – العلاقة التي تربطه بعمله .

ومن الجلي أن هذين الجانبين مترابطان ، ولكن ما يعنينا قوله هنا، بفض النظر عن فصلهما لأغراض الدراسة ، أنه يمكن من خلال تحليل موجز كالذي سقناه قبل قليل أن نصل ، فيما يتعلق بالبعد الأول ، الى الحقيقة البسيطة : إن مارتن لا يملك إجابة حقيقية على السؤال الذي طرحته عليه جوزفين في نهاية الرواية ، ولكننا باليقين نفسه نستطيع القول إنه ليس ميتا ، ولم يصل الى حد العدم ، على نحو ما قالت جوزفين في كلماتها الغاضبة الأخيرة . حقا إنه يضطرب في ليل من الحيرة والضياع والتخبط ، ولكن مجرد تملصه ومحا ولته الانتقال للمياة تحت أفق جديد، هو جهد انساني للانعتاق من قبضة الاغتراب الوحشية ، أو على الأقل لفهمه تمهيدا لمواجهته ومحاولة قهره .

والبعد الثاني لا يتناوله النص بأي درجة من التفصيل ، وانما يشير اليه بلمحة عابرة ، في جانبين محددين ، أولهما حديث مارتن مع رئيسه في العمل عبر الهاتف ، وهو حديث نسيجه البرود، الذي يشي بعداء حقيقي، هو جوهر علاقة مارتن بعمله . ولكنه يدرك أن القطيعة مع العمل لا معنى لها، وانما المعنى كل المعنى هو القطيعة مع عمل لم يعد يعني له شيئا، ولم يعد يوفر له فضاء انسانيا رحبا، ولهذا بالضبط فإنه يبدأ الحوار مع صديق أمريكي له في باريس حول المشاركة في العمل في ميدان تكييف الهواء، وان لم تتم ترجمة هذا كله الى خطوات فعلية .

الملاحظة الثالثة : تجسد جوزفين بليار تقليدا ممتدا بلا انتهاء في كتابات فورد، يدور حول نساء لا سبيل الى نسيانهن ،ولهذا البعد فإنها تعيد الى أذهاننا على الفور حشدا من النساء في عالمه الروائي، في سقدمتهن جانيت برونسون ، بطلة "حياة وحشية " .
هذه النوعية من النساء هي من القوة بحيث تتحدى إمكانية النسيان ، ولكن ذلك لا يعني أن هذه الامكانية نابهة من طابعهن الايجابي ، وانما هي صادرة على وجه التحديد من قدرتهن على التأثير، وعلى لفت الأنظار، وعلى الاعلان بالحضور الذي يوشك أن يكون صرخة في وجه الوجود بأسره .

والعلامة – الاضاءة الأكثر بروزا التي يقدمها لنا فورد، في غمار ارتيادنا لعالمها الغامض والملتبس هي تلك اللحظة الفريدة التي تخلق الحميمية بينها وبين مارتن خلالها الى حد تقبيله لها ، في عتمة سيار تفا أمام فندقه ، غير بعيد عن مخفر الشرطة نفسه ، الذي ستنتهي عنده أحداث الرواية . إنها لا تبادر بالتحرك ولا بالترحيب ، ولكنها أيضا لا ترفض ، ولا تقاوم ، وكل ما تقوله في غمار قبلتهما هو : "لا ، لا ،لا ، لا ، لا، لا".
ما الذي يعنيه هذا؟

إنه تجسيد لفلسفة جوزفين في الحياة ، فهي تترك الأشياء تحدث لها هي لا تسعي اليها ، لا تنشدها ، لا تطاردها ، ولكنها أيضا لا تقاومها، على الأقل ليس بصورة حادة وقاطعة وهاترة ، وهذا الموقف هو نفسه الذي ستتخذه لدى محاولة مارتن رفع درجة الحميمية بينهما، عند انفرادهما في شقتها، حيث ستهتف به "توقف ! ما الأمر!" ولكنها أيضا لن تدفعه بعيدا، ولن تعامله بتصلب ، ولا بشدة ، أو قسوة ، وانما ستتركه يقبلها بطريققه الخاصة ، كبديل لطريقتها القوية والمجردة من العاطفة معا.

لكن جوزفين الحقيقية لن يتكشف عنها النص إلا في نهاية العمل ، خلال حوارها الغاضب مع مارتن أمام المخفر، لسوف ينكشف لنا ما جعل زوجها يصل الى كل هذا الحنق والسعي الى الانتقام عندما خانته . ولسوف ندرك جوهر ما جعلها تجتذب مارتن من بين كل الباريسيات اللواتي يفقنها جمالا ولباقة وجاذبية ، إنها تلك القوة النابهة من الشعور بالمسؤولية ومن الادراك الحقيقي للمياة وأهميتها ووزنها ودوامها . ومن المؤسف حقا هنا أن النص يحدثنا عن هذا ، ولا يدعه يتناهى الينا في تضاعيف الأحداث .

الملاحظة الرابعة : تعد بربارة الغائب الحاضر الكبير في "العاشق" وهذا يبدو بوضوح منذ الاضاءة السيميولوجية الأولى في النص لحضورها ، ففي الاتصال الهاتفي الذي يشكل اللقاء الأول لنا بها، والذي يجريه معها مارتن عبر المحيط ستعلن عن حضورها القوي من خلال فترات الصمت التي تتخلل هذا الحوار، واذا كان صحيحا أن الصمت خطاب يكتسي قوة إضافية ،  فإن رسالة بربارة تصلنا بوضوح عبر الأسلاك من الجانب الآخر من المحيط .

والنص لا يدعنا للحيرة طويلا بشأن هذا الحضور الكلي لبربارة في حياة مارتن ، حيث نقرأ أدفي حقيقة الأمر أن بربارة أجمل النساء اللواتي قابلهن وأكثرهن إثارة للاهتمام ، وهي الانسانة التي تحظي بأكبر قسط من الاعجاب منه .. ولم يكن متطلعا الى حياة أفضل . ولم يكن ينشد أي شىء. لقد أحب زوجته . وكان أمله أن يقدم لجوزفين بليار منظورا إنسانيا مختلفا عما تعودته ".
ماذا إذن ؟ ما الذي يفجر حياته معها؟ ما الذي يدفعه الى الخروج من جنة عدن هذه التي تبدو سرمدية لدى النظرة الأولى؟

إن بربارة ، كما يبين عبر الاضاءات السيميولوجية في النص ، لا تملك ردودا على علامات الاستفهام هذه ، وكل ما هناك أنها تدرك أن زوجها قد غدا بعيدا، ولا سبيل الى مد الجد مور معه ، ولكنها تميل الى معالجة ذلك من خلال تعليق الآمال على أن الأمور ستعود الى مدارها من تلقا، نفسها، وهكذا فإنها تراهن على آلية مسار الحياة ، على ثقل الاعتياد، على طغيان الحياة اليومية ، دون أن تدرك أنه من قلب هذا كله نبعت قوة الطرد التي أخرجت زوجها من مساره وهي تهمس له مؤكدة : "إننا معا" نحن متحابان وأيا كان ما نريد جعله ممكنا ينبغي أن يكون بمقدورنا جعله كذلك ".

فهل تمني الأمور على هذا النحو؟

ليس تماما ، ليس في الضواحي الامريكية ، التي تعوي الريح في خوائها الروحي والانساني ، ويدور دولاب الضياع في خو ائها المدهش ، وبربارة سرمحان ما تدرك هذا بقوة ووضوح ، وعلى نحو لا مجال للشك معا، فتخرج من حياة مارتن في مشهد المطعم العاصف .

الملاحظة الخامسة : من الحقائق البارزة بالنسبة لكل المهتمين بأدب فورد اهتمامه الكبير بكل التفاصيل والجزئيات الدقيقة المتعلقة بالمكان ، وهو اهتمام يصل الى حد الاستحواذ في "حياة وحشية " فكيف يتجل هذا البعد أمامنا؟
من شأن الاهتمام الحقيقي بهذا البعد أن يقودنا الى قراءة تكاد تمتد سطرا بسطر  لـ"العاشق ". ولست أريد هنا القيام بهذا النوع من :لقراءات ، لكنني أود طرح بعض الاشارات التي تقدم أمثلة مهمة ودالة حقا. فمنذ السطور الأولى للعسل سنعيش ذلك الانتزاع من المكان المألوف الى مكان آخر مجهول يتعين على العين أن تألفه ، وعلى العقل أن يستوعبه ، وعلى الوجدان أن يتعاطف معه . وتلك أمور يبدو من الصعب على مارتن أو ستن أن يتعامل معها ، لكنه قدر له أن يواجهها، فها هو يضرب في شوارع باريس ، محاولا الاستدلال على ذلك الشارع الذي سيشقه ليمني مباشرة الى حدائق اللوكمسبورج ، ومن ثم الى شقة جوزفين القريبة منها، وهو حين يعود الى باريس ، ويعثر لنفسه على شقة في شارع بونابرت سيواجه الصعوبة ذاتها، وسيتعذر عليه أن يحدد بدقة مدى بعدها أو قربها من ميادين رئيسية ومعالم بارزة في المدينة الكبيرة التي تحيره المفارقة بين النماذج الخشبية المصغرة لمعالمها وبين الواقع المتدفق بالحياة في خارج المتجر الذي يبيع تلك النماذج المصغرة .

ولكن ما هي علاقة مارتن بالأماكن التي اقتلع منها ولماذا جاء هذا الاقتلاع ؟ إننا سنتلقى الاجابة على هذا السؤال من خلال مكانين محددين جديرين حقا بدراسة مطولة ، أولهما الدار، وثانيهما المطعم الذي شهد الصدام بين مارتن وبربارة وخروجها الى رحاب الليل ، بعيدا عن حياتهما ، وربما الى رحاب الموت ، حسب الهاجس الذي يداهمه في نهاية الرواية .

إن الدار، بالنسبة لأ ي إنسان ، هي قلعته هي ملاذه ، هي قرقعته ، هي "عندي" بمهناها المطلق ، وفقا لتقسيم مول ورومير لأنواع الأماكن ، وذلك في تناقض حاد مع "عند الآخرين " الذي يندرج المطعم في إطاره .

وأول ما سيلفت نظرنا في هذه الدار أنها لن تحقق لنا تلك الحميمية التي هي الوظيفة الأولى للدار، فهي تبدو لنا وقد فقدت بعدها الانساني، وتحولت الى "المكان اللامتناهي" وغدت مكانا خاليا من الناس ، كالصحراء ،وفي الوقت نفسا يرتبط بالمغامرة ، وربما لهذا بالضبط سيبادر مارتن بسحب حقيبته والقاء بعض الأغراض بها والانطلاق الى المطار في طريقه الى باريس .

ولست أشك في أن شقة جوزفين وشقة مارتن في شارع بونابرت تستحق كل منهما دراسة مفصلة تندرج في هذا الاطار ، ومع ذلك فإن المكان الذي ينبغي أن يحظى باهتمام عقيقي لا يعدو ذلك الجزء من حدائق اللوكسمبورج الذي سيمني اليه مارتن وليو، وبصقة خاصة أجمة الطقوس .

واجمة الطقوس هذه مجموعة ملتفة من هذا النوع من الأ شجار، تعكس تباينا رهيبا ومنذرا بالمأساة بين مظهرها الخارجي وجوهرها الباطني ، فهي من الخارج خضرة ساحرة وظلال وفيرة وأمن يترع النفرس بالطمأنينة بل أن النص يشير الى أن فتنة هذا المكان تغري بقيلولة أو بممارسة للحب .
ولكن هذا المكان الذي لا يبعد كثيرا عن ملاعب التنس ، حيث أصوات ارتطام المضارب بالكرات وثرثرة النسوة المترعة بالضحكات سرعان ما ينكشف لدى اقتحام مغاليقه عن ظلام مطبق ومأساة وحشية وفضلات إنسانية ونفايات وجذور وجذوع أشجار وتراب ورطوبة خانقة ، وأخيرا صرخة الصغير ليو المفعمة بالرعب والاحتجاج .
وبعد فقد يبادر قاريء بطرح هذا السؤال : لقد قدمت تيار الواقعية القذرة من خلال رواية "حياة وحشية " لريتشارد فورد ثم عدت فألقيت المزيد من الضوء عليه من خلال رواية فورد "العاشق " وها أنت هنا تقدمه لنا نموذجا لابداع هذا التيار. الا ترى في ذلك اختلالا في التوازن على حساب مبدعين كبار في إطار هذا التيار مثل ريموند كاوفر؟
وأقول : بل ، ولكن من الذي قال إن المستقبل لا يحمل لنا وعدا بامكانية تقديم المجلد الذي يضم أعمال كارفي القصصية الكاملة في طبعة عربية مع رحلة ممتدة في عالمه الابداعي من خلال هذه الترجمة الشاملة ؟
 
 
كامل يوسف حسين   (كاتب ومترجم من مصر)
ـــــــــــــــــــــــ
المصدر: نزوي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق