السبت، 9 يوليو 2016

حدّة العين القارسة

إسماعيل غزالي

نشرت في 9 أبريل 2012


قاص من طراز خاص، يندر حفيف عبوره المدوي في الكتابة السردية، مثل الطيور الجارحة التي لا تعمر طويلاً في حياتها، وتترك أثر مخالبها الغائرة في ذاكرة الغابة، لم يتجاوز الخمسين عاماً، كما لم يشرع في الكتابة إلاّ متأخرا وقد جاءها من الباب الخلفي للحياة، عبر تجربة فادحة من العنف والقساوة التي خبرها في أكثر من حرفة امتهنها، عاملاً في منشرة الخشب وحارساً ليلياً لمستشفى وسائق شاحنة .

إنه القاص الأمريكي ريموند كارفر، الذي عدّه الكاتب الياباني هاروكي موراكامي أستاذاً أثيراً له، بل جعل أحد عناوين كتبه حول الركض عما أتحدث عندما أتحدث عن الركض منحولاً عن عنوان لمجموعة قصصية لكارفر موسومة ب عم أتحدث عندما أتحدث عن الحب؟ .

تجدر الإشارة إلى أن عنوان هذه المجموعة الأصلي هو: مبتدئون، ومحرر كارفر المدعو ليش هو من غيّره وتصرف حتى في نصوص المجموعة بشطب الكثير من الجمل والفقرات، وهذا ما شجبه كارفر ورفضه بشدة رغم صدور المجموعة ونجاحها .

صاحب أسلوبية المينيماليزم، كما وسمه النقد، يكتب قصة ذات منأى عن الترهلات، جافة بكل ما تعنيه الكلمة من رشاقة وليست محض تقشف، وعارية بكل ما تستنزفه الدلالة من حدّة وليس محضت هشاشة . خرط صوره الإنسانية بنصل خياله في مملكة السرد وكان ابناً ضالاً فتح للقصة جيباً من جيوب هامشها الكوني على التجربة الحافية لكائن الملهاة اليومية ومسرح العيش المحتدم .

في قصة ثلاث زهرات صفر، يفاجئنا ريموند كارفر، باختيار مستحب لشخصية أنطون تشيخوف موضوعاً حكائياً، ويقف بتخييله المدهش عند تفاصيل الأيام الأخيرة في حياته، أثناء مرضه المزمن بالسل، ومعه كانت الزوجة والممثلة أولغا، حيث استقر بهما المآل في بادنفايلر قريباً مدينة بال الألمانية .

تصور القصة التداعيات الهذيانية لحالة تشيخوف وردود أفعال من حوله، وتعتمد في تناولها الجسور حواشي من يوميات الممثلة أولغا، وكذلك رسائل تشيخوف إلى أمه وأخته وبرقيات الصحافيين وجملة من اعترافاته إلى زوجته أولغا .

تنجح القصة في تأثيث فضائها السردي باستيلاد حكاية ثانية للطبيب شفورر، ثم ثالثة وهي لحظة الألمعية التي ينضج فيها النص، مع ظهور الصبي الخادم في الفندق، بطلب من الطبيب عبر هاتف الغرفة كي يحمل أفخر زجاجة مشروب، مع ثلاث كؤوس، كانت فكرة ملهمة منه ليشرب الثلاث: أي تشيخوف المحتضر والطبيب والزوجة نخب موته بعد أن استعصى مرضه ودخوله في غيبوبة .

يعاود الصبي الحضور مرة ثانية بعد مغادرة الطبيب الذي منحه قطعاً نقدية، وهو يحمل مزهرية بثلاث ورود صفر، الأمر الذي تستغرب له أولغا، فهي لا تتذكر أنها طلبت منه ذلك .

وبعد أن يعجز الصبي في استمالة انتباهها، وهي شاردة في موت زوجها القاص الشهير، سيسترعي انتباهه شخوص عينيها على سدادة زجاجة المشروب، الملقاة على السجادة، ويحاول أن يلتقطها بصعوبة لأنه مايزال يحمل المزهرية .

وحين تخبره بأن يأتيها بأشهر وأمهر دفّان موتى في البلدة، عندها يدرك أن الشخص الملقى من دون حركة في الغرفة المقابلة قد مات .

تمنحه أوراقاً مالية أخرى وتنبهه بصرامة إلى ما يجب أن يفعله من أجلها وبحرص مفرط، يحمل الصبي المزهرية معه، وهو يفكر في كل حرف نبسته بصوت مهموس ويهدي المزهرية لدفّان الموتى، على عتبة بابه، فيما يفكر في سدادة زجاجة المشروب .

رقم ثلاثة يتكرر في القصة بشكل وظيفي، ويخلق شبكة تأويلية مجانبة لكل اعتباطية، بدءاً بثلاث زهرات في العنوان، ثم ثلاث كؤوس، وثلاث دورات لعقرب الساعة عندما كان تشيخوف يحتضر إلى نقرات مطرقة الباب البرونزية الثلاث إلخ .

هذه الثلاثية العلاماتية تتحقق معها بلاغة ثلاثية فنية داخل النص، لامعة هي: بلاغة التصوير السينمائي، بلاغة الحد الأدنى للقول، بلاغة التخييل المدهش .

لعل الخلاصة الدامغة، هي أن القصة وردة محبة من كارفر إلى أيقونة القص الكوني: تشيخوف .

التوصيف المدهش ورسم الأشياء بنظرة جافة واستقصاء الأشياء العادية والكتابة بلغة مشذبة تؤسس لشعرية الاختزال (المينيماليزم) هي الخصائص القوية لصاحب طرق مختصرة التي تحولت إلى فيلم على يد روبرت ألتمان . اختصار الطرق هذه يمكن أن ينسحب على فرادة أسلوبيته وجماع ميكانيزمات اشتغال نصوصه، نصوص بإحداثيات لا يمكن أن ينجزها بحدّةِ صقْرٍ إلا عين قارسة كتلك التي يمتلكها نحّات القساوة: ريموند كارفر .

ــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق