الجمعة، 8 يوليو 2016

نهاية العالم «4» ميراث زوج العمة رحلة إلى أنتاركتيكا

جوناثان فرانزن – ترجمة: أحمد شافعي





مواعيد الوجبات على متن أوريون تجعلني في القلب من عقل مصحة «الجبل السحري»: الجري ثلاث مرات كل يوم إلى غرفة الطعام، تلك العزلة التنسكية عن العالم، والوجوه التي لا تتغير حول الموائد. وبدلا من فراو شتوهر التي يغيب عنها اسم إيروتيكا لبيتهوفن، هناك نصير دونالد ترامب وزوجته. هناك الزوجان السكيران المرحان. هناك جراحة العظام الهولندية، وزوجها الثاني جراح العظام، وابنتها جراحة العظام، وصديق ابنتها جراح العظام. وهناك الاثنان اللذان كانا يتسربان إلى مقدمة الصف كلما حان وقت ركوب قوارب الزودياك. وهناك الرجل الذي جلب معه ـ بتصريح خاص ـ معدات لاسلكي الهواة فقضى وقته طوال الرحلة في مكتبة السفينة محاولا الاتصال مع غيره من الهواة. وهناك الأستراليون الذين في أغلب الأوقات كانوا يجتنبون بقية الركاب.
في ثنايا أحاديث الموائد، كنت أسأل الناس عما جعلهم يذهبون إلى أنتاركتيكا. فعلمت أن كثيرين منهم مجرد متفانين في حب ليندبلاد. ومنهم من سمع أثناء وجودهم في رحلة أخرى لليندبلاد أن رحلة ليندبلاد إلى أنتاركتيكا هي أفضل رحلات ليندبلاد. وهناك ثنائي من طبيب وممرضة، بوب وجيجي، أحببتهما كثيرا، وقد جاءا احتفالا بالذكرى الخامسة والعشرين لزواجهما التي تحل بعد عام. ورجل آخر، هو كيميائي متقاعد، قال لي إنه اختار أنتاركتيكا لأنه استنفد ببساطة كل المزارات الأخرى في قائمة المقاصد المنتظرة التي أعدها. كنت سعيدا لأن أحدا لم يذكر الرغبة في رؤية أنتاركتيكا قبل أن تذوب. والمفاجأة أنه ـ على مدار الرحلة كلها تقريبا ـ لم ينطق أي من العاملين أو الركاب عبارة «التغير المناخي» على حد سمعي.
طبعا، كنت أهرب من كثير من المحاضرات التي تقام على متن السفينة. ولكي أثبت أنني مراقب طيور عتيد، كنت بحاجة إلى البقاء عاليا في المرصد. فمراقب الطيور العتيد هو الذي يقف طول الليل في الريح القارسة والرذاذ المالح محملقا في الضباب أو الإضاءة المبهرة على أمل أن تقع عيناه على شيء غير معتاد. وحتى حينما ينبئك حدسك بأنه ما من شيء في الأفق، لا يبقى من سبيل للتأكد إلا أن تنفق الساعات الطوال وأنت تفحص كل ذرة من حياة الطيور في الأفق، وكل طائر بريون أنتاركتيكي (وقد يكون البريون الصغير) يندفع وسط أمواج يتطابق لونها مع لونها، وكل نورس هائم (قد يكون نورسا ملكيا) يقرر ما إذا كان أثر السفينة جديرا بالاتباع، ومراقبة البحر تبعث في بعض الأحيان على الدوار، وغالبا ما تتسبب في البرود المجمدة، وبصورة شبه دائمة تكون مملة كأنها العقوبة. وبعدما تراكمت لي ثلاثون ساعة من المراقبة، وتعرفت على طائر بحري ذي شأن ـ هو رمح الماء الكرجيوليني Kerguelen petrel ـ تراجعت وكرَّست نفسي لنشاط أكثر اجتماعية هو لعب البريدج.
اللاعبون الآخرون هم ديانا ونانس وداك، وكلهم من سياتل، وكلهم أعضاء في نادي قراءة تبيَّن أن العديد من ركاب السفينة ينتمون إليه أيضا. وبجانب كريس وآدا أصبحوا جميعا أصدقائي. في واحدة من أولى الجولات التي لعبناها، رميت ورقة غبية، فإذا بديانا ـ وهي محامية مرعبة في قضايا الإفلاس، تسخر مني قائلة «تلك رمية شنيعة». فأحببت هذا منها. أحببت اللغة الناتئة على المائدة. وحينما كانت شريكتي في اللعب، نانسي، التي تمتلك وكالة شحن، تحرز أول فوز في الرحلة، واقترحت عليها سبلا أخرى للتقدم في اللعبة، صاحت بي «دعني ألعب ورقي ». وقالت لي إنها قالتها بمحبة. واللاعبة الثالثة، جاك، وهي الأخرى محامية، قالت لي إنها كتبت مسرحية عن عشاء عيد الشكر الذي حضرته لدى ديانا، وفي ثناياه توفي زوج ديانا العليل في سرير الغرفة العائلية. وكان لدى جاك الوشم الوحيد الذي رأيته لدى أيٍّ من ركاب السفينة.
وكما في «الجبل السحري»، كانت الأيام الأولى من الرحلة طويلة ومحفورة في الذاكرة، بينما كانت الأيام الأخيرة غائمة متسارعة المرور. فما كدت أحظى بلقاء الغالي مع عصافير جنوب جورجيا المعروفة بـ البيبيت (وهي طيور رائعة)، حتى فقدت اهتمامي بزيارة محطات التحويت المهجورة. حتى صوت داوج، في خامس أيامنا في جنوب جورجيا، بدا فيه الضجر وهو يقول «لذلك أعتقد أننا سنقوم بجولة أخرى في الزوارق». بدا أشبه بفلاديمير وإستروجان حينما يقرران في نهاية «جودو» (لصمويل بيكيت)، وبعد أن يستنفدا كل وسيلة أخرى لتشتيت نفسيهما ـ أن يلعبا الشجرة.
قرب نهاية اليوم الأخير في الرحلة، الذي قضيته كله تقريبا جالسا إلى مائدة البريدج، بينما تحوم حول السفينة بالخارج المئات من الطيور البحرية التي يحتمل أن تكون مثيرة للاهتمام، ذهبت إلى القاعة من أجل محاضرة عن التغير المناخي. كان المحاضر هو الأسترالي صاحب الطائرة الإلكترونية، واسمه آدم، وحضرها أقل من نصف عدد الركاب. تساءلت عما جعل ليندبلاد تؤخر مثل هذه المحاضرة المهمة إلى اليوم الأخير. التفسير الخيِّر هو أن ليندبلاد ـ التي تتباهى بما تتسم به من وعي بيئي ـ أرادت أن ترجعنا إلى بيوتنا ونحن متقدون حماسا لعمل المزيد حماية للروعة الطبيعية التي رأيناها.
ولكن افتتاحية المحاضرة التي ألقاها آدم اقترحت تفسيرات أخرى. قال «إن بطاقات تعليقات الركاب ليست المكان الذي يمكن أن نعلن فيه رأينا في التغير المناخي». وضحك بغير ارتياح وقال «لا تطلقوا النار على الرسول». ومضى فسأل كم واحدا منا يعتقد أن مناخ الأرض يتغير؟ فرفع كل من في القاعة أيديهم، وكم منا يعتقد أن النشاط البشري هو السبب فيه؟ ومن جديد ارتفعت أيدي أغلب الحاضرين، باستثناء نصيري دونالد ترامب، وباستثناء هاوي اللاسلكي. ومن آخر القاعة علا صوت كريس الهرم الحاد: «وماذا عن الناس الذين يعتقدون أنها ليست مسألة اعتقاد؟»
فقال آدم «سؤال ممتاز».
كانت محاضرته عبارة عن تكرار كريه لـ «حقيقة كريهة» متضمنة الرسم البياني الشهير لـ «عصا الهوكي» الذي يبين ارتفاع درجات الحرارة والخريطة الشهيرة لأمريكا وقد فقدت فلوريدا نتيجة لارتفاع مستوى البحر. ولكن الصورة التي رسمها آدم كانت أشد إعتاما حتى من الصورة التي رسمها آل جور، لأن درجة سخونة الكوكب تزداد على نحو لم يتوقعه حتى أكثر الناس تشاؤما قبل عشر سنين. أشار آدم إلى بداية سباق إديتارود الخالية من الجليد، والشتاء الحار المفاجئ الذي شهدته ألاسكا، وإمكانية خلو القطب الشمالي من الجليد بحلول صيف 2020. وأشار إلى أنه في حين كان يقال قبل عشر سنوات إن ثمانين في المائة من كتل أنتاركتيكا الثلجية تتقلص، فإن ما يتقلص منها الآن هو في ما يبدو مائة في المائة. ولكن أبشع ما في محاضرته هو قوله إن علماء المناخ، لكونهم علماء، لا بد أن يحصروا أنفسهم في حدود القول بأن لدينا درجة عالية من الاحتمالات الإحصائية. فهم حينما يضعون نماذج للسيناريوهات المناخية المستقبلية ويتنبأون بارتفاع درجات الحرارة العالمية، يكونون مرغمين على اختيار درجة الحرارة الدنيا التي يمكن الوصول إليها في أكثر من تسعين في المائة من جميع الحالات، بدلا من درجة الحرارة التي يتم الوصول إليها في السيناريو المتوسط. وهكذا، فإن العالمة التي تتنبأ مطمئنة بارتفاع في درجة الحرارة بنحو خمسة درجات (مئوية) بحول نهاية القرن قد تقول لك شخصيا، وأنتما تشربان معا، إنها تتوقع زيادة تصل إلى تسع درجات.
عندما فكرت بالفهرنهايت ـ فرأيت أمامي ست عشرة درجة ـ حزنت أشد الحزن على البطاريق. ثم حدث، مثلما يحدث في نقاشات التغير المناخي، عندما ينتقل الكلام من التشخيص إلى العلاج، أن تحولت العتمة إلى حلكة دامسة، وكوميديا سوداء. جالسين في قاعة سفينة تحرق ثلاثة جالونات ونصف من الوقود كل دقيقة، مضينا نستمع إلى آدم وهو يمجد منافع التسوق من أسواق المزارعين وتغيير مصابيحنا المتوهجة واستعمال مصابيح «إل إي دي». كما قال أيضا إن تعليم النساء في العالم سوف يقلل من معدل الإنجاب العالمي، وإن تخليص العالم من الحرب سوف يوفر من المال ما يكفي لتغيير الاقتصاد العالمي ونقله إلى الطاقة المتجددة. ثم سمح بالأسئلة والتعليقات. لم يكن المتشككون في التغير المناخي مهتمين بالجدال، ولكن أحد المؤمنين قام وقال إنه يدير الكثير من الأملاك العقارية السكنية، وقال إنه لاحظ أن سكانه المدعومين فيدراليا دائما ما يجعلون بيوتهم دافئة أكثر ما ينبغي في الشتاء وباردة أكثر مما ينبغي في الصيف، لأنهم لا يدفعون فواتيرهم بأنفسهم، وقال إن من سبل محاربة التغير المناخي أن يدفع هؤلاء الناس فواتيرهم. وردًّا على هذا قالت امرأة «أعتقد أن مفرطي الثراء يهدرون أكثر من قاطني المساكن المدعومة». وتوقف النقاش بعد هذا مباشرة، فقد كانت لدينا جميعا حقائب لا بد من حزمها.
في السادسة صباحا، امتلأت القاعة من جديد، واحتشدت هذه المرة بالركاب، من أجل ذروة الرحلة: عرض الصور الذي شارك فيه كل راكب بأفضل ثلاث صور أو أربع التقطها. اعتذر مشرف التصوير مسبقا لكل من لا تعجبه الأغنيات التي اختارها لمصاحبة الصور. من المؤكد أن الموسيقى لم تكن ذات نفع ـ فهي أغنيات «Here Comes the Sun» و«Build Me Up Buttercup». لكن العرض كله كان محبطا. فقد وجدت فيه حس التهوين الذي طالما أستشعره في ثقافتنا القائمة على الصورة: فمهما تكن براعة اقتطاعك الحياة في سلسلة من الصور الفوتوغرافية، ومهما تكن دقة توقيت عرض الصور، فإن ما تنتهي الصور كل مرة إلى نقله لي على أقوى نحو ممكن هو ما تغفله. كما كان واضحا ومؤسفا أن ثلاثة أسابيع من إرشادات ناشيونال جيوغرافيك لم تثمر طزاجة ناشيونال جيوغرافيك البصرية. وكان التأثير التراكمي تفاؤليا بصورة مؤلمة. كان غرض العرض المصور أن يقبض على إحساس المغامرة التي قمنا بها كفريق، مثل فريق شاكلتن ورجاله. ولكن الأمر خلا من شهور شتاء أنتاركتيكا الطويل، ومن الاشتراك في تناول لحم الفقمة. كانت العلاقة الرأسية بين ليندبلاد وزبائنها تصر بشدة على التشجيع على إقامة الروابط الأفقية. فجاء عرض الصور كأنه إعلان عن ليندبلاد ولكنه إعلان هواة. وجاء سياقه التفاؤلي ليفسد حتى الصور التي كان ينبغي أن تكون مهمة أهمية كل صور الهواة: لتسجيلها وجوه من نحبهم. عندما عرض عليّ أخي سرا صورة التقطها لكريس وآدا وهما جالسان في قارب زودياك (وكريس عاجز عن المحافظة على وجه غاضب، بينما آدا مبتسمة ابتسامة صريحة)، رأيت في الصورة سعادتي بالعثور على هذين الشخصين في السفينة. كانت الصورة ضاجة بالمعنى، بالنسبة لي. مجرد نشرها على موقع ليندبلاد الإلكتروني كفيل بانهيار معناها إلى صورة للدعاية.
فماذا كان مغزى الذهاب إلى أنتاركتيكا؟ في ما يخصني، تبيّن أن المغزى كان يتثمل في معايشة البطاريق، والامتلاء بالمناظر، وتكوين صداقات جديدة، وإضافة واحد وثلاثين نوعا من الطيور إلى قائمتي، والاحتفاء بذكرى عمي. فهل كان هذا ليبرر النقود التي أنفقت، والكربون الذي أحرق؟ أنتم تقولون لي. ولكن عرض الصور قدم نوعا من الخدمة غير المباشرة، بلفته نظري إلى الدقائق غير المصورة التي عشتها في الرحلة ـ كم كان خيرا لي أن أكون ضجرا متجمدا من البرد من أن أكون ميتا. وظهرت خدمة ذات صلة في الصباح التالي، بعدما رست السفينة في أوشوايا Ushuaia وخرجت أنا وتوم نهيم في الشوارع كيف نشاء. إذ اكتشفت أن ثلاثة أسابيع من النظر في أوريون إلى نفس الوجوه كل يوم، جعلتني أشد تقبلا لأي وجه لم يكن على السفينة، لا سيما الوجوه الأصغر سنا. شعرت بالرغبة في احتضان كل شاب أرجنتيني رأيته.
صحيح أن العمل الوحيد الأكثر فعالية الذي يمكن أن يقوم به أغلب البشر ـ لا لمحاربة التغير المناخي وحده بل للحفاظ على عالم التنوع البيولوجي، هو عدم إنجاب أطفال. لكن قد يكون صحيحا أيضا أن لا شيء يوقف منطق الأولوية البشرية: لو أن البشر بحاجة إلى اللحم وثمة كريل متاح، فليؤخذ الكريل. بل قد يكون صحيحا أن البطاريق ـ في شبههم بالأطفال ـ يمثلون الجسر الواعد بطريقة أفضل في التفكير في السلالات المهددة بالانقراض بسبب المنطق البشري: هم أيضا أطفال لنا. هم أيضا بحاجة إلى رعايتنا.
ويبقى أن تخيل عالم بلا شباب هو تخيل العيش في سفينة ليندبلاد إلى الأبد. لقد كانت لي أم بالمعمودية عاشت حياة كتلك، بعدما قتلت ابنتها الوحيدة. أتذكر الابتسامة نصف المجنونة التي كانت ترتسم على وجهها وهي تعطيني بقيمة دولار من آنيتها الخزفية. ولكن فران كان فيها جنون حتى قبل موت جيل، كانت مهووسة بالنسخة البيولوجية من نفسها. لا شك أن الحياة نفيسة، ولا شك أنك قد تحطمها إن أنت قبضت عليها بقدر أكبر مما ينبغي من القوة، ولكن بوسعك أن تحبها مثلما أحبها أبي بالمعمودية. والت فقد ابنته، ورفاقه في الحرب، وزوجته، وأمي، ولكنه لم يتوقف لحظة عن الارتجال. أراه على البيانو في جنوب فلوريدا، أرى ابتسامته وهو يضرب على البيانو نغمات عروض قديمة، بينما جاراته الأرامل يرقصن. وحتى في عالم الاحتضار، يولد دائما حب جديد.

عن ذي نيويوركر

ــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : http://omandaily.om/?p=356321

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق