أندريه كولْبا ترجمة: نوفل نَيوف
تاريخ النشر: 4-10-2013
الروائي الأميركي سالنجر كان دائم البحث عن طوق النجاة في كتابته التي كان أغلبها يوحي بقربها من تهويمات الخيال.
اعتبر
الروائي الأميركي جيروم ديفيد سالنجر اسطورة الادب في أميركا، ولم يتوقف هذا
الكاتب عن مفاجاة عشاق الرواية حيا، وها هو يفاجئهم حتى بعد رحيله سنة 2010 وهو في
الثانية والتسعين من عمره.
وقد
اشتهر في مطلع الخمسينات من القرن العشرين بروايته "الحارس في حقل
الشوفان" التي عرفها القارئ الروسي بترجمة رائعة أنجزتها ريتا رايت –
كوفاليوفا وتمكّنت من نشرها بأعجوبة في مجلة "نوفي مير" (العالم الجديد)
عام 1960.
وسرعان
ما انتقل سالينجر بعد نشر روايته هذه ليعيش عزلة مديدة غير بعيد عن بلدته كورنيش
في ولاية نيوهامبشر. ولم ينشر بعد ذلك إلا عدداً من القصص تدور أساساً حول عائلة
غلاس، ثم صمت تماماً. هنا ملف عنه يتضمن حوارا مع الناقد الروسي بوريس فاليكوف،
ومقالة من الكاتب المغربي رشيد اركيلة، بمناسبة إعلان دار نشر أميركية كبيرة عن
كشف أدبي كبير يتمثل في إصدار مجموعة أعمال أدبية غير منشورة تركها وراءه الروائي
الأميركي الراحل.
ظل
سالينجر ممتنعاً تقريباً عن إجراء مقابلات معه، وعن قبول عروض مغرية بنقل الرواية
إلى شاشة السينما، وحصل على حكم قضائي بمنع نشر رسائله التي وصلت إلى بعض دور
الأرشيف. غير أن المعجبين الكثيرين بسالينجر في مختلف مناطق العالم ظلوا يؤمنون
بأنه مستمر في الكتابة وإخفاء ما يكتب. وهم الآن ينتظرون بفارغ الصبر أن يظهر
منشوراً ما أخفاه. وهكذا تتكاثر الشائعات باطِّراد مذهل حول ما خلَّفه من إرث
إبداعي.
معلوم
أن سالينجر كان غارقاً بالبحث في الأديان. وللكشف عن هذا الجانب الديني من حياة
سالينجر، أجرى أندريه كولْبا هذا الحوار مع بوريس فاليكوف الأستاذ في مركز دراسة
الأديان بموسكو.
*
ما مدى حضور السيرة الذاتية في أعمال
جيروم ديفيد سالينجر؟ أليست رواية "الحارس في حقل الشوفان" إرهاصاً
بالحياة التي عاشها هو في المدرسة العسكرية؟ وهل يمكن القول بأن هولدِن يعبِّر عن
شخصية المؤلف ونظرته إلى العالم؟ أم أن سالينجر صوَّر مراهقاً نموذجياً كنايةً عن
كل ما يجسده المرء بطريقة غريبة من حَسَن ورديء في هذه السن؟
-
كان سالينجر ينتمي إلى ذلك النوع من
الكتاب الذين يستلهمون أبطالهم من أعماقهم السيكولوجية. أي أن أعمالهم ليست سيرة
ذاتية ترسم سَير الأحداث الخارجية في حياة الكاتب، بقدْر ما هي مرتبطة بحياتهم
الداخلية. وبهذا المعنى يكون سالينجر شبيهاً بكافكا. وعموماً، يخيَّل إليَّ
أحياناً أن طريقته في الكتابة قريبة بعض الشيء من تهويمات الخيال التي يستسلم لها
الأطفال الوحيدون الذين يخلقون عن طريقها ما يسمّى بـ "الأصدقاء المتخيَّلين".
وليس
مصادفة أن يسمّي إحدى قصصه بـ"المفغَّل". ثم إن هولدِن، وعائلة غلاس
كلها من "الأصدقاء المتخيلين" الذين تتفتّق عنهم مخيلة سالينجر
الإبداعية. إنهم، بهذا المعنى، هو بالذات. طبعاً، يربطه بهولدن بعض أشياء خارجية
أيضاً، كالعذاب الذي تحمّله في المدارس الخاصة، مثلاً.
|
*
ثمة من قال عن كولفيلد إنه يريد أن
يصبح كاهناً، ولكنه لا يعرف كيف. هل توافق على ذلك؟ أليست رواية "الحارس في
حقل الشوفان" دفاعاً عن النزعة الإنسانية من غير كنيسة؟
-
نعم، إن في الرواية نَفَساً وعظياً.
وهذا متضمَّن في العنوان. إنه يريد "إنقاذ الصغار"، أن يكون
"صياداً في حقل الشوفان". إلا أنني لا أميل إلى ربط ذلك بالمسيحية ربطاً
مباشراً.
والأرجح
أن سالينجر خلع عليه رغبته في أن يكون غورو (داعية)، إذ يشهد أصدقاء سالينجر بأنه
أساء استغلال هذه النقطة قليلاً في صباه. فقد كان يحمل معه دائماً كتباً عن
البوذية يوزِّعها يميناً وشمالاً. حتى إن البنات، ولم يكن سالينجر بالزاهد
إطلاقاً، شككن بأنه يريد بهذه الطريقة الغريبة أن ينال إعجابهنّ.
*
هل كان احتكاكه بالمسيحية مجرد استخدام
بوذيٍّ لصلاة يسوع؟ هل جرّب شخصياً أن يصلّي ليسوع؟ هل جرّب الاعتراف، أو
المناولة، كما عند الكاثوليك، مثلاً ؟
-
كان سالينجر ثمرة زواج مختلط، من أب
يهودي وأمٍّ إرلندية كاثوليكية. يجب القول إن هذا الاختلاط خطير جداً.
فالإرلنديون، وخاصة في تلك المرحلة العصيبة سياسياً، كانوا يكرهون اليهود كرهاً
شديداً.
وهكذا
كان سالينجر يحمل هذا النزاع في أعماقه، وإن لم يكن يهودياً (بحكم ديانة أمِّه).
ولعلَّ هذا التمزق بين انتمائين هو ما أبعده عن اليهودية والمسيحية سواء بسواء.
فوفقاً لمعلوماتي، لم يكن سالينجر يتردد على دُور العبادة اليهودية أو المسيحية،
وبدهي أنه لم يعرف المناولة. غير أنه تأثر كثيراً بصوفية الكاثوليكية، ما بات
واضحاً في إبداعه ("المرحلة الزرقاء عند دي دوميه سميث"، مثلاً).
*
في مذكراتها تكتب مارغريت، إبنة
سالينجر، كثيراً عن اهتمام والدها بالهندوسية والبوذية. غير أنها تعرض تقصياته
الروحية في صورة كريهة للغاية تكاد تجعل منه "ضحية لأتباع هذه المذاهب".
كيف تفسِّر ذلك؟
-
نعم، هذا بالضبط ما تفعله مارغريت
معتمدةً على طريقة المدافعين المحترفين ضد المذاهب في الولايات المتحدة الأميركية.
فقد وردت في مذكراتها أسماء رويرت ليفتون، ولويس ويست، ومارغريت سينغر وغيرهم من
أعلام هذه الحركة المشهورين.
وابنة
سالينجر تشاطرهم آراءهم بالكامل: فالفِرق الدينية تغسل أدمغة ضحاياها حتى يصبحوا
مطيعين لهم، فيحصلون من ورائهم على أموال ليست بالقليلة. ولكنّ المُضيّ في قراءة
المذكرات يرسِّخ الشك في أن ابنة سالينجر لا تشفق على والدها بقدْر ما تتهمه بأنه،
كالوعّاظ الذين يعبدهم، هو من غسل دماغها، أي لعب بالنسبة إليها دور (غورو)
المرجعي.
|
*
فما الذي حدد تقصيات سالينجر الروحية،
إذن؟
-
لم تكن هذه التقصيات في نظر إبنة
سالينجر إلا ضلالاً وفوضى حقيقية تتراكم فيها هوايات فوق هوايات، والمكان الذي
يحتله غورو نصّاب يسرع لاحتلاله نصّاب آخر. ولكن الحقيقة هي أن سالينجر جسّد
بسلوكه نمطاً دينياً مختلفاً تماماً. فهو لا يألو جهداً في السعي وراء معلمين جدد،
ويجمع المعتقدات كجامع مولع بجمعها. إنها محاولة لعمل شيء يخصه هو، بينما تمر
أفكار الأديان المختلفة عبر منظور العصر.
إن
العلم يدخل في توليفات مع الدين شديدة الغرابة تسفر عن أساطير عجيبة. كل ذلك يغدو
مألوفاً في ستينيات القرن العشرين، ويصبح أساساً لخلق عصر جديد New Age . وقد
كان سالينجر ممهِّداً لهذا التدين الذي يفسَّر ظهوره، للوهلة الأولى، ببساطة. ذلك
أن أميركا سوق هائلة للأديان، وثمة تنافس دائم بين هذه الأديان.
ففضلاً
عن المسيحية واليهودية، هناك البوذية والهندوسية، وعدد كبير من الأشياء الأخرى.
ويؤكد خبراء الأديان أن البحث اليوم عن تجربة دينية جديدة شبيه بالبحث عن سلعة
جديدة في سوبرماركت لا يكفّون عن إثقال رفوفه بمزيد من المنتجات الجديدة من وراء
البحار. ولكن هذا لا يعني أن المبشرين يظلون بلا عمل.
فالأميركيون
لا يسعون إلى اتّباع تعاليمهم بدقة، بل يبحثون عن معنى وجودهم. ولمّا كانوا
متشبّعين بالروح الفردية فإنهم يضعون وصفات من عندهم تتضمن شيئاً من اليوغا،
وقليلاً من الصوفية المسيحية.
*
الأطفال عند سالينجر يجسّدون الحكمة
السامية. "كونوا كالأطفال"، هل هذه الدعوة حِكرٌ على المسيحية؟ أم هي
موجودة في الأديان الأخرى أيضاً؟
-
قد نجد في الأديان الشرقية (الهندوسية،
البوذية) دفاعاً عن عفوية الأطفال عند الحديث عن فن التفكّر والتأمل. إن النظر إلى
العالم بنظرة طفل يساعد على التخلّص مما لا نهاية له من الانكباب على الذات، ويعمل
على طمأنة العقل وتحريره من أجل أهداف أخرى. غير أنه ليس هناك مثيل للدعوة
المسيحية التي تبدو بسيطة (بينما هي ذات معان متعددة جداً). لعل هناك شيئاً آخر.
فبفضل
الإيمان بالتقمص يجوز القول إن الكائن المتقمّص المستنير يستطيع الكشف عن قدراته
في وقت مبكِّر جداً، فإذا بنا فجأة أمام طفلٍ/ معجزة. والأرجح أن سالينجر في وصفه
هذا النوعَ من الأطفال/ المعجزة، أمثال غلاس، إنما يعتمد على هذا الموروث الذي
يظهر في قصته "تيدِّي".
*
هل يمكن التأكيد، كما يفعلون أحياناً،
على أن رواية "الحارس في حقل الشوفان" أنتجت جيلاً من المنبوذين
المعرِضين عن المجتمع يعبد الفوضى؟ من الشباب المعادي لثقافة الستينات؟ أم أن
سالينجر التقط خصوصية المزاج في منتصف القرن العشرين؟ أم أن ذلك استمرار لموروث
أعمق هو الدفاع عن البؤساء المنبوذين، الملعونين وتبرئتهم؟ فقد عرف الأدب الأميركي
فينّ هيكلبيري (عند مارك توين.- ن.ن.) الذي كان يهرب ويعيش على حزمة أخشاب عائمة
مع زنجي هارب ومع المنبوذين.
-
كلا، إنها لم تنتج أحداً، على ما أظن.
أوّلاً، أنا مؤمن بأن الأدب يستطيع أن يكون شديد التأثير على الفرد، وثانياً، إن
جيل المنبوذين هو جيل سالينجر. فقد ولد في عام 1919، وولد جاك كيرواك في عام 1922.
كل ما في الأمر أنه كان أسعد حظاً، فقد كان أسبق إلى الشهرة.
وكانا
ينهلان من مصادر واحدة. فلا عجب أن يكون كلاهما قد وقع تحت تأثير الأديان الشرقية،
لأن تلك كانت سمة العصر. حقاً، إن هناك فرقاً جديّاً واحداً، إذ تسنّى لسالينجر أن
يخوض الحرب، أمّا كيرواك فلا. ولعلّه لهذا السبب دخل عالم الأدب قبله، ذلك أن
الصدفة تعبّئ (وإن كان يحدث العكس أحياناً). أمّا كلامك عن مارك توين وعادته في
تصوير الأولاد المشاكسين فينطوي على ملاحظة دقيقة. إن الصلة موجودة.
|
*
هل يمكن أن نعُدّ النفور من المجتمع
مرضاً نفسياً، وهو نفور يتغنى به سالينجر ويُشعرِنه؟
-
أُفضِّل أن أتجنّب استخلاص مثل هذه
الأحكام. فالنفور من المجتمع أنواع مختلفة. وإلا فإننا لن نلبث أن نضمّ سيرافيم
ساروفسكي أيضاً إلى قائمة من يوصفون بهذا النفور. ثم إن ما يتغنى به سالينجر، ما
يضفي عليه شاعرية، ليس النفور من المجتمع، وإنما هو الابتعاد عن اليومي المبتذَل.
أن يكون المرء في هذا العالم وكأنه ليس منه، أن يكون غريباً عنه. وهذا بحد ذاته
ليس سيئاً إطلاقاً.
*
لماذا كانت رواية "الحارس في حقل
الشوفان" الكتاب المفضّل عند جون شابمِن الذي قتل لينون (من فرقة البيتلز. –
ن.ن)، وعند جون هينكِل الذي أطلق النار على رونالد ريغان أيضاً؟
-
هذا السؤال يؤرِّقني أنا أيضاً. ولكنْ
تعال ننظر إلى هذه المسألة بتروٍّ. أوّلاً، لا حاجة بنا إلى التعميم. فباستثناء
هذين الإثنين لم أسمع عن أي قتلة آخرين بين عشاق سالينجر.
ثانياً،
"الحارس في حقل الشوفان" جزء من منهاج مدارس المرحلة المتوسطة في
الولايات المتحدة الأميركية. والأرجح أن المراهق الأميركي، حتى ولو لم يكن ممن
يقرؤون كثيراً، يقرأ هذه الرواية ويجد فيها شيئاً يناسبه، أقلّه هذه الغربة عن
عالم الكبار، فهذا إحساس عام.
ولكنْ
عندما لا يزول هذا الإحساس مع مرور الزمن يغدو في الإمكان عدُّه نزعة طفولية. وإذا
ما غدت هذه النزعة الطفولية عدوانية فإنها تصبح خطيرة اجتماعياً. وقاتل لينون، في
حدود معلوماتي، كان يَعُدُّ نفسه نسخة من هولدِن، حتى إنه بعد أن وصل إلى نيويورك
كرر بعضاً من أفعاله.
*
هل خدم سالينجر في الخطوط الأمامية؟
ألم يُصَب في الحرب بأية مشكلة نفسية؟ فكثيرون من الكتّاب الذين خاضوا الحرب لم
يعودوا قادرين على الكتابة عن أي شيء آخر. أمّا هو فقد ظل صامتاً بخصوص الحرب.
-
كان سالينجر برتبة رقيب في شعبة مكافحة
التجسس، أفادته معرفة اللغات. وأسوأ ما تعرّض له هو أنه كان بين أوائل من دخلوا
معسكرات الاعتقال الألمانية ورأى المجازر بأم عينه (ما نراه نحن في السينما
الوثائقية).
وقد
اعترف لابنته فيما بعد بأن رائحة الأجساد البشرية المحروقة تلاحقه مدى الحياة.
إذن، فإن هذا الجرح كان موجوداً عنده، طبعاً. وكما يليق بالأميركيين المولعين
بالسيكولوجيا، كان سالينجر أيضاً يتردد على طبيب نفساني من أجل العلاج. غير أن ما
ساعده ليس الطب النفسي، بل البوذية.
*
أنت شخصياً، هل منحتك كتبه شيئاً ؟
-
كنت، مثل كثيرين من المراهقين
السوفييت، أستغرق بقراءة سالينجر (بترجمات ريتا رايت- كوفاليوف) فألعن ما في عالم
الكبار من زيف. وكان هذا الزيف أشد تضخّماً في صحافتنا الشيوعية. ثم قرأته باللغة
الإنكليزية فقدّرت قيمة هذا النثر (إذ حتّى الترجمة الرائعة لا تمنح هذه اللذة)،
ولمّا صرت مؤرخ أديان رحت أقرأه قراءة محترِف يبحث عن هذه المؤثّرات الدينية أو
تلك. غير أن أكبر لذّة تلقيتها جاءتني من قراءتي المبكِّرة النزيهة عن الغرض.
*
إلامَ كان يرمي سالِنجر من صمته ؟ أم
كان ذلك مجرد احتجاج منه على طريقة قراءة الكتب ومناقشتها، وعلى ما تصير إليه
الشخصية المعروفة في المجتمع ؟
|
-
إن لي فرضيتي في هذا الخصوص أن سالينجر
لم يكن يرى في تقصياته الروحية بديلاً من الكتابة، على طريقة كافكا، مثلاً. فمعروف
أن كافكا اهتم بالأنتروبوصوفيا، بل وكان له لقاءات مع الدكتور شتاينر. إلا أن
كافكا تخلَّى عن الأنتروبوصوفيا لكي لا تلهيه عن الإبداع. أمّا سالينجر فبالعكس.
لقد كانت الكتابة بالنسبة إليه ديناً، أي وسيلة للبحث الروحي. ولعله كان يعتقد بأن
القيام بمهمته الدينية على أحسن وجه يتطلّب منه ألا يلتفت إلى العوامل الخارجية من
نقّاد، وقرّاء، وشهرة.
كان
يتطلّب منه أن يعيش على الطريقة البوذية، أن يعمل دون أن يُلقي بالاً إلى ثمار
عمله. ولذلك كان يكتب ولا ينشر. إلا أنه لم يتخلَّ عن دوره التعليمي، وكأنه يقول:
بعد موتي اقرؤوا واستخدموا هذه الثمار، فأنا لم أزرعها عبثاً.
ولكنّ
هذه الثمار قد تكون عديمة الطعم لأنها لم ترَ شعاع اهتمام القرّاء. فإذا ما صحّ
ذلك كان مدعاة للأسف. أمّا الآن، وقد مات سالينجر، فإن إرثه الإبداعي قد يُنشَر،
وإن كنا لا نعرف بعد لمن أوكل هذه المهمة، وماذا كتب في وصيته. لعلّ هناك مفاجآت
قادمة.
*
عاش سالينجر حياته كما شاء. ولكن حياته
ترغمنا على التفكير في أشياء كثيرة. مثلاً، هل يمكن أن نختار كاتباً يكون لنا
معلّماً روحياً ؟ هل في مقدور الأدب أن يعطينا إجابات عن الأسئلة الرهيبة، أم هو
يكتفي بطرحها؟
-
يستطيع كل كاتب أن يتلبَّس صفة معلِّم،
فمن يمنعه؟ أمّا أن نقبله بهذه الصفة أو نرفضه فذلك شأننا نحن. أعتقد أن الأدب لا
يعلِّم بقدْر ما يشاركنا تجربة ما. وهو بهذا المعنى يوسِّع عالمنا الخاص. إنه
وسيلة تواصل، ولكنْ على مستوى لا يحققه لنا التواصل العادي.
إذا
كان الكاتب موهوباً فإنه يكشف هذه التجربة ويجعلها فعّالة، أي أنه يقوم بجزء من
العمل نيابة عنّا، لأننا غالباً ما نكون محرومين من هذا القدْر من المشاعر والقدرة
على التلقّي. فلنقل إن سالينجر أهدانا تجربة من مرحلة المراهقة في شكل شديد
التكثيف يحتفظ براهنيته حتى اليوم، فنقرؤه جيلاً بعد جيل.
*
هل بقي بين معاصرينا قامة مساوية ولو
تقريبياً لسالينجر من حيث الموهبة، والتأثير، والاهتمام بالمسائل الروحية ؟
-
لن ينقرض الكتاب الموهوبون أبداً. وأنا
لا أؤمن بموت الأدب. غير أن كتاب اليوم لا يضعون نُصْب أعينهم مسائل كان يطرحها
هو. ولكنني لا أستطيع أن أذكر اسم كاتب واحد ينظر إلى كتابته بالطريقة التي ينظر
بها سالينجر. هذا زمن آخر.
إن
أكثر الكتّاب موهبة اليوم ما يزالون، كما كانوا من قبل، يذهلوننا ببراعتهم
وخيالهم، كسلمان رشدي، مثلاً. ولكنْ إذا كان سالينجر قد شاركنا "أصدقاءه
المتخيَّلين"، فإن الآخرين يشاركوننا، على الأرجح، "أعداءهم
المتخيَّلين". لقد كان سالينجر يمنحنا الأمل، أمّا هؤلاء فيجعلوننا
متيقِّظين. إنني لا أقول إن هذا سيئ، ولكنني أقول إنه شيء آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشرت بصحيفة "العرب"، 4-10-2013 ، العدد 9340.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق