رشيد أركيلة
تاريخ النشر: 26-10-2014
تاريخ النشر: 26-10-2014
الكاتب فريدريك بيغبيدير يُمتّع القارئ بقصة حب 'ينشأ من ملامسة لا إرادية، من انزلاق لا يمكن التحكم به' بأسلوب عذب سلس.
في
محاولة أدبية لتفسير أسباب اختفاء الكاتب ج. د. سالينجر، وابتعاده عن الأضواء،
يطلق الكاتب فريدريك بيغبيدير (Frédéric Beigbeder) العنان
لخياله الروائي في رواية فرنسية مستوحاة من قصة حب مستحيل عاشها الكاتب الأميركي
الراحل مع “أونا”، ابنة الكاتب المسرحي الأميركي المشهور “أوجين أونيل”. وقد نشرت
الرواية مؤخرا في منشورات “غراسي” بباريس.
“يمر
الرجال في أحوال يبدون معها كمن ينتظر كارثة تحل مشاكلهم. وعادة ما تسمى فترات
كهذه بـ”ما قبل الحروب”. حينها يكون أسوأ اختيار هو الوقوع في الحب.
في
1940 التقى في نيويورك كاتب مبتدئ يدعى جيري “سالينجر”، 21 سنة، بـ”أونا أونيل”،
15 عاما، ابنة كاتب مسرحي أميركي كبير. لكن علاقتهما العاطفية لن تبدأ حقا حتى
الصيف التالي، بضعة أشهر قبل حادثة “بيرل هاربور”. مطلع 1942، سيُدعى سالينجر
للقتال في أوروبا وتذهب أونا لتجرب حظها في هوليوود. لن يتزوجا أبدا ولن ينجبا
أطفالا”.
في
مقال بجريدة “لوبسيرفاتور” تحت عنوان “حب من سالينجر” كتب الناقد “برنار جينياس” (Bernard
Géniès) في مستهل تعليقه على الرواية: “إن
بيغبيدير طريف ومسل. عندما يكتب، لا يمكنه التوقف عن الحديث. إنه، لحسن الحظ، كاتب
خبير وذكي. فهو يعلم أشياء كثيرة وقد يحوّل قصة طريفة إلى إنتاج كبير”.
أونا
أونيل، 15 عاما، ابنة الكاتب الحائز على نوبل، أوجين أونيل، تعيش في نيويورك،
وهناك سيقيض لها أن تلتقي بكاتب مبتدئ، جيري سالينجر،21 سنة. اشتباك ودي ثم غرامي،
تدور أحداثه عام 1940. أونا لا تفكر إلا في الاحتفال مع صديقاتها الثريات. يحتسين
الشراب، يرقصن، وعندما يشعرن بالملل، يتسلين «بالمشي ذهابا و إيابا بالشارع
الخامس، وتقليد لهجة الأنف لماي ويست”.
في
المساء، يلتقي الجميع في ناد بالشارع 53، يدعى ستورك. “ترومان كابوت”، 16 عاما،
يسجل ملاحظات عن كل شيء، وينقل الأحاديث المتداولة الأكثر إثارة. جيري، أكثر عزلة،
غالبا ما “ينزوي في ركنه بوجهه الجامد، في الصمت والظلام كلقلق كبير ملوث بالنفط”.
عندما دخلت الولايات المتحدة في الحرب الثانية، تم تجنيد جيري. بين عامي 1942
و1945، كان في الخط الأول، على شواطئ الإنزال، بشوارع باريس في أغسطس 1944 (حيث
سيلتقي همنغواي)، ثم في الـ”آردين”، وأخيرا ببوابات “داشو” حيث سيكون من بين أوائل
من دخلوها. خلال هذه الرحلة إلى أقصى الرعب، سيتبادل بضع رسائل مع أونا. بالنسبة
إليها، كل شيء على ما يرام. مستقرة في لوس أنجلوس، ستتعرف على تشارلي شابلن ثم
تتزوجه.
"ما ينتشل الرواية هو أن قصة الحب الكبير بين أونا وجيري لم تَحدُث قط. الحب أعمى في بعض الأحيان"
شابلن
الجبان
لطالما
أخبرها سالينجر أن مخرج فيلم “الدكتاتور” جبان يختبئ، إنه لم يرتد الزيّ العسكري
يوما. لكن أونا ستختار طريق السعادة. سنة 1951، سينشر سالينجر “ماسِك القلوب”. لكن
هذا الرجل لم يعد نفس الشخص الذي كانت تعرفه أونا. لقد حطمته الحرب. في ذروة
شهرته، سينعزل عن العالم، ليعيش مثل ناسك بري حتى وفاته في 2010.
يضيف
“برنار جينياس”: “لا يسخر بيغبيدير من القارئ. لائحة المراجع التي يدرجها في نهاية
الكتاب تبرز أنه تفحص عدة وثائق وأحاط جيدا بالموضوع. سيتيح له كل ذلك أن يخلط
القشدة الطرية لخيال يمزج مشاهد وحوارات مبتكرة. أحيانا، يظهر فجأة على المسرح
ليُقسم أنه تعب من لعب دور الشاب المُزوَّر وإنه لشيء رائع أن يتزوج امرأة شابة. أسلوبه
حركة مد وجزر بين سرد أحداث القصة والتحدث إلى القارئ (“يفترض في كاتب محترف أن
يصف هنا منظر البحر والأجواء التي تحيط بهما، الريح، السحب وحدائق العشب المكسوة
بالندى، لكني لا أفعل ذلك لسببين. أولا لأن أونا وسالينجر لا يأبهان بهذه المناظر؛
ثانيا لأنه ليس بإمكاننا رؤية أي شيء، فالنهار لم يطلع بعد”). جُمَل بين قوسين لا
تبتعد أبدا عن موضوعات رواية مسكونة بالأدب (همنغواي، فيتزجيرالد)، بالحب
(الإغواء، والخوف من فقدان الآخر)، باليأس (الحرب)”.
راو
شغوف
إنه
يحكي عن الآخرين، يحكي بيغبيدير عن نفسه. إنها ممارسة محفوفة بالمخاطر. لكن مصير
الشخصيات، التي كان بإمكان كل شيء أن يجمعها ويفرقها كل شيء، في النهاية، ما ينتشل
الرواية هو أن قصة الحب الكبير بين أونا وجيري لم تَحدُث قط. الحب أعمى في بعض
الأحيان.
حول
شخصية المؤلف بيغبيدير، ومن بين ردود الفعل الغزيرة التي رافقت صدور رواية “أونا
وسالينجر”، كتبت قارئة تحت الاسم المستعار “تيتريسيا 12” على موقع “بيبليوبس”: “إن
لبيغبيدير شخصية تثير الجدل، يشهد بذلك اختلاف آراء زملائي النقاد بشأنه. شخصيا،
أكنّ له الإعجاب لأنه مثقف لامع وكثير النشاط (محرر أدبي في صحيفة لوفيغارو، رئيس
تحرير المجلة الشهرية “لوي”، منشط برامج بالتلفزيون، مبتكر جائزة فلورا، روائي …)
لكن لديه ذلك الجانب المثير للأعصاب، المتأنق، المركز جدا على نفسه”. تضيف في
تعليقها على الرواية: “كامرأة، أجد أونا أونيل جذابة وتوحي بالدسائس، لكني لم أكن
أعرف عنها سوى أنها زوجة شابلن وأم أطفاله الثمانية. باختصار، فالموضوع مثير
للاهتمام ولم يُخيب أملي. نشعر بأن بيغبيدير لديه شغف حقيقي بموضوعه”.
اللعبة
الصغيرة
بالفعل،
فالرواية مُوَثقة بشكل جيد، الأسلوب عذب سلس وللمؤلف موهبة حقيقية في إعادة إحياء
شخصياته (الرسائل الوهمية بين سالينجر وأونا، اللقاء بين همنغواي وسالينجر، وقائع
تتسم بالكثير من المصداقية، محنة الحرب التي مر بها سالينجر تم وصفها بشكل مدهش
ومنقطع النظير). بل وحتى أن هناك مشهدا لا يبدو قط من وحي الخيال: يصف بيغبيدير
انهياره، حين كان في الخامسة عشرة من عمره، على طاولة أونا وهي في سن 55، وترومان
كابوت في ملهى بـ”فيربير” (منتجع عائلي صغير جدا للرياضات الشتوية بسويسرا.
والغريب أن الشاب فريدريك لم يكن في طريقه لقضاء إجازة). كانت له محادثة قصيرة
معها على اللقطات الهزلية التي أداها شابلن في “أضواء المدينة” وأيضا في “حمّى
البحث عن الذهب”.
أخيرا،
يعرف القارئ العديد من الأشياء، وهو يتمتع بالأسلوب وحتى بانفلات المؤلف وشروده،
مثلا حين يصدر تعاريفه واعترافاته الخاصة “ينشأ الحب من ملامسة لا إرادية، من
انزلاق لا يمكن التحكم به. تماما كحين نتكلم مع شخص ما على الهاتف: يكون الشخص
حاضرا وما هو بحاضر. الحب هو أن تتظاهر بأنك لا تعيره اهتماما، في حين أنك توليه
بالغ الاهتمام. هو أن تبحث عن نفسك دون أن تجدها. هذه اللعبة الصغيرة، إذا تمت
ممارستها بشكل جيد، يمكن أن تشغل حياة بأكملها…”، أو حين يبتكر حوارات طريفة “يكفي
أن تقول لي كلمة واحدة وسأرحل/ ما هي هذه الكلمة؟/ مع السلامة/ تلك كلمتان، ابق”.
الكاتب
وسالينجر
الشيء
الوحيد الذي قد لا يستسيغه البعض هو شخصية بيغبيدير الحاضرة بقوة في الرواية، حيث
ارتأى بعض النقاد أنه قد يغدو من الأفضل الاستغناء عنها، خصوصا ذلك الشعور الذي
ينتاب القارئ بأن المؤلف كتب روايته ليقيم نوعا من الموازاة بينه وبين سالينجر
“كان سالينجر، مثلي، يحب كثيرا الفتيات في ريعان الشباب اللائي يَصْغرنه بكثير”
(أوه، إذن هو كذلك؟) لينتهي في آخر الكتاب بلقائه مع “لارا ميتشيللي”، زوجته
الأخيرة التي تصغره بـ25 سنة.
مع
كل ذلك، فقد أفصح المحرر الأدبي “جيروم دوبوي” (Jérôme Dupuis) بمقال
نشر بجريدة “ليكسبريس” بأنه ليس باستطاعة أحد ما أن يقول إن فريدريك بيغبيدير ليست
لديه استمرارية وتسلسل في الأفكار. ففي 2007، من أجل شريط وثائقي للتلفزيون، سافر
إلى “كورنيش”، “نيو هامبشاير”، بنيّة ولوج المزرعة التي انعزل فيها سالينجر الذي
كان يرفض أي اتصال مع وسائل الإعلام لعقود، لكنه تراجع (بحكمة) في آخر لحظة على
بعد بضعة أمتار من المنزل، مؤثرا السلامة على التهور. بعدها بأربع سنوات في “أول
كشف بعد الحرب” (لدار النشر غراسي) عند نشره لتصنيف لأحسن 100 كاتب من كتاب الأدب
العالمي، رتب “ماسك القلوب” في المرتبة السابعة. وها هو اليوم ينشر حكاية طويلة
للغراميات (المحبطة) لنفس الكاتب مع أونا أونيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: صحيفة "العرب" 26-10-2014، العدد 9719
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق