الاثنين، 11 يوليو 2016

رحيل بات كونروي أيقونة الادب والسينما في اميركا

عمار المأمون
تاريخ النشر: 7-3-2016
فارق الكاتب الأميركي بات كونروي الحياة منذ بضعة أيام، تاركا وراءه إرثا من الروايات والقصص والمقالات التي تحكي عن أسر العسكريين، وتعالج قسوة الحياة في ظل أسرة عسكرية، لتكون رواياته مرآة تعكس حياة أبناء الجنود، جاعلا تجربته في جامعة كارولاينا الجنوبية العسكرية أو “القلعة”، وعلاقته مع والده العقيد في البحرية دونالد كونروي، مصدرين هامين لحكاياته. 
تابو الجيش 

انتقاد المؤسسة العسكريّة يعتبر من التابوهات في أميركا، بسبب القدسية التي تحملها هذه المؤسسة، وخصوصا أثناء الحرب الباردة وحرب فيتنام، إلى جانب علاقة هذه المؤسسة مع مفهوم الوطنيّة وأميركا كـ”أمة عظيمة”، هذه التابوهات جعلت كونروي يتعرض للانتقاد الشديد في ما كتبه، فعلاقة كونروي الأدبية مع المؤسسة العسكرية تعود إلى فترة شبابه، إلى أول كتاب صدر له بعنوان “ذا بو-THE BOO” والذي اضطر لنشره على حسابه الخاص أول مرة، لكونه ما زال كاتبا شابا، كذلك روايته “سادة الانضباط” تستمد حبكتها من حياته حين كان مجندا في القلعة، لتظهر قصص وحوادث العنف الجسدي التي يتعرض لها المجندون، إضافة إلى الضغوط النفسية التي يعانون منها ليثبتوا قدرتهم، وانعكاس هذا العنف على علاقاتهم خارج القلعة، إلى جانب ذلك نرى الحبكة البوليسية، المرتبطة بالبحث عن المنظمة السرية في القلعة، والتي تحمل اسم “العشرة”، إذ تقوم هذه المنظمة بدفع المجندين إلى الانسحاب من القلعة قبل تخرجهم، بوصفهم غير صالحين للمشاركة في الحرب، لأن تخرجهم يعني سفرهم إلى فيتنام للالتحاق بالقوات الأميركية هناك، ولكونهم ليسوا بأكفاء، فقد يؤثر تدني كفاءتهم على نتيجة الحرب وصورة أميركا.

تجربة كونروي المرتبطة بالحياة العسكرية لا تقف عند المؤسسات العسكرية والحياة داخلها، بل تمتد إلى النسيج الاجتماعي للأسر العسكرية، فقبل “سادة الانضباط”، يحكي كونروي في روايته “سانتيني الكبير” (1976)، قصة الضابط كول، وعلاقته مع ابنه المليئة بالتوتر والقسوة، فالابن يحاول دائما أن يثبت نفسه أمام الأب الصارم، الذي يصب اللعنات بصورة دائمة عليه، معنّفا إياه جسديا ونفسيا.

كـونروي يبحث فـي السوسيولوجيا، وفي العلاقة بين الجيش كمؤسسة وأشخاص مع الأسرة بوصفها تشكيلا مدنيا، ليتلمس الانهيارات العاطفية والجسدية التي يمرّ بها من شهدوا الحروب، وكذلك تعاملهم الوحشي أحيانا مع الأسرة، أي الدائرة الأكثر حميمية وخصوصية، مبرزا مشكلات إدمان الكحول والمنافسة بين الأبناء ضمن العلاقات الأسرية.

البحث الشخصي/ الأدبي الذي يقوم به كونروي لم يتوقف برغم ما يتعرض له من ضغوطات، إذ أصدر عام 2013 كتابه “موت سانتيني” الذي يحكي سيرته الشخصية، وعلاقته بوالده ووالدته، والتي يعتبرها البعض تتمة لكتابه “سانتيني الكبير”، لكن الاختلاف أن هذا الأخير هو سيرة ذاتية، يحكي فيها كونروي تفاصيل حياته الشخصية ونشأته في الجنوب.

عام 1991 أطلقت الصحافية ماري إدوارد ويرتش، والتي كان كونروي من داعميها، كتابها “أطفال الجيش: إرث الطفولة داخل الحصن”، وهو عبارة عن دراسة لا تدّعي أنها علمية لعدد من الأسر العسكرية وطبيعة تكوينها، وقد ساهم كونروي ضمن الكتاب بمقال يحكي فيه عن تجربته الشخصية كشخص ولد وكبر ضمن أسرة عسكرية، ويصف فيه هذا الكتاب بأنه “يعزل أطفال الجيش في أميركا بوصفهم ثقافة فرعية، تحمل خصائصها المميزة، وعاداتها وأساليب اتصالها… لقد عرفتني ماري على أسرة سريّة لم أكن أعلم أني أمتلكها”.

العنف الأسري

علاقة كونروي مع المؤسسات التابعة للسلطة لا تقف عند المؤسسة العسكرية، فإثر تخرجه منها، تم تعيينه كمدرس للغة الإنكليزية في مدرسة بكارولاينا الجنوبية، لكنه ما لبث أن طرد من وظيفته، بسبب رفضه التأديب الجسدي للطلاب وعدم احترامه للإدارة، وقد استفاد من خبرته هذه كمدرس ليكتب “المياه واسعة” (the water is wide- 1972) حيث يحكي عن معاناة طلاب مدرسة في كارولاينا الجنوبية مع مدير المدرسة، وطبيعة هذه العلاقة القمعية من قبل المدير، والتي تدفع البعض من الطلاب إلى ارتكاب الجنح والجرائم، كردة فعل على القسوة التي يعيشونها في المدرسة.

يركز كونروي في اشتغاله على انتقاد القدسية التي تمتلكها المؤسسات، وامتداد سلطة هذه المؤسسة إلى خارج مساحاتها الجغرافية، لتدخل ضمن المجتمع وتكوينه، إلى جانب ممارساتها القمعية على أولئك الذين لا ينتمون إليها، وهذا ما يتمثل في أبناء الجنود، الذين عاشوا حروب آبائهم، وعانوا قسوتها وكأنهم خاضوها، فمظاهر العلاقات المتوترة والعنف المتبادل انتقلت من المؤسسة العسكرية وشخوصها، إلى داخل الأسرة وخارجها في العلاقة مع الآخر المدني، وهذا ما سبب له مشاكل جمّة مع أسرته، بوصفه يفضح أسرارهم العائلية، إلى جانب عرضهم بصورة سيئة، إذ نراه يجيب عن سؤال بريء في مقابلة أجريت معه عام 2012 عن محرضه لكتابة رواية، وهل هذا المحرض هو صورة أو شخصية، أو شيء آخر؟ لنراه يقحم أسرته فيجيب “سأجيب عن هذا السؤال بسؤال، فمثلا، كتبت سانتيني الكبير لأجيب عن سؤال، لم كان أبي يضرب أفراد أسرته؟ في المياه واسعة كان السؤال لم كانت أختي مجنونة؟ عادة يكون السؤال بهذه البساطة، وهذا ما يجعلني أبدأ بأن أسأل نفسي السؤال، ثم تتعقد الأمور، بعدها أقوم بترتيب الشخصيات حول السؤال”.

أيقونة أميركية

العديد من أعمال كونروي تمّ تحويله إلى أفلام سينمائية نالت حظوة لدى النقاد، وخصوصا فيلمي “سادة الانضباط” و”سانتيني الكبير”، وهذا ما رسخ كونروي كأيقونة أميركية للأدب المعاصر، أو كما يحب أن يقول عن نفسه “كاتب من الجنوب”، فكونروي الذي توفي نتيجة سرطان البنكرياس، تمّ تكريمه في قاعة المشاهير بكارولاينا الشمالية عام 2009، إلا أن هذا الانتماء إلى “الجنوب” يثير حفيظة النقاد بصورة دائمة، إلى درجة أنه يتجاهلهم، ولا يقرأ لهم بسبب قسوتهم عليه، بل حتى أن البعض لا يعتبره كاتبا؛ فهو يدوّن أجزاء من سيرة حياته، أي يكتب سيرة ذاتية، لا رواية أو عملا متخيلا.

لم اولد لأم ولكنني ولدت من حكاية اسطورية
(مقطع من رواية "موت سانتيني" لكونروي)


لطالما ظننت أني ولدت في حكاية أسطورية وليس ضمن أسرة، أبي انحدر مسرعا من السماء بطائرة مقاتلة سوداء، وكأن إله الحرب يسكن كل إنش من جسده، أما أمي فكأنها ربّة النور والتناغم، أو يونانية تختال بين العشب والأزهار البرية في أيام الصيف الحارة، أبي وأمي، بيغ بيك ودون كورني، دمجا لؤم الجنوب مع جرح أيرلندا.

بيغ تنتمي إلى عائلة من كنيسة أصولية، سكنت جبال ألباما وعرفت بترويض الثعابين، بينما دون يحمل حساسية عائلة من شيكاغو عاشت في الجنوب ضمـن القـواعد العسكـرية، إلا أن أساطير حياتنا لم تكن تحمـل خلفهـا حكـايـات لتجعلهـا قابلـة للتصديـق، لا أذكر عن أبي أي قصة رواها لنا عن نشأته في شيكاغو، في حين أن أمي، كانت ببساطة، تؤلف القصص عن نشأتها القاسية في أطلانطا. هناك، كانت أميرة الحفلات الراقية حيث كان يجتمع السكان للاحتفال في صالات الحفلات، النوادي الريفية، قبل الحرب العالمية الثانية.

هذا التصوّر الذي ترويه أمي هو محض خيال لا واقعي، إذ كانت ضائعة في لعبة المخيّلة قبل أن أكتشف أنا ككاتب هذه اللعبة الحذقة، أمي كانت دائما تؤلف حبكات تكون فيها ابنة جاه ومال، في حين أن الجنوب الذي أتت منه حقيقة، لم يكن جميلا، لكننا لم نعرف ذلك أبدا، لأن أمي كتبت أسطورتها بنفسها، تضيف إليها الخيال كلما استمرت في الحديث.

طفولتي كانت خالية من الحكايات، عدا أن من ربياني كانا ألهة نار أيرلنديّة وربة القمر الجورجية، زواجهما كان مزيجا من الرعب والعنف الهائل، كعاصفة تهب حاملة معها كل أنواع الألم والقهر.

والداي كانا مليئان بالحياة، بالنسبة لي، أبي كان يعدّني لمواجهة صلابة الطغاة، لمواجهة نيرون الموجود داخل كل إنسان، للنازي الذي يضغط بجزمته الجلديّة على حنجرة يهودي، للمذابح الجماعية التي قام بها رجال التاوتسي بحق قبيلة الهوتس في رواندا، لصرخة آية الله الخميني لجمع الحشود، جهزني لفهم حدود القسوة، إلى جانب دفعي إلى إدراك حقيقة لا حدود لها.

في الأسطورة التي أرويها الآن، أعلم أني ولدت لأكون الملاك الذي يسجل وقائع حب والديّ الخطير، أطفالهم الذين تعرضوا للأذى بسببهم تجاوزوا الآن منتصف العمر، إلا أن بقايا غضبهم ما زالت تعذب كل واحد منا، كنّا نتحدث عنها في كل مرة نجتمع فيها سوية، والدانا ألهبا طفولتنا شقاء، عذّبانا بسبب عيوبهما الشخصيّة، بوحشّية حبهما لبعضهما البعض.

هكذا توصف قصة الحب التي جمعت والديّ، وسأحاول أن أورّي هذه القصة متوخيا الصدق ما استطعت، لأني أرغب في أن أتخلص منها إلى الأبد، لأنها مازالت تطاردني منذ طفولتي كضبع كريه.

مقطع من رواية "موت سانتيني" لكونروي.
ـــــــــــــــــــــــــ
المصدر: صحيفة "العرب" ، 7-3-2016، العدد 10207.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق