السبت، 9 يوليو 2016

لماذا يا صغيري؟ -قصة- ريموند كارفر

ترجمة : محمد عبد النبي



سيدي العزيز:
فوجئتُ للغاية عند ما تلقيتُ رسالتك التي تستفسر فيها عن ابني، كيف عرفتَ بمكاني هنا؟ لقد انتقلتُ إلى هنا قبل أعوام، بعد أن بدأت الحكاية. لا أحد يعرف هُنا مَن أنا، لكني أظن أن الأمر سواء، فأنا لا أخشى إلا منه هو. عندما أنظر إلى الصحف أهز رأسي وأتعجب. أقرأ ما يكتبوه عنه وأسأل نفسي هل هذا الرجل هو ابني حقاً، أهو من يقوم فعلاً بتلك الأشياء؟ 
كان صبياً طيباً باستثناء نوبات غضبه وأنه لم يكن بوسعه أن يقول الحقيقة بالمرة. لا يمكنني أن أقدم لك أي أسباب. بدأ الأمر ذات صيف بعد احتفالات الرابع من يوليو، كان على وشك أن يتم الخامسة عشر من عمره. اختفت قطتنا ترودي وظلت غائبة طوال الليل والنهار التالي. في المساء جاءتني السيدة كوبر التي تسكن وراءنا، لتقول لي إن ترودر قد زحفت إلى باحتهم الخلفية في تلك الظهيرة نفسها لتمت هناك. قالت إن ترودي كانت ممزقة الجسم، ولكنها تعرفت عليها. وقام السيد ترودي بدفن الرفات.
قلتُ لها: ممزفة، ماذا تقصدين؟
رأى السيد كوبر صبييت يضعان المفرقعات النارية في أذني ترودي وفي ذلك الموضع الآخر الذي تعرفينه. حاول أن يوقفهما ولكنها هربا راكضين. 
مَن؟ من ذلك الذي يُقدم على فعلة كهذه؟ هل رأى من كانا؟ 
لم يتعرف على الصبي الآخر، ولكن أحدهما جرى في هذا الاتجاه، ويظن السيد كوبر أنه كان ابنك. 
هززتُ رأسي. كلا، هذا غير ممكن، إنه لن يقوم بشيءٍ كهذا، كان يحب ترودي، وترودي كانت جزءاً من الأسرة لسنوات، كلا، لم يكن هذا ابني. 
أخبرته بأمر ترودي ذلك المساء وتصرف كالمندهش المصدوم وقال إن علينا الإعلان عن جائزة. دقّ شيئاً ما على الآلة الكاتبة ووعد بتعليقها في المدرسة. ولكن بينما كان متوجهاً لغرفته تلك الليلة قال لا تغتمي لهذا الأمر يا أمي، لقد كانت عجوزاً، حسب أعمار القطط يمكن أن تكون بلغت 65 أو 70 سنة، لقد عاشت عمراً طويلاً. 
التحق بعمل خلال فترة ما بعد الظهيرة وأيام الآحاد، كصبيٍ يجلب المؤن والبضائع في متجر هارتلي. أخبرتني صديقةٌ تعمل هناك، اسمها بيتي ويلكس، بشأن الوظيفة، وقالت إنها سوف تزكيه بكلمة. ذكرت له أمر الوظيفة في المساء نفسه فقال هذا جيد، من الصعب أن يجد الشبان الصغار عملاً.
الللية التي كان سيحصل فيها على أول راتب له أعددت له طعامه المفضل وكان كل شيءٍ جاهزاً على المائدة حين دخل. وصل رجل البيت، هكذا قلت واحتضنته. أنا فخورة بك للغاية، كم بلغ أجرك يا صغيري؟ قال، ثمانون دولاراً. أصابني الذهول. هذا رائع، يا صغيري، إنني لا أستطيع أن أصدق. قال إنني ميت من الجوع، فلنأكل. 
كنتُ سعيدة، لكنني لم أستطع أن أستوعب الأمر، فقد كان المبلغ يفوق ما أكسبه أنا. 
وأنا أجمع الغسيل المتسخ وجدت كعب الوصل الخاص بمتجر هارتلي في جيبه، كان المبلغ ثمانية وعشرين دولاراً، وكان قال ثمانون. لماذا يعجز عن قول الحقيقة ببساطة؟ لم أفهم. 
كنتُ أسأله إلى أين ذهبتَ ليلة أمس يا صغيري؟ فيجيب شاهدتُ عرضاً ما. ثم أكتشف أنه ذهب إلى مدرسة الرقص أو أنه أمضى المساء راكباً في سيارة أحدهم متجولين. وكنت أفكر أي فرق يمثله هذا، لمَ لا يكون صادقاً وحسب، فما من سببٍ يدفعه للكذب على أمه. 
أذكرُ ذات مرة أنه كان من المفترض به الذهاب إلى رحلة ميدانية، فسألته ما الذي شاهدته في الرحلة الميدانية، يا صغيري؟ وهز منكبيه قائلاً تكوينات أرضية، وصخرة بركانية، ورماد، كما عرضوا لنا المكان الذي كانت تشغله بحيرةٌ كبيرة قبل مليون عاماً وهو الآن مجرد صحراء. ونظر إلى عينيّ مواصلاً حديثه. ثم تلقيتُ رسالة من المدرسة في اليوم التالي تقول إنهم يطلبون الإذن بقيامه برحلة ميدانية، وما إذا كنتُ أسمح له بالذهاب. 
وقُبيل انقضاء سنة تخرجه اشترى سيارة وصار بالخارج دائماً. كنت قلقةً بشأن درجاته، لكنه كان يضحك وكفى. أنت تعرف أنه كان طالباً متفوقاً، لابد وأنك تعرف هذا إن كنت مُلماً بأي شيء. بعد ذلك اشترى بندقية وسكين صيد. 
أنا كرهتُ رؤية تلك الأشياء في المنزل وأخبرته بذلك فضحك، كان دائماً مستعداً بضحكة من أجلك. قال إنه سيحتقظ بالبندقية والسكين في حقيبة سيارته، قال إن ذلك سوف يُسهّل عليه الوصول لهما على أي حال. 
لم يرجع إلى البيت في ليلة من ليالي السبت ودفع بي القلق إلى حالة رهيبة. وفي العاشرة صباحاً تقريباً دخل وطلب مني أن أعد له إفطاراً، وقال إن رحلة الصيد تلك قد رفعت شهيته، وقال إنه آسف لغيابه بالخارج طوال الليل، وقال إنهم رحلوا بسياراتهم لمسافات طويلة من أجل الوصول إلى ذلك المكان. بدا لي غريباً، وكان متوتراً. 
إلى أين ذهبتم؟ 
حتى ويناس. أطلقنا بعض طلقات. 
ومع من ذهبت يا صغيري؟ 
فريد. 
فريد؟ 
حدقّ فيّ فلم أنطق بشيء. 
يوم الأحد التالي مباشرة تسللت بهدوء إلى غرفته لآخذ مفاتيح سيارته. كان قد وعد بجلب بعض الأطعمة للإفطار في طريق عودته للبيت في الليلة السابقة واعتقدتُ إنه ربما ترك الأشياء في السيارة. 
رأيتُ حذاءيه نصف بارزين من تحت فراشه ومغطيين باوحل والرمل. فتح عينيه.
صغيري، ماذا حدث لحذاءك؟ انظر إلى حذاءك. 
نفد مني الوقود، واضطررت للمشي لجلب الوقود. نهذض جالساً. لماذا تهتمين بهذا؟ 
إنني أمك. 
بينما كان يستحم أخذت المفاتيح وخرجت إلى سيارته. فتحت الصندوق. لم أجد البقالة. رأيت البندقية ملقاة على لحاف والسكين أيضاً ورأيتُ قميصاً من قمصانه مطوياً ومكوراً ففردته وكان مغطى بالدماء. كان مازال مبتلاً فألقيته به. أغلقت الصندوق ووجهت نظري ناحية المنزل، فرأيته ينظر من وراء الزجاج وفتح الباب. 
قال، نسيتُ أن أخبرك، لقد نزف أنفي نزفاً سيئاً، ولم أدر ما إذا كان يمكن غسل هذا القميص أم يجب التخلص منه. ابتسم. 
بعد بضعة أيام سألته عن أحواله في العمل. قال، رائع، وقد حصل على علاوة. لكنني قابلتٌ بيت ويلكز في الشارع، وقالت إنهم جميعاً آسفون في متجر هارتلي بسبب فصله من العمل، وقالت بيتي ويلكز إنه كان شخصاً محبوباً للغاية. 
بعدها بليلتين، كنت راقدة في الفراش ولكن بلا قدرة على النوم. رحتُ أحدق في السقف. سمعت صوت سيارته تتوقف بالخارج واستمعت إلى صوت المفتاح يديره في القفل، ودخل إلى المطبخ ومر بالردهة إلى غرفته وأغلق الباب من وراءه. 
نهضتُ. رأيتُ نوراً من تحت بابه، طرقت ودفعت الباب وقلت ألا تحب تناول كوب من الشاي الساخن، يا صغيري، فأنا لا أستطيع النوم. كان منحنياً على طاولة الزينة، ولدى سماعي أغلق أحد الأدراج بعنفٍ، والتفت نحوي صارخاً اخرجي، اخرجي من هنا، لقد سئمتُ من تجسسك. ذهبتُ إلى غرفتي وجعلتُ أبكي حتى نمت. لقد كسر قلبي في تلك الليلة. 
في الصباح التالي نهض وخرج قبل أن أتمكن من رؤيته، ولكنني لم أنزعج لهذا. قررتُ أن أعامله منذ ذلك الحين فصاعداً مثل ساكن بالإيجار. إلا إذا أراد أن يصلح من شأنه، طفح بي الكيل. سيكون عليه أن يعتذر إذا أراد لنا أن نكون أكثر من مجرد غريبين يقيمان معاً تحت سقفٍ واحد. 
حين عدتُ إلى المنزل ذلك المساء وجدته قد أعد العشاء. قال، كيف حالك؟ وتناول عني معطفي. كيف كان يومك؟ 
قلت إنني لم أذق طعم النوم ليلةَ أمس، يا صغيري. لقد عاهدتُ نفسي ألا أفتح الموضوع من جديد، وأنا لا أحاول أن أُشعرك بالذنب، لكني لم أتعود أن يخاطبني ابني بهذه الطريقة. 
قال لي، أريد أن أريك شيئاً. وعرض علي هذه المقالة التي كان يكتبها من أجل مادة الحقوق المدنية. أظن أنه كان يتناول العلاقات بين الكونجرس والمحكمة العليا. (كان هو البحث نفسه الذي نال عنه جائزة عند تخرجه!) حاولتُ أن أقرأه ولكن عندئذ قررتُ أنه قد حان وقت المصارحة. صغيري، أود أن أتحدث إليك، من العسير تربية طفل وسط الظروف التي عشناها في تلك الأيام، وكان من العسير علينا خصوصاً أن نمضي بلا أبٍ معنا في المنزل، بدون رجلٍ نلجأ إليه وقت الحاجة. توشك أن تصير راشداً الآن، ولكني مازلت مسئولة عنك وأرى أنني أستحق بعض الاحترام والمراعاة، وطالما حاولتُ أن أكون نزيهة وصريحة معك. أريد الحقيقة يا بُني، هذا هو كل ما أطلبه منك، الحقيقة. صغيري، قلتُ والتقطت أنفاسي، افترض أن لك طفلاً عندما تسأله عن شيء، أي شيء، مثل أين كان أو إلى أين سيذهب، وكيف يقضي وقته، أي شيء، فإنه لا يخبرك بالحقيقة ولا مرة واحدة، لا يقول الحقيقة بالمرة، بالمرة. طفل إذا سألته ما إذا كانت السماء تمطر بالخارج، سيجيبك كلا، الجو لطيف ومشمس، وربما يضحك في نفسه ظناً منه أنك بلغتَ من الكبر أو الغفلة ما يجعلك لا تلحظ أن ثيابه مبتلة. ما الذي يدعوه للكذب؟ هكذا ستسأل نفسك، ماذا يجنيه من هذا؟ أنا لا أفهم؟ ظللت أسأل نفسي هذا السؤال دون أن أجد جواباً. فلماذا يا صغيري؟ 
لم يقل شيئاً، ظل يحدق فيّ، ثم تحرك صار إلى جانبي، وقال سأريك. إنه الخضوع، قال، هذا ما لدي. الخضوع والركوع أرضاً، قال، هذا ما لدي، هذا السبب الأول عندي. 
هرعت إلى غرفتي وأغلقت بابها. وقد غادر في تلك الليلة نفسها، أخذ أشياءه، أخد كل ما أراه وغادر. وصدق أو لا تصدق فإنني لم أرد مرة ثانية. رأيته في حفل تخرجه، ولكنه كان ذلك وسط كثيرٍ من الناس حولنا. جلست بين الجمهور وراقبته وهو يتسلم شهادته وجائزة على المقال، ثم سمعته يلقي كلمة، وبعدها رحتُ أصفق مع الآخرين طوال الوقت. 
عدت للمنزل بعدها. 
ولم أره بعد ذلك أبداً. بالطبع رأيته على شاشة التليفزيون ورأيته صوره في الجريدة. 
علمت أنه انضم إلى قوات المارينز، ثم سمعت من أحدهم أنه ترك المارينز وعاد ليدرس سنة الكلية للتأهل هناك في الشرق، ثم تزوج تلك الفتاة، واقتحم عالم السياسة. بدأتُ أرى اسمه في الجريدة. عرفت عنوانه فكتبت إليه، كتبتُ إليه خطاباً كل بضعة شهور، ولم أتلق رداً أبداً. رشح نفسه كحاكم للولاية ونجح في الانتخابات، صار شهيراً عندئذٍ. في ذلك الحين بدأ القلق يساورني. 
راحت كل تلك المخاوف تتزايد بداخلي، وصرتُ خائفة، توقفت عن الكتابة إليه بالطبع وتمنيت أن يظن أنني توفيت. انتقلتُ إلى هنا. وطلبت أن تكوني نمرتي غير واردة في الدليل. وبعده تعين علي أن أغير اسمي. إذا كنتَ رجلاً صاحب نفوذ وأردت العثور على أحدهم تستطيع أن تجده، لن يكون ذلك بالأمر العسير عليه. 
يجدر بي أن أشعر بالفخر، ولكنني خائفة للغاية. الأسبوع الماضي رأيتُ في الشارع سيارة وبداخلها رجل أعلم أنه كان يراقبني، عدتُ للبيت مباشرة واحكمت غلق الباب من وراءي. قبل بضعة أيام راح جرس التليفون يدق طويلاً، كنت راقدة. التقطت السماعة ولم يكن هناك شيء على الطرف الآخر.
إنني عجوز. إنني أمه. ينبغي أن أكون أكثر الأمهات شعوراً بالفخر في الأرض كلها، ولكنني خائفة فقط.

شكراً لأنك كتبتَ لي. أردتُ من أحدهم أن يعلم. أنا في غاية من الحرج والخجل.
أردتُ أيضاً أن أسأل كيف وصلتَ لاسمي وعرفت أين تراسلني، كنت أدعو الله ألا يعرف أحد. لكنك عرفت. فلماذا؟ لماذا وصلت لي؟ أرجوك أن تخبرني لماذا؟ 

المخلصة.

ــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق