الأحد، 10 يوليو 2016

ميلر في حوار حول همنجواي..هتلر..الله.. وأنا!

ترجمة: مجدي عبد المجيد خاطر

تاريخ النشر: 16 سبنتمبر 2007

أجري الروائي الاسكتلندي أندرو أوهاجان لقاء مطولا مع الروائي الأمريكي نورمان ميلر نشرته الباريس ريفيو في عددها الأخير الذي صدر هذا الصيف، حول مسيرته الإبداعية منذ روايته الأولي العاري والميت التي صدرت عام 1946. نشرت التايمز البريطانية جزءا من اللقاء، هنا ترجمته: اعتقدتج في إحدي حالاتي المزاجية أن روايتك الأولي مرعبة، وفي حالة أخري، رجحت أنك لا تعرف كيف تكتب. لم أكن أسلوبيا في تلك الأيام، وكنت أعرف ما يكفي عن الكتابة الجيدة للقول بأن ثيودر دريسر ، وهو أحد الكجتاب الذين قرأت لهم، لا يملك الكثير من الأدوات الأسلوبية، حاشدا لذلك كل قوتي الأدبية. و كنت أعتقد أن الوحيد الذي أعتلي ناصية الأسلوب هو بروست : فقد التقي عنده وبشكل مثالي الأسلوب مع المضمون، ففي الغالب، إذا امتلكت أسلوبا عظيما فمادتك علي الأرجح مجعاقة، وهذا ينطبق علي هنري جيمس وهمنجواي.

هل تذكر أين كنت عندما سمعت بنبأ انتحار همنجواي ؟
كنت برفقة جين كامبل بالمكسيك قبل أن نتزوج .و ارتعبت جدا ساعتها، وحتي الآن لا يزال جزء ما مني لم يستطع التغلب علي هذا الخوف. كان ما يقوله، أصغوا أيها الروائيون، فبشكل واضح، حين تكون روائيا فأنت تدخل رحلة نفسية بغاية الخطورة، وربما تنفجر بوجهك.

ألم يشكك الانتحار في جرأة همنجواي ؟
لقد كرهت التفكير في موته بهذا الشكل. آثرت استبدال ذلك بإطروحة : لقد تعلم همنجواي مبكرا خلال حياته أنه كلما تجاسر علي الموت كان أفضل. لذا فقد طرأت ببالي فكرة أنه ليلة بعد ليلة وفيما كان همنجواي وحيدا، وبعد أن ألقي تحية المساء علي ماري، ذهب همنجواي إلي حجرة نومه ووضع إبهامه علي زناد البندقية واضعا الفوهة في فمه ثم عصر الزناد قليلا و _ رعشة و ارتعاد _ كان يجرب رؤية ما قد كان أوشك عليه دون أن ينفجر جسده. في ليلته الأخيرة ذهب لأبعد من ذلك. بالنسبة لي يبدو ذلك معقولا بدرجة أكبر من مجرد تفجير نفسه إلي أشلاء. علي كل حال، إنها محض نظرية.

تصدمني روايتك الأخيرة قلعة في الغابة ، في بحثها المضني في مسألة الدافع ، وما جعل هتلر تجسيدا للشيطان...؟.
كانت فكرتي للكتاب منذ البداية أن يقوم شيطان برواية الأحداث. ثمة نغمة عالية تردد أن البشر أصحاب معدلات الذكاء العالية يجدون من الصعوبة اليوم ما يمنعهم عن الإيمان بالله، ناهيك عن الشيطان. و شعوري هو أنه ليس من ثمة تفسير أفضل لهتلر من كونه ملهما من الشيطان كما كان المسيح ملهما من الله. لو أن الناس يؤمنون حقا بأن المسيح ابن الله، فإنني لا أري ما يمنع من الإيمان بأن هتلر من نسل الشيطان. ذلك هو أكثر التفسيرات بساطة.

في قلعة في الغابة أتساءل ما إذا كنت قد شوشت أفكار الرواية بافتراضك أن هتلر لم يكن ليكون شيئا آخر غير ما كان : لأن الشيطان كان حاضرا فيه؟
هتلر وحيد من نوعه : ليس من ثمة تفسير مناسب لحالته. كان ستالين وحشا يسيرا علي الفهم. يمكننا قراءة سيرة ستالين و دراسة الحركة البلشفية و ظروف روسيا علاوة علي العواقب القبيحة للثورة الروسية. بوسعنا بناء شخصية ستالين بشكل تدريجي و فهمه بشروط بشرية. ربما كان أكثر الكائنات البشرية التي عاشت شرا، لكنه كان بشرا. لست في حاجة لاستحضار الشيطان لتفسير ستالين. لكن هتلر مختلف. لم يكن هتلر رجلا قويا كما كان ستالين، بل ربما كان ضعيفا بالأحري. هو غير قابل للتوضيح، إلا إذا أتبعت الفكرة التي مفادها أنه كان خيار الشيطان لأسباب تسبر غورا عميقا في الطبيعة الألمانية.

تؤمن بالتناسخ. فعلي أي صورة ستكون حياتك التالية ؟
حسنا، أنا في انتظار ما سيأتي ؟ أنا في غرفة الانتظار. و أخيرا نودي علي اسمي، أذهب حيث يوجد ملاك للمراقبة يقول، سيد ميلر، نحن سعداء جدا بلقائك. الأنباء الطيبة هي أنك علي وشك عملية تناسخ. أقول، شكرا، فأنا لم أرغب أبدا في سلام أبدي. يقول الملاك، طيب، لكن فيما بيننا، فهو ليس حقا سلاما أبديا، بل علي الأحري محموم قليلا. دعني أري، قبل أن أنظر وأري ما أعددنا لك، دائما نسأل الشخص : ماذا ترغب في أن تكونه بحياتك القادمة ؟ وأقول، طيب، أظن أنني أريد أن أكون رياضيا أسود. لا أهتم بالمكان الذي تضعني فيه، سأنال فرصي، لكن نعم، هذا ما أريد أن أكونه، رياضيا أسود.
يقول الملاك : اسمع سيد ميلر ، لدينا طلب زائد علي هذا القسم، الجميع يرغبون بأن يصيروا رياضيين سود في حيواتهم التالية. دعني أري ما أعددناه لك. وهكذا يفتح الكتاب الكبير، ينظر ويقول، لقد حجزنا لك حياة صرصور. لكن ثمة أنباء طيبة : ستكون أسرع صرصور في البناية.

كيف يدبج الروائي المادٌة الواقعية. هل تستطيع وصف ما يحدث للحقائق كي تتحول إلي فن ؟
أريد أن أقول أن أي تاريخ يعتمد في بنائه كليا علي الحقائق، معرض للخطأ و ربما التضليل. وحده العقل البشري القادر علي افتراض ما كانت عليه الحقيقة. الآن، تلك الحقيقة مشكوك في كونها ما حدث حقا، لكنها الحقيقة التي يستطيع الناس التعايش معها في عقولهم الضيقة كإمكانية حدوث أمر ما. القصة ليست مجرد حكايات وأساطير، أو القول علي سبيل الحشو أن ذلك ليس حقيقيا. لا يزال بإمكان بعض الأمور أن تكون حقيقية و رواية في آن واحد. عندما تكتب قصة، أنت مجعرض لخسارة روايتك ذات صباح. يجمكنك أن تجخطط لبطلك مسارا من الأحداث الهامة تتوافق مع شخصيته حسب وجهة نظرك في تلك اللحظة، ومن ثم تتابع ذلك المسار، و تجد نفسك مضطرا للتعامل مع نتائج الأحداث. وبعد شهرين لاحقا، أو ستة أشهر، رعب الرعب، و ربما سنتين، تستيقظ وتقول : لقد اتخذت المسار الخطأ ذلك اليوم . هذا يحدث في كتابة الروايات، وهو كاف لإخافتك لدرجة الموت.

شعر فلوبير أن المرء ربما يقدر علي التوصل إلي أن نموذج إيما بوفاري قريب جدا من المؤلف. لأي درجة تتشابه معك الشخصيات الكبري في رواياتك، وهل من الممكن لك أن تقول، أدولف هتلر، Cest moi ( إنه أنا) ؟
كنت أعمل في قصة عن وارٌين بيتي، وذهبت لرؤية Bugsy التي لم تكن قد اكتشفت بعد، وكان العنف ظاهرا بشكل واضح. الآن قدرة وارين بيتي الجسدية واضحة، هو رياضي بدرجة ما، لكنك لا تفكر فيه علي أنه أحد أشكال العنف. و لذلك كانت صدمة رؤية كم هو رائع و مقنع هذا البورتريه عن العنف الذي قدمه. و قلت له، ألا تهتم و لو بدرجة صغيرة أن أصدقائك لن يكونوا مرتاحين من حولك الآن ؟. و أجاب، كلا، فأغلب أصدقائي ممثلين ويتفهمون ذلك. لست في حاجة حقا إلا لخمسة بالمئة من تركيبة الشخصية بداخلك حتي تكون قادرا علي التحكم بها. ثم ابتسم ابتسامة عريضة وتابع، بالطبع لو كانت خمس وسبعون بالمئة لكان أفضل. بالنسبة لهتلر، كان ججل ما أحتاجه هو الخمسة بالمئة.

هل كانت ثمة حالة من الخمس والسبعين بالمئة معك، أين شعرت بأنك تعرف حقا كما غير عادي عن موضوعك ؟. أفكر في بيكاسو ؟
لا، لم تحدث الخمس والسبعين بالمئة أبدا. دائما أقل من النصف. أعني، ثمة ناس غير عادية : لي هارفي أوزوالد، جاري جليمور، مارلين مونرو، وهتلر. ماذا يجمعهم ؟ إنهم بشكل جوهري بلا جذور _ ناس مروا بأزمة هوية.

محمد علي (كلاي )؟
أعتقد أنه قد توجب عليه إعادة صياغة هويته كل عدة سنوات.

لماذا؟
لم يشتبك علي مع خصمه فقط لكنه اشتبك أيضا مع الحلقة علاوة علي الجمهور. كان لديه حس ووعي مطلق. لذلك كانت حالته تتبدل دائما، وقد تبدلت بشكل درامي عدة مرات، كان شخصا مجختلفا بعض الشيء. لذا : فقد كانت لديه أزمة هوية. أو تبدلات بالهوية.

كالمسيح ؟
إذا فكرت أنك ابن الله، فسيكون لديك الكثير من أزمات الهوية.
غالبا ما وجِه الروائيون الأمريكيون و لو بشكل جزئي علي الأقل عبر صداقاتهم، فيتزجيرالد وهمنجواي، أو شيروٌد أندرسون وثيودور دريسر لم تتأثر صداقة فيتزجيرالد وهمنجواي بالكاد.

أنت و وليم ستيرون ؟
كنت قاسيا علي وليم ستيرون في نقطة واحدة. كان رجلا موهوبا جدا. يجب أن تفهم شيئا هاما. كان ثمة جونز وستيرون وأنا، وكنا جميعا في حالة تنافس شديد. الأمر الذي لم يجفهم بما فيه الكفاية حول الروائيين هي درجة التنافس الحامي الوطيس فيما بيننا. كنا نتنافس كما لو كنا نجوما رياضيين، وبشكل خاص من يتجاوز الحدود وينبغون. و لم نكن نقول ماذا بكم جميعا لتحسدوا بعضكم ؟ ألا يكفي أن تكونوا جميعا بتلك الموهبة ؟ لماذا لا يمكنكم الاستمتاع بأعمال رفاقكم فحسب ؟ لم تكن الأمور تسير بهذا الشكل. كنا تنافسيين. و لا يمكنك أن تقول للرياضيين علي أي شيء تتنافسون ؟. أليس من الرائع أن يكون بوسعك الإمساك بالكرة بسهولة والركض بها ؟ لماذا إذن تجضطر للتنافس مع رجال آخرين ؟. في نفس الوقت، كان لدينا الكثير من الاحترام الذي نكنه كل للآخر. أذكر أنني تسلمت نسخة من من هنا للخلود وقد كتب جونز في إهدائه إلي نورمان _ صديقي اللدود، ومنافسي العزيز . تلك هي طبيعة العلاقة بين الكجتاب.

كتبت مجموعة مقالات شهيرة بعنوان التقييمات : تعليقات سريعة وغالية عن الكتاب الأمريكيين. و أزعجت الكثيرين، لكن أية مجموعة من الكجتاب كانت كتابتك عنهم مفاجئة ؟
آبديك وروث. لأنني أنكرت موهبتهم، كما تذكر. لقد كنت مخطئا بشكل قوي .

هل فوجئت بالفترة الأخيرة في حياة ترومان كابوت ؟
كان شخصا غير عادي. استثنائيا. ليس استثنائيا في عمق ذكائه، لكن في جسارته. لقد كتبت مرة تعليقا يقول إنه واحد من أكثر رجال نيويورك جراءة. ليس لديك فكرة ماذا يعني التسكع بالطريقة التي كان يفعلها في شبابه. أذكر أنه كان يعيش في بروكلين وكان ثمة مصمم أساس _ أظنه أوليفر سميث _ لديه منزل يبعد مبنيين عن البناية التي أسكنها في ناطحات سحاب بروكلين. كان ترومان يسكن في قبو هناك. كان من النادر أن نمر بالشارع في زيارتنا لبعض. مرة، حين فعلنا وبدأنا المشي، وقلت هيا نشرب و دلفنا لأقرب حانة. و كانت حانة للعجائز الأيرلنديين. كانت علي بجعد مائة ياردة أو هكذا بدت، كانوا يمددون ساقا واحدة بالسكة، و كانوا مجموعة من العمال الأيرلنديين القساة وربما بعض الاسكتلنديين. كلهم هناك. دخلنا لنجد ترومان يرتدي معطفه الواقي من المطر الصغير المصنوع من الجبردين. لم يكن ذراعاه في أكمام المعطف، كان يصنع منها عقدة حول أكتافه مثل كاب. مشي ومشيت خلفه و بغتة أدركته، يا إلهي !. عدنا لمؤخرة المكان وجلسنا نتحدث لفترة، لم يزعجنا أحد، لكنك تعلم أنه أحد الأماكن التي لا تستطيع الارتياح فيها وقت كبير. تصورت أن شجارا سيحدث قبل خروجنا. كان ترومان يعيش في هذا الجو بكل دقيقة وكل يوم من حياته. كان مجصرا أن يكون نفسه. و كان مستعدا لمواجهة أي شيء. وكان هذا يؤثر في بدرجة عظيمة.

ما هو العدو الدائم ؟
الزهو. يمكنه تدميرك. أنظر لترومان الفقير. لقد صار موقفه، لو لم أعترف بذلك بيني وبين نفسي لحدث شيء جلل بالمجتمع. هذا الزهو من الأشياء التي نقترب منها و نسير حولها بحذر كبير. بوسعه تدمير جزء صالح منا. تعرف، يجب عليك حقا أن تكون قادرا علي الزفير، الزفير فحسب، والقول، لماذا لا نتركه فحسب للتاريخ ؟.

** منشور بجريدة “اخبار الادب” المصرية بتاريخ 16 سبتمبر 2007
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق