الجمعة، 29 يوليو 2016

«قتل عصفور ساخر» لهاربر لي: ضمير المحامي ضد عنصرية أميركا

إبراهيم العريس

تاريخ النشر: 17 ديسمبر 2014

العلاقة بين مهنة المحاماة والآداب والفنون في الولايات المتحدة ليست على ما يرام. ففي السينما بخاصة كما في الرواية، نادراً ما يقدّم المبدعون الأميركيون صورة إيجابية للمحامي... مع العلم ان الصورة التي تغلب عليها السلبية والتي غالباً ما يُقدّم بها المحامي، أحياناً في شكل جدي وأحياناً في شكل ساخر، تلقى عادة رضا الرأي العام، كنوع من الثأر من مهنة يعرفون انهم يحتاجون الى اصحابها في العديد من شؤونهم، ويعرفون ايضاً أنها تكلفهم كثيراً، في كل شأن من هذه الشؤون. وهذا الواقع هو الذي يجعل مهنة المحاماة واحدة من أكثر المهن دراً للأرباح. غير ان هذا لم يمنع الرأي العام الأميركي من اعتبار آتيكوس فينش، واحداً من كبار ابطالهم في القرن العشرين، مع انه محام. لكن المشكلة تكمن في ان فينش هذا لم يكن له وجود في واقع الأمر على الإطلاق، بل هو من بنات أفكار الكاتبة هاربر لي في الرواية الوحيدة التي كتبتها طوال عمرها المديد، وهي الرواية التي تعتبر واحدة من أشهر النصوص الأدبية في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين، وتصنف دائماً بوصفها، وفق التعبير الأميركي، الرواية التي ينبغي ان يقرأها كل إنسان قبل ان يموت. الرواية عنوانها «قتل عصفور ساخر»، صدرت طبعتها الأولى العام 1960، وسرعان ما حوّلها روبرت ماليغان الى ذلك الفيلم الذي حمل العنوان نفسه، وفاز بجوائز أوسكار عدة، جاعلاً لآتيكوس فينش، منذ ذلك الحين، ملامح النجم السينمائي المحبوب غريغوري بيك الذي قام بالدور بنجاح مشهود فاعتبر واحداً من أقوى وأجمل الأدوار التي أداها في مساره السينمائي المرموق. بل يمكن ان نقول ايضاً ان هذا الفيلم والدور الذي لعبه بيك فيه هو الذي جعل هذا الأخير يعتبر دائماً الفنان المحبوب والأكثر شعبية في تاريخ السينما الأميركية. أما بالنسبة الى كاتبة الرواية هاربر لي، فإنها بعد ذلك المجد الكبير الذي عاشته بفضل روايتها، عجزت عن كتابة أية رواية أخرى، على رغم كل محاولاتها، فعاشت منزوية الى درجة ظن كثر معها انها ماتت، الى ان كرّمها الرئيس الأميركي جورج بوش خلال ولايته، فعادت الى الواجهة ولو إلى حين. غير ان الإنصاف يقتضي منا ان نشير الى ان هاربر لي، عادت قبل ذلك الى الحياة، لمناسبة تحقيق فيلمين متتالين عن فصول من حياة الكاتب ترومان كابوتي، إذ من المعروف ان هاربر كانت رفيقة طفولة هذا الأخير، ثم واكبت حياته لاحقاً، وكانت هي الكاتبة التي رافقته - كما يرينا الفيلمان - الى تلك البلدة الصغيرة في كنساس حيث كتب التحقيق الذي صار لاحقاً كتابه الأشهر «بدم بارد».

> مهما يكن من أمر هنا، لا بد من ان نذكر ايضاً ان ترومان كابوتي المراهق، يظهر كواحد من شخصيات الرواية، تحت اسم ديل، حيث ينضم الى الأخوين الصبيّة سكاوت والفتى جيم، في «مغامرتهما» المدهشة التي تشكل أساس «قتل عصفور ساخر». ذلك ان جزءاً اساسياً من احداث الرواية وشخصياتها، مستقى من سيرة هاربر لي نفسها، حيث وهي في بدايات مراهقتها، شهدت أحداثاً وتعاملت مع أوضاع، رفقة اخيها والصديق ديل، عادت حين كتبت الرواية، لتمزجها بأحداث وشخصيات أخرى، مستبدلة البلدة التي كانت تعيش فيها بالبلدة الوهمية التي أعطتها اسم مايكومب، في ولاية آلاباما. ولكن ما هي هذه الرواية وعم تتحدث؟ ببساطة تتحدث عن العنصرية، وعن وعي أطفال على الحياة، ثم بخاصة عن إنسان نزيه، غامر بكل شيء من اجل ان يحق الحق، فاستحق ان يكون بطلاً في بلدته، ثم بطلاً في طول أميركا وعرضها. وهذا البطل هو المحامي آتيكوس فينش، والد سكاوت وجيم، الأرمل الذي يعيش حياته اليومية الرتيبة - وفق ما تروي لنا سكاوت إذ انها هي راوية الحكاية - حتى اللحظة التي يتهم فيها شاب أسود من اهل البلدة باغتصاب فتاة بيضاء. في ذلك الحين، كان أسهل من أي شيء آخر في الولايات الجنوبية في اميركا، اتهام السود بكل الموبقات. انهم - أي السود - « المشبوهون المعتادون». ومن هنا كانت التهمة جاهزة والمحاكمة «طبيعية»، والحكم يكاد يكون صادراً سلفاً. لكن ولدي فينش، وقد انضم إليهما ديل الآتي للإقامة عندهما في إجازته، نظراً الى الأمر في شكل مختلف، لقد كانوا واثقين من ان الرجل واسمه توم روبنسون، لم يكن هو مغتصب الفتاة البيضاء ماييلا ايويل. ومن هنا تطوع آتيكوس فينش للدفاع عن روبنسون، وسط احتجاج اصدقائه، بل حض الناس البيض العاديين في البلدة، على ذلك التطوع. وانطلاقاً من هنا تدور الأحداث متنقلة بين قاعة المحكمة وحانات البلدة، ودارة آل فينش، وخصوصاً جوار ذلك البيت حيث يقطن شخص غريب غامض عزل نفسه، هو بو رادلي، الذي يكاد المراهقون الثلاثة يمضون جل وقتهم في محاولة إخراجه من منزله والتعرف إليه، فلا ينجحون إلا في جعله يتبادل الهدايا البسيطة والإشارات مع سكاوت. أما زمن احداث الرواية فهو زمن المحاكمة نفسها، حيث ان فينش يجابه خلال اشتغاله على قضية روبنسون، ليس بعداء ابناء جلدته البيض وحدهم، من الذين يهاجمونه في كل حين مطلقين عليه لقب «عاشق الزنوج»، بل كذلك بعداء كثر من السود فقدوا أية ثقة بالبيض وأي إيمان بالعدالة. غير ان هذا كله لا يردع آتيكوس من مواصلة دفاعه عن روبنسون. إن سكاوت هي التي تروي لنا هذا كله، كما تروي لنا كيف انها والفتيين الآخرين، راحوا يساعدون آتيكوس على الوصول الى الحقائق، على رغم انه منعهم من الدخول الى قاعة المحكمة. وبفضل هذه المساعدة، يتمكن آتيكوس من إثبات ان ماييلا وأباها، الذي كان - بطبيعة الحال - الأشد شراسة في إلصاق التهمة بالشاب الأسود، يكذبان. بل سيثبت آتيكوس ان ماييلا كانت هي - بسبب افتقارها الى الأصدقاء ولأن أحداً من شبان البلدة لم يكن يبالي بها - من حاول إغواء بول روبنسون مرات عدة من دون ان يستجيب الى إغوائها. ثم، في الوقت الذي يصل آتيكوس الى نهاية المطاف في تأكيده براءة روبنسون، تتجمع الظروف ضده وضد روبنسون، بحيث ان الحكم يصدر ضد هذا الأخير، فلا يكون أمامه إلا ان يحاول الهرب، لكنه يقتل فيما كان يقوم بالمحاولة. وهكذا يفقد جيم وآتيكوس إيمانهما بالعدالة.

> في الوقت نفسه كان بوب ايويل، والد ماييلا، إذ شعر انه أهين في المحكمة جراء مرافعة آتيكوس أمامها، يسعى الى الانتقام. انتقامه ينصب أول الأمر على أرملة روبنسون، لكنه حين لا يتمكن من ذلك، يسعى وراء سكاوت وجيم، ابني آتيكوس ومعه سكينه. وفي اللحظة التي يتمكن فيها من الوصول إليهما، يتدخل شخص مجهول - ستعرف سكاوت انه جارهم بو رادلي -، ويقتل بوب. وإذ يصل «الشريف»، يتجادل مع آتيكوس حول من قام بالجريمة، اذ ان الشريف يريد ان يبرهن ان سكاوت وجيم هما القاتلان... وفي النهاية يتوافق الإثنان ضمنيا على ان «بوب قتل نفسه لأنه، وهو الثمل، وقع فوق سكينه».

> على رغم ان كثراً رأوا في رسالة الفيلم نوعاً من الوسطية، وعلى رغم ان السود لم يرقهم ان يكون البطل ابيض. حققت رواية «قتل عصفور ساخر» من النجاح، قدراً هائلاً، واعتبرت اشبه برواية «كوخ العم توم» التي كانت صدرت في القرن الثامن عشر لتعيد الى السود حقهم المعنوي. وإلى اليوم لا تزال هذه الرواية تُقرأ على نطاق واسع، بل تدرّس حتى في المدارس الابتدائية والثانوية واعتبرت إرثاً قومياً. وكذلك حال الفيلم الذي أخذ عنها. اما هاربر لي، التي لم تكتب من بعدها سوى ثلاث أو أربع دراسات اجتماعية قصيرة، فإنها كانت حتى نهاية القرن العشرين لا تزال تعيش على أمجادها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الحياة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق