ابراهيم العريس
تاريخ النشر: 9 أغسطس 2014
" لم يخترع جون دوس باسوس سوى فن واحد، هو
فن الحكاية. غير أن هذا الاختراع الوحيد يبدو لي كافياً من أجل خلق عالم. فالزمن
لدى دوس باسوس هو إبداعه الوحيد: إذ لا يتعلق الأمر هنا برواية أو بنصّ... طالما
أن كل ما لدينا هو زمن التاريخ، حيث إن كل شيء يُروى لنا هنا وكأن من يرويه شخص
يتذكر. وهذا الماضي موضوع التذكر لا قانون له ولا برء منه، خصوصاً أن دوس باسوس
تمترس، منذ السطور الأولى لكتابه، في عالم الموت، حيث إن كل ضروب الوجود التي
يتابع مسارها، إنما تبدو منغلقة على ذاتها: أغمضوا عيونكم هنا، حاولوا أن تتذكروا
حياتكم. إن هذا الاختناق الذي لا نجاة منه، والذي ستشعرون به هو ما أراد دوس باسوس
التعبير عنه: في المجتمع الرأسمالي، ليس للناس حياة... ليس لهم سوى مصير. دوس
باسوس لا يقول هذا في أي مكان من ثلاثيته، لكنه يجعلنا نشعره في كل لحظة...
وبإلحاح يجعلنا راغبين في تحطيم مصائرنا...".
كاتب هذا الكلام هو الكاتب والفيلسوف الفرنسي جان - بول
سارتر، أما العمل الأدبي الذي يتحدث عنه هنا، فهو ثلاثية «يو إس أي» (الولايات
المتحدة الأميركية) للكاتب جون دوس باسوس الذي يعتبر أحد أقطاب مدرسة شيكاغو
الأدبية، خلال النصف الأول من القرن العشرين على الأقل. وهذه «الثلاثية» لم يكتبها
دوس باسوس أصلاً على شكل عمل ثلاثي الأقسام متكامل، بل كتبها أجزاء متفرقة،
ليصدرها على شكل كتب متتابعة خلال النصف الأول من ثلاثينات القرن الفائت، أي في
وقت كانت الولايات المتحدة تعيش واحدة من أسوأ أزماتها الاقتصادية والاجتماعية...
وأيضاً في وقت كان دوس باسوس لا يزال محسوباً على الفكر اليساري. فالرجل عاد وتبدل
كثيراً خلال العقود التالية، مثلما حدث للقسم الأعظم من المبدعين الثوريين الذين
عانقوا الأفكار اليسارية حين كات مجرد نظريات وأحلام خيالية، لكنهم نبذوها حين
جابهوها على أرض الواقع. وبالنسبة إلى دوس باسوس كانت الحرب الإسبانية هي أرض
الواقع، لأنه إذ توجّه للمشاركة فيها في صفوف اليسار، ضد الفاشيين، صدمته الخيبات
المتلاحقة والفساد والانتهازية في صفوف ذلك اليسار، ليجد أن التيارين إنما هما
وجهان لعملة واحدة. وهو كتب انطلاقاً من تلك التجربة ثلاثية ثانية عنوانها
«مغامرات شاب» ستكون أولى خطواته نحو اليمين المتطرف، وصولاً إلى دعمه ترشيح
الفاشي باري غولدواتر في انتخابات الرئاسة الأميركية في الستينات. ولكن، حين أصدر
دوس باسوس أجزاء «يو إس أي»، وحين كتب عنه سارتر ذلك النص التحليلي، وصار مقلداً
له في تقنية عمله الإبداعي «وقف التنفيذ»، كان دوس باسوس لا يزال ثورياً ويسارياً
وناقداً اجتماعياً متحمساً... وتكاد ثلاثية «يو إس أي» تشي بهذا، بكل وضوح ومباشرة
فجة أحياناً.
تحمل أجزاء «يو إس أي» العناوين
الآتية: «خط العرض الثاني والأربعون» (1930) «1919» (1932) و «مال وفير» (1936)...
هذه «الروايات» الثلاث نشرت أول الأمر متفرقة، ثم جمعت في كتاب ضخم واحد في عام
1938، ولم يعد ثمة سبيل إلى تفريقها مذاك. وما يجمع بين أجزاء هذا النص الثلاثة هو
كونها تشكل «لوحة عريضة لأحوال المجتمع الأميركي خلال العقود الثلاثة الأولى من
القرن العشرين». ودوس باسوس لكي يعطي عمله أكبر مقدار ممكن من الفاعلية، لجأ إلى
تقنيات سرد وكولاج كانت جديدة في حينه. فهو جعل، أولاً، في كل جزء مجموعة من
النصوص المتفرقة والمتقاطعة التي يحمل كل منها اسم شخصية من شخصيات العمل. ثم أحاط
الأحداث بفقرات تحمل حيناً سيرة الشخصيات، وحيناً الإطار التاريخي الحقيقي لوجودها
معبّراً عنه بقصاصات صحف، وأخبار حقيقية، وكذلك بوجود شخصيات تاريخية معروفة،
وبنصوص أغنيات شعبية ورائجة، وبذكر أعمال فنية وأدبية. وبدا دوس باسوس هنا ماهراً
حين راح يلوح بين الحين والآخر بالتناقض - الذي اعتادت الفئات المتسلطة، حاكمة
كانت أو غير حاكمة، ممن يجمعها انتماؤها معاً إلى الرأسمالية، أن تغطيه - بين ما
يبث من أخبار وأقوال، وبين الواقع المزري الذي تعيش فيه الفئات الشعبية المحرومة
في بلد الوفرة والحلم و «تكافؤ الفرص» المزعومة.
صحيح أن أجزاء الثلاثية تزدحم بمئات
الشخصيات، غير أن التركيز في نهاية الأمر يجرى على نحو دزينة من أفراد يصورهم لنا
دوس باسوس، في حياتهم اليومية وأحلامهم وإحباطاتهم، كنماذج نمطية للمجتمع الأميركي
ككل: فمن العامل الفقير، إلى المعدم الذي حقق ثروة، ومن الجندي الفار من الخدمة
إلى نجمة هوليوود، ومن الصحافي الانتهازي إلى رجل الأعمال، إلى الميكانيكي، إلى
الطيار الذي تفتخر به الأمة... كلها نماذج مستعارة من الحياة الحقيقية، بل حتى من
أخبار الصحف. لكن دوس باسوس أعاد اختراع حيواتها، بحيث جعل منها في نهاية الأمر
أطراف الخيوط التي تقودنا إلى مئات الشخصيات الأخرى... التي تتشكل، في نمذجة مدهشة
علينا أن نعود إلى «كوميديا بلزاك الإنسانية» حتى نعثر على ما يضاهيها تعبيراً
وقوة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كل هذه الشخصيات، لا سيما الرئيسية منها، إنما
هي لدى دوس باسوس، ابنة بيئتها، ما يجعل تصرفاتها وحيواتها تتسم بتلك النموذجية
الحية. وما يجعل «الثلاثية» في نهاية الأمر، خريطة حقيقية لثلاثين سنة من التاريخ
الأميركي. أما قوة دوس باسوس الإبداعية، فإنها تتجلى في الطريقة الرائعة التي جعل
بها معظم تلك الشخصيات يعيش حياته ومغامراته من ناحية في معزل عما يحدث للشخصيات
الأخرى، ومن ناحية ثانية في تقاطع مع هذا الذي يحدث... فإذا أضفنا إلى هذا عشرات
الفقرات، في كل جزء، من ذكريات الطفولة، وعشرات السير المبثوثة هنا وهناك، والتي
تأتي، لا لكي تبرر التصرفات، بل فقط لكي تشرحها وتعطي كل شخصية أبعادها، نجدنا أمام
«تاريخ» حقيقي للكيفية التي أنبتت عليها أميركا في القرن العشرين، ولمعظم تلك
العوامل التي تفسر ردود فعل الأميركيين على ما يحدث في بلادهم، وفي علاقة بلادهم
بالعالم وبالعصر.
والحقيقة أن هذا ما جعل دارسين كثراً
للأدب الأميركي في القرن العشرين، يضعون «يو إس أي» في مكانة متقدمة جداً، بل إن
بعضهم (مارك سابورتا في كتابه «تاريخ الرواية الأميركية») يؤكد أنه إذا كان ثمة
توافق دائم على «أن الرواية، كاختراع بورجوازي، ولدت مع ولادة الرأسمالية... إذا
كانت تجلت دائماً في نوع من السبر الجواني للشخصيات - وهو سبر مألوف لدى الطبقات
التي تسمح لنفسها به - فإن الشكل الجديد الذي أتى به دوس باسوس في ثلاثيته هذه،
إنما يأتي ليصور العالم كما يحسه المناضل الميداني، حتى من دون أن يفهمه...».
وللتشديد على هذا، لا بأس من أن نذكر هنا بأن جون دوس باسوس، كان حين صاغ أجزاء
الثلاثية حليفاً للشيوعيين الأميركيين... ولكنه سرعان ما سيلوح مدركاً تماماً
مساوئ كل أيديولوجية حزبية... وهكذا، من دون أن ينكر عمله الكبير هذا، راح يعدل
مواقفه بالتدريج، بحيث أتت «يو إس أي»، فريدة في سياق عمله، بل تبقى إلى جانب
«مانهاتن ترانسفير» (1926) من أجمل ما كتب، بل من أقوى ما أنتجه الأدب الأميركي في
زمنه.
وجون دوس باسوس المولود في عام 1896
في شيكاغو، رحل عن عالمنا في الليلة نفسها التي رحل فيها الرئيس المصري السابق
جمال عبدالناصر، أواخر أيلول (سبتمبر) 1970، ما جعل اهتماماً عربياً خاصا يتنبه
إليه، بفضل تلك المصادفة، بعد رحيله، حتى وإن كان بعض أعماله ترجم من قبل. وقد
تجول دوس باسوس كثيراً في أوروبا خلال حياته، بل إنه خدم كمسعف في الجيش الفرنسي
خلال الحرب العالمية الأولى. أما انتماؤه إلى مدرسة شيكاغو فقد جعل اسمين كبيرين
من كتاب تلك المدينة يرتبطان به: ريتشارد رايت وصول بيلو. أما في الأدب العربي،
فإن مما يذكّر بأعمال دوس باسوس وتأثيراتها، «حديث الصباح والمساء» لنجيب محفوظ،
والكولاج الذي أسرف صنع الله إبراهيم في استخدامه في عدد من أعماله الأخيرة مثل
«شرف» و «ذات».
ـــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق