التاريخ 17:أكتوبر
2005
كيم ستانلي روبنسون
من الأسماء المهمة في كتابة رواية الخيال العلمي المعاصرة أو كما يصر على تسميتها
الرواية «العلمية البحتة» إحدى الأنواع الحديثة المتفرعة من رواية الخيال العلمي
تجمع روايات هذا المؤلف بشكل استثنائي بين الدقة والإثارة العلمية و الخيال الذي يتطلبه
العمل القصصي وهو ما يلاحظه القارئ لدى متابعة إنتاجه الروائي الغزير الذي صدر منه
مؤخراً رواية «خمسون درجة تحت الصفر» 416 صفحة، دار راندوم هاوس للنشر، نيويورك.
هذه الرواية هي
الثانية في سلسلة روايات «كوكب المريخ» 2004، وهي رواية تنبؤية تدور أحداثها في
قالب تراجيدي ساخر كما تتضمن إسقاطات كثيرة تلقي الضوء على حالة العجز السياسي
والتكنولوجي الأميركي في غمرة التفكير في الاستعمار، استعمار مكان آخر، يجتاح إحدى
المدن الأميركية فيضان مدمر يقف أمامه الكثيرون ومنهم شخصيات سياسية وبطل الرواية،
وهو عالم طبيعة، عاجزين عن التفكير في وسيلة لإنقاذ حياتهم أو الحفاظ على وجودهم.
إن رواية روبنسون لا
علاقة لها بالأحداث التي شهدتها مدينة نيوأورليانز مؤخراً على الرغم من تجسيدها
ملحمة واقعية، تعززها تداعياتها الاجتماعية الناجمة عن سوء التقديرات. يأتي ذلك في
إطار درامي، متعاط مع المستقبل إضافة إلى مناقشته بعض المشكلات الرئيسية المترتبة
على سوء استخدام السلطة والتكنولوجيا المعاصرة التي تؤرق المجتمع الإنساني في ظل
غياب الرؤية الكفيلة بالمساعدة على الحيلولة دون وقوع أخطاء وكوارث.
في الجزء الأول من،
المريخ، الذي يحمل عنوان «أربعون علامة للمطر» تدور أحداث الرواية حول ما يسميه
روبنسون استعمار هذا الكوكب والسعي إلى جعل ظروف الحياة على سطحه مطابقة لظروف
الحياة على سطح كوكب الأرض. وهنا يأتي دور التكنولوجيا المتقدمة أو الذكاء
الإنساني الذي «يمكن الوثوق به» ويندرج في إطاره استخدام تكنولوجيا الاحترار
المساعدة على خلق ظروف مناخية مشابهة.
التفاصيل التي يطلعنا
عليها روبنسون في الجزء الثاني من ثلاثيته، خمسون درجة تحت الصفر، تسير في اتجاه
معاكس حيث بدلاً من التفكير في إعادة تشكيل بيئة مختلفة لكي يتناسب ذلك مع متطلبات
الحياة البشرية الطبيعية يبحث روبنسون في إمكانية السيطرة على كوكب الأرض نفسه،
وهو ما يبدو متعذراً في ظل إمكانية حدوث أي مفاجأة خارجة عن قدرة التكنولوجيا كما
نرى في تفاصيل الرواية عندما تكتشف شخصياتها الرئيسية أنها أصبحت متورطة في الصراع
بين العلم والتكنولوجيا والنتائج المترتبة على هذا الصراع.
تلعب الحبكة
التاريخية دوراً مهماً في رواية روبنسون. كما يلعب تطور الشخصيات، وهو من الأشياء
التي لا تهتم بها في العادة رواية الخيال العلمي بالنظر إلى تركيزها على تفسير
الظواهر الطبيعية، دوراً آخر مهماً في روايته. حيث شخصياته التي تلقي الضوء على
البعد الإنساني للقصة. كما يلاحظ القارئ قدرته على استشراف ما يمكن أن تسفر عنه
التوقعات على المستوى البعيد. حيث ما يبني عليه توقعاته هو الفوضى السياسية، و
التكنولوجية، والبيئية.
فما ان يغادر العالم
فرانك فندروال مركز الأبحاث حتى تكون واشنطن دي سي قد غمرت بمياه المحيط بسبب
الطوفان الذي يجتاحها فجأة ليترك الأجزاء المهمة من المدينة غارقة تبقبق في الوحل
( مطار ريغان يغرق، مياه نهر بوتوماك العظيم، المعروف باسم نهر الأمة، تخرج عن السيطرة
للمرة الأولى، قوارب النجاة تقف في محاذاة ناطحات السحاب ) درجات الحرارة ترتفع
بسرعة جنونية.
وعلى الرغم من ذلك لا
يبدو فرانك قادراً على مواجهة الموقف ومثله يبدو زملاؤه العلماء والسياسيون
والوافدون إلى هذه المدينة التي يطلق عليها روبنسون تهكماً اسم عاصمة العالم.
ومثلما يجد بطل الرواية نفسه عاجزاً عن القيام بأي شيء لا يجد نفسه قادراً على
الحيلولة دون وقوع كارثة مثل التحول نحو العصر الجليدي.
غير أن فرانك بطل
روبنسون الذي يجد نفسه عاجزاً عن تأمين المكان الذي يؤوي إليه ربما لم يكن يتوقع
شيئاً آخر أكثر إحباطاً كذلك التغير المناخي الرهيب الذي يتلو موجة الانحباس
الحراري. فما ان يحدث ذلك حتى يؤدي إلى ذوبان جزء من الكتلة الجليدية المكونة
للجزء الغربي من قارة أنتاركتيكا وحتى تسد منبع بحيرة غولف ستريم الدافئة.
تأتي هذه الحبكة
الجيدة من خبرة روبنسون القصصية والعلمية الممزوجة بكم هائل من السخرية والكوميديا
والغموض الذي يكتنف مصير أبطاله وهم يقفون على مشارف نقلة تاريخية، عصر جليدي جديد
في حين يتحول ذكاؤهم التكنولوجي إلى خطر يهدد وجودهم الإنساني. هذه الصدمة تجعلهم
عاجزين عن مواجهة الواقع على الرغم من استعداداتهم المتطورة.
وفي هذه الرواية يقدم
لنا روبنسون أبطالاً عاجزين عن التحرك كما لو أنه يتعمد القول إنه على هؤلاء،
العلماء والساسة، وحتى الناس العاديين الذين يعيشون في هذا المكان أن يبحثوا في
سياساتهم وفي وسائلهم التكنولوجية وفي اختباراتهم وطموحاتهم العلمية لكي يدركوا أن
الاستهتار بقوانين الطبيعة وحياة البشر لن يكون في مصلحتهم. وربما كانت العبارة
الأمثل للتعبير عن هذا هو ما يوحي بقوله لهم... إنكم جبناء كما ان ذكاءكم يبدو
ناقصاً على الرغم من تألقكم في أعين الآخرين.
«أعتقد
أن أميركا تعاني من حالة رهيبة من عدم القدرة على الاعتراف. والأسوأ من هذا أننا
نتلهف إلى مشاهدة العالم يحترق من حولنا بدلاً من أن نفكر في ان نغير أسلوب حياتنا
لكي ندرأ عنه هذا الخطر، وبدلاً من الاعتراف بأننا مخطئون. وهنا يعبر المؤلف من
جانبه عن خيبة أمله في العملية الانتخابية «الديمقراطية» المتزامنة في الأساس مع
الكوارث والأزمات الطبيعية المتفاقمة التي تمر بها بلاده يوما بعد يوم. إن كل ما
يؤثر على الحياة على سطح الأرض يؤثر في النهاية فينا.
ينظر النقاد إلى
ثلاثية المريخ على أنها أفضل ما كتبه كيم روبنسون من روايات. وكما أسلفنا فهي
رواية علمية بحتة تبدأ أحداثها بوصول طليعة المستعمرين المؤلفة من العلماء و
المهندسين إلى كوكب المريخ قادمين من كوكب الأرض في سنة 2027 لتستمر الرواية 200
سنة أخرى يشهد خلالها الكوكب ازدهاراً وتعقيدات كثيرة على المستويين السياسي
والاجتماعي وهو ما تتضمنه قصص «كوكب المريخ الأحمر»، «كوكب المريخ الأخضر»، و«كوكب
المريخ الأزرق» الصادرة بين أعوام 1993، 1994 و 1996.
من روايات روبنسون
المهمة «سنوات الرز والملح» وهي ملحمة تدور تفاصيلها حول مرحلة تاريخية تشهد
انتشار وباء الطاعون تبدو شبيهة بالمرحلة التي شهدت أثناءها أوروبا الأحداث نفسها،
الأمر الذي يترتب عليه الانكماش السكاني ويليه التوسع في موجة النزوح الآسيوي إلى
القارة المنكوبة. تغطي أحداث الرواية عشرة أجيال من المهاجرين، مسلطة الضوء على
حياة عدد من الشخصيات أثناء مواجهتها إشكاليات معينة متصلة بالانتماء الطبقي،
والجنسي بين المرأة والرجل، والديني وغيرها من المشكلات التي يواجهها القادمون
الجدد.
تطوف هذه الرواية
بقارئها بين ثقافات وفلسفات مختلفة، إسلامية وصينية وهندوسية. هذا الشيء لا يحدث
استناداً إلى طول الرواية وسعة المساحة المتوفرة للقص وإنما بسبب تمازج عناصر
الخيال والواقع فيها، والتأملات الكثيرة في الطبيعة الإنسانية التي تطفو على السطح
بين الحين والآخر.رد فعل رسمي
لا أحد يحب واشنطن دي
سي . حتى أولئك الذين يعشقونها لا يحبونها. وحشية الطقس، تجعلها الأسوأ: مدينة
أميركية مزدحمة خانقة متوسطة الحجم، لا تؤثر في مظهرها سلسلة
المباني الفيدرالية البيضاء. أو على العكس من ذلك تجلب إليها السياسيين والسياح
وجماعات الضغط والدبلوماسيين واللاجئين وكل من يفد إليها لأغراض مشبوهة،
ثم يمضي وقته بعد ذلك
في إعاقة المرور في الشوارع و التصرفات التافهة والثرثرة التي لا تنتهي حول
مدينتهم التي لا وجود لها في الواقع تلك الواقعة على التلة متجاهلين المدينة
الحقيقية. إن النكهة الرديئة لهذا النفاق لا يمكن إزالتها حتى بأنواع الأطعمة
والمشروبات التي تمتلئ بها مطاعم المدينة الشديدة الأناقة .
وهكذا فقد كان من
الطبيعي أن تكون ردود الأفعال الرسمية تجاه الفيضان المدمر الذي اجتاح المدينة، وأنزل
الخراب فيها مخلفاً وراءه تلك المقمقة التي كانت تسمع في الوحل في شهر مايو المطير
الشديد الحرارة على هذه الشاكلة: ها ها ها. يقولون هذا لأن هنالك الكثيرين في
العالم من حولهم ممن يرون أن العدالة قد أخذت مجراها في النهاية. وأن عاصمة العالم
قد دمرت عن بكرة أبيها : من الذي لا يعشق هذا؟
وبلا شك فإن الأطراف
ذاتها كانت تردد العبارات المألوفة إياها . منطقة كوارث، أعمال إنقاذ، خطر انتشار
الأوبئة، إعادة ترميم، كرامة الأمة، الخ . وبالطبع، فإن كونها عاصمة للعالم، قد
حمل الرئيس على الصرامة في إصراره على أن مساندة جهود إعادة الإعمار، واجب وطني
ينبغي للجميع المشاركة فيه من أجل تجسيد رد فعل شجاع وقوي تجاه ما اسماه «هذا
العمل الإرهابي».
مقتطف من رواية
«خمسون درجة تحت الصفر»
الكتاب: خمسون درجة
تحت الصفر
الناشر: دار راندوم
هاوس نيويورك 2005
الصفحات: 416 صفحة من
القطع المتوسط
Fifty Degrees Below
Kim Stanley Robinson
Random House bantam- N.Y 2005
p.416
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: البيان الامارتية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق