أمبروز بيرس(1842-1914 ) قاص وكاتب مقال ومتخصص في اللغة الإنجليزية، يمتاز أسلوبه
بالتهكمية علي طبيعة البشر. لهذا باتت شهرته "الساخر بيرس"
وعرفت عنه الجرأة الشديدة والتطاول أحيانا، لهذا لقبته الصحافة بـ
"سليط اللسان". وكان أمبروز شديد الحماس للشباب وتشجيع الكتاب
الصغار، ومنهم الشعراء جورج سترلينج، وجيمس كامبل ادوين،
وماديسون كاوين، وكتاب القصة القصيرة مارك توين، وسايروس تاونسند برادي،
وإيملي تشنبوك، وإديث مود ايتون.
لبيرس أسلوب مميز يجمع بين السخرية واستخدام الصور المظلمة والضبابية والغموض
الزمني، والاقتصاد في الوصف، والتكثيف، ورسم صورة دقيقة لمشاهد
واقعية من الحروب، وما تحدثه من تأثير سييء في النفس البشرية،وإيذاء إنساني بشكل
عام.
نشأ بيرس بمدن صغيرة بين ولايتي أوهايو وأنديانا، وهما من الولايات الأمريكية
الفقيرة في عصره، كما كان الابن العاشر بين ثلاثة عشر طفلا، وهو ما أثر في بناء
شخصية المبدع عنده. تطوع بيرس في قوات الجيش المتحد بأنديانا خلال الحرب الأهلية
الأمريكية، وقلد برتبة تعادل الملازم أول عام 1862، حيث خدم في وحدات القائد
وليم هازان كمهندس تخطيط ومصمم قطع وراسم خرائط لوحدات القتال. وشارك في المعارك
نهاية 1862. وعاش تجارب إنسانية عديدة خلالها، وفي ذلك أيضا واحدة من أهم
الدعامات التي ساهمت في بناء شخصيته.
تعرض بيرس لإصابة شديدة في رأسه عام 1864، وظل يعالج منها لعدة
أشهر. بعدها وفي بداية العام التالي تم تسريحه من الخدمة وتقليده برتبة عالية تعادل
رتبة الرائد تكريما له. وفي الوقت الذي تخيل أن علاقته بالمعركة وميادينها
انتهت، تلقي عرضا لا يرفض بالعمل صحفيا ومراسلا لمجلة سان فرانسيسكو من قلب
الحدث ومن وسط ميادين الحرب.
لم يكتف بهذه المجلة فحسب بل عمل مع غيرها مثل الأرجونت،
البرق الشهرية والعقرب، واكتسب شهرة واسعة خلال تلك الفترة، وتشبعت نفسه بمعاناة
الحرب حتي الثمالة. ثم شعر بأنه في حاجة إلي الابتعاد عن بؤرة الأحداث والبحث عن
رؤية جديدة من زاوية مغايرة، ومكان آخر بطبيعة مختلفة، فرحل إلي انجلترا، وقبل
دعوة أحد أصدقائه الذي نقل بعضا من صيته إلي لندن، فكتب لعدة مجلات، وهناك اكتشف
فيه اللندنيون سخرية أسلوبه وحنكته في ذلك، ما ساعده علي التعاون مع مجلات مثل
" لندن مورال "، "فيجارو "، "تايم
"، "فن".
ورغم ما حققه من نجاح، إلا أن حنينه إلي بلاده جعله يعود إليها
مسرعا وخاصة سان فرانسيسكو عام 1875، واستمر في عمله
بالصحافة، وفي 1887، وضع لمسة جديدة من لمساته بكتابة عمود بعنوان
"ثرثرة " ليصبح أول عمود في تاريخ الصحافة، ومن خلاله بدأ بيرس مرحلة
أخري، وزادت سخريته، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة دون نقد، وأطلق
عليه خلال هذه الفترة لقب "سليط اللسان".
بدأ بيرس كتابة القصة القصيرة من عام 1871، وساهمت رحلته إلي إنجلترا في
تبلور قدراته في هذا الجانب، واستغل الخلفية التي اكتسبها مما مر به خلال
فترة نشأته ثم خدمته في الجيش، وكانت أولي قصصه بعنوان " الوادي
المسكون " ثم "بهجة الشيطان " عام 1872، وتوالت أعماله بعد
ذلك ومن أبرزها " أنسجة من جمجمة فارغة» " عيون
النمر" " الرجل والثعبان" " أجساد ميتة "
" خلف الحائط "، "الغريب "وهي قصص بدت غريبة
علي القراء، ومن أهم مجموعاته "قاموس الشيطان " والتي عبر فيها عن
سخطه وسخريته من التخبط الأخلاقي الذي يعاني منه المجتمع بكافة طبقاته،
خاصة الطبقات العليا والتي تشغل المناصب المرموقة فيه.
رحل بيرس إلي المكسيك في مطلع 1913، لاكتساب قدر أكبر
من المعرفة المباشرة وأن يعيش التجربة في خضم الثورة هناك، وبينما كان
يتتبع عن كثب فلول القوات المتمردة، كانت تلك المرة الأخيرة التي رآه فيها
شهود العيان، واختفي بعدها تماما.
مؤخرا، وبعد سنوات من التغني بعظمة بو وتوين، وهما يستحقان مكانتهما لا شك في
ذلك، أكد اتحاد كتاب ومبدعي الولايات المتحدة أن قصص بيرس القصيرة هي
الأفضل علي الإطلاق خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأنه الرائد الحقيقي
للقصة القصيرة، حتي وإن سبق بذلك وضع مسمي محدد لهذا الشكل الأدبي، وهو ما
أكدته أغلفة تلك المجموعات القصصية، التي لم يرد فيها من قريب أو بعيد ذكر كلمة قصيرة، جاءت كل مجموعة معنونة باسم
أحدي القصص ويلحق به عبارة "وقصص أخري".
تمتاز كتابة بيرس في استخدامه للغة الإنجليزية البحتة
أو كما يحبذ أن يسميها البعض "اللغة الإنجليزية النقية" وهو أمر غير
معتاد في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه مزج بين أسلوبه الصحفي
الساخر وبين العناصر القصصية التي لم تكن حددت قواعدها وأسسها بعد. لكن لا
يمكن أن نقتصر ما أنجزه بيرس في قصصه القصيرة المستوحاة من الحرب الأهلية رغم
أهميتها، ولكنها جزء من نسيج كبير، فما كتبه أكثر عمقا، وكان لكل
كلمة في مكانها وموقعها معني ودلالة.
ومن المثير أن بيرس كان صديقا للكاتب الشهير مارك توين والذي
رغم صغر سنه كان منافسا قويا لبيرس، وعلي الرغم من ذلك، لم ينل بيرس
شهرته ومكانته، وبالمثل إدجار آلن بو، واللذان أخذا عنه هذه النوعية
من الشكل القصصي، ويبدو أن تواري ريادته يعود إلي شخصية بيرس اللاذعة
وتطاوله الذي جعله غير محبوب حتي يعطيه معاصروه حقه، بخلاف توين وبو صاحبي
الشخصية المحببة لأصدقائهما المقربين ولجموع الجماهير.
يعد الإرث القصصي الذي تركه بيرس، نموذجا مثاليا لأسس وقواعد وعناصر القصة
القصيرة، سبق بها كل من كتبوا أو دنوا من شكلها ونمطها، وهذا يعني
أنهم استقوها من قصصه، ثم قصص تلاميذه الذين نقلوها عنه، حيث تميزت قصصه بعدد من
العناصر الهامة بخلاف البداية والعقدة والنهاية ، وأهمها التكثيف وقصر الزمن
القصصي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : "أخبار الأدب" المصرية، 04-07-2015
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق