رانيا جابر

فنقرأ: «عندما جاءت أخيراً، لم تكن انفجار فقاعة بين ليلة وضحاها، بل انهياراً أعمَّ بكثير، تسرُّباً استغرق عاماً للقيمة من الأسواق المالية المهمة، تناقضات تدريجية للغاية لدرجة أنها أدت إلى ظهور عناوين ومانشيتات كثيرة في الصحف وكان يسهل التنبؤ بالانفجار لدرجة أنه لا يمكن أن يؤلم أحداً غير الحمقى والشغيلة الفقراء».
إنها بالقطع إشارة إلى انتهاء فترة الازدهار الاقتصادي في أميركا التسعينات وهجوم غول الرأسمالية مع بداية الألفية الجديدة، غير أن الرواية لم تتناول أزمة السوق الحرة في شكل مباشر وصريح إلا مع شخصية مركزية واحدة، هي «شيب» – أستاذ النقد الأدبي – في حوار مطوَّل مع سياسي سابق من ليتوانيا، عن العولمة الاقتصادية واشتراطات صندوق النقد الدولي التي أفلست إحدى دول البلطيق إثر انهيار الاتحاد السوفياتي. إن الاختلاف الأساسي بين أميركا وليتوانيا، كما يرى «شيب» هو أنه في أميركا تُخضع القلة الثرية غير الأثرياء الكثيرين بواسطة تخدير العقل وأساليب التسلية والترفيه القاتلة للروح والعقاقير الطبية، بينما في ليتوانيا فيُخضع الأثرياء الفقراء الكثيرين بالتهديد والعنف بأشكاله كافة.
إن شخصيات الرواية تمر بحال من التصحيحات، هي لحظة تنور وكشف مفاجئة أو تدريجية، لحظة إدراك حقيقة الحياة وكنهها، تداهم أفراداً يعانون من أعراض خداع النفس أو إنكار الواقع الفعلي، وهي بدورها تعد من أعراض الحياة الأميركية كما يعرفها الكثيرون.
لكن الشخصية الوحيدة التي تفشل في إدراك التصحيحات الضرورية، تسقط مع سقوط سوق الأسهم ومع الانهيار الاقتصادي الرهيب الذي يشير إليه الفصل الأخير من الرواية. فلون الرواية، أو بنيتها العميقة هو تحول أميركا من الاقتصاد الصناعي الصريح إلى الاقتصاد المستند بالأساس إلى تبادل الأوراق المالية وقطاع الخدمات والتكنولوجيا الجافة، والذي تحوَّل بالتدريج إلى سوق سوداء ابتلعت قيم المجتمع ومبادئه.
فـ «ألفريد»؛ مهندس السكة الحديد التقليدي الذي يشعر بولاء كبير لشركته التي أفقرته وألقت به في الشارع بعد أن اشتراها مستثمر كبير قام بتسريح الكثير من العمال، هو هنا يمثل النظام الاقتصادي القديم لأميركا أواسط القرن العشرين، وذلك في مواجهة شخصيات أخرى مثل أولاده، والطاهية، ومدير بنك استثماري، وأستاذ جامعي/ مثقف وناقد في شكل عام ممن يمثلون النظام الاقتصادي الجديد مع بداية الألفية. لكننا نجد في الوقت ذاته حيرة هؤلاء الأفراد بين التبعية لهذا النظام الجديد والتمرد عليه. هذا الانقسام نلمس من خلاله حالة من التحولات الفردية التي تسبب بدورها شروخاً نفسية عميقة داخل الشخصيات، ومن ثم في بنية المجتمع. أما متن الرواية، فيشتمل على تلك الصراعات والتناقضات داخل تلك الأسرة التي تعاني من شيخوخة الأب ومشكلة حالة الاستهلاك الشره التي يعاني منها المجتمع الأميركي.
فلا توجد هنا علاقة إنسانية واحدة مُنزهة عن التأثر بأمراض وعاهات المجتمع، ولا ينجو أحد إلا عندما يتوصل إلى حل تكيفي أو جذري للتعامل مع تيار الحياة المادية العارم المسيطر على كل شيء.
إن شخصيات الرواية تستميت من أجل الخروج من المستنقع المتمثل في ذلك النظام الرأسمالي المتوحش للدرجة التي تجعلها تضحي بالأشياء الحميمة لديها. فالبطل؛ «كان قد باع مجموعة كتبه عن النظرية النسوية، ونظرية البنيوية وما بعد البنيوية والفرويدية، ونظرية المثلية الجنسية لجمع النقود اللازمة للغداء مع والديه. أصبح كل ما تبقى له هو كتب التاريخ الثقافي المحبَّبة إلى قلبه، وسلسلة شكسبير الكاملة طبعة أردين، ولأن ثمة سحراً ما في كتب شكسبير – مجموعة الكتب الأنيقة في أغلفتها الزرقاء الشاحبة يكمن فيها إحساس بالملاذ الآمن – حشر كتب فوكو وجرينبلات وهوكس وبوفي، في حقائب شحن وباعها جميعاً مقابل 115 دولاراً».
تنطوي هذه الرواية على خمس روايات متشابهة تمثل ما يسمى أحياناً «الرواية الأميركية الكبرى»، أي تلك التي تعبر لحظة كتابتها عن روح العصر لمجتمعها في شكل تفصيلي ودقيق، حيث إنها تقدم عرضاً شاملاً عن أحوال المجتمع ولغته واهتماماته وثقافته ورؤية المواطن العادي للحياة في شكل عام، لا سيما ما يختص بالجانب الاقتصادي حيث تحول الاقتصاد الأميركي في هذه الفترة إلى سوق سوداء كبيرة ومخيفة.
تنبع أهمية هذه الرواية من كونها نجحت إلى حد بعيد في التوفيق بين المقولات المابعد حداثية للأدب والرواية الواقعية العالمية، كما اتفق عليها معظم النقاد الحداثيين. لكنها في الوقت نفسه لم تتخل عن أصالة الرواية التقليدية الكلاسيكية الرصينة، لذا فسيرى القارئ في رواية «التصحيحات»، بل وفي كل كتابات جوناثان الروائية، أصداء من تشارلز ديكينز وديستويفسكي وبورخيس، وكذلك نجيب محفوظ ولا سيما في ما يتعلق بثلاثيته التي صوَّر فيها أحوال المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الحياة اللندنية ، 31مايو 2016م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق