ترجمة: محمد عبد النبي
فى المطبخ، صبّ شرابا آخر ونظر إلى أثاث غرفة النوم فى باحته الأمامية. كانت المرتبة عارية والملاءات المخططة مطروحة بجانب وسادتين على الشيفونيرة. باستثناء هذا فقد بدت الأشياء إلى حدٍ كبير كما كانت تبدو فى غرفة النوم، كمودينو ومصباح قراءة على جانبه من الفراش، كمودينو ومصباح قراءة على جانبها من الفراش.
جانبه، جانبها.
راح يفكر فى هذا بينما يرشف الويسكى.
تقف الشيفونيرة على مبعدة أقدام معدودة من طرف الفراش. لقد أفرغ الأدراج فى صناديق كرتون ذلك الصباح، والكراتين فى غرفة المعيشة. إلى جانب الشيفونيرة مدفأة يسهل نقلها. عند طرف الفراش كرسى خيزران عليه وسادة للزينة. أمّا أدوات المطبخ الألمونيوم اللامعة فقد شغلت جزءا من مدخل السيارات. مفرش أصفر من الموسلين، أكبر من اللازم، هدية، غطى المائدة وتدلى من الجوانب. كانت على المائدة نبتة سرخس فى أصيص، وعلى مبعدة بضعة أقدام من هذا انتصبت أريكة ومقعد وأباجورة طويلة. تمّ دفع المكتب إلى باب المرآب. على المكتب أوان قليلة، إلى جانب ساعة حائط واثنين من الصور المطبوعة فى إطارات. فى ممر السيارات كذلك كرتونة فيها أكواب، وكؤوس، وأطباق، كل شىء ملفوف فى ورق الصحف. ذلك الصباح كان قد نظّف الخزائن، وفى ما عدا الكراتين الثلاث الموجودة فى غرفة المعيشة، كانت جميع محتوياتها خارج البيت. مد سلك توصيلة للخارج فأصبحت كل الأجهزة موصولة. كلها كانت تعمل، دون أى اختلاف عمّا كانت عليه حين كانت فى الداخل.
بين الحين والآخر تبطئ سيارة من سيرها ويحدّق أشخاص. ولكن لا أحد توقف.
خطر له أنه هو أيضا لو كان مارّا لما توقف.
قالت الفتاة للشاب: «لا بد أنهم يبيعون أشياءهم القديمة».
هذه الفتاة وهذا الشاب كانا يؤثثان شقة صغيرة.
قالت الفتاة: «تعال نرى كم يريدون مقابل الفراش».
قال الشاب: «والتليفزيون».
دخل الشاب بالسيارة من ممر السيارات ثم توقف قُبالة مائدة المطبخ.
خرجا من السيارة وبدآ يتفقدان الأغراض، لمست الفتاة مفرش الموسلين، وصّل الشاب الخلاط بالتيار الكهربائى وضغط زر الفرم، التقطت الفتاة الوعاء الحرارى، أدار الشاب جهاز التليفزيون وأخذ يضبطه بتعديلات صغيرة.
جلس على الأريكة ليشاهد التليفزيون. أشعل سيجارة، تطلع حوله، ألقى بالثقاب بين العُشب.
جلست الفتاة على الفراش. نزعت نعليها ورقدت على ظهرها. فكرت أنها تستطيع أن ترى نجمة.
قالت: «تعال هنا يا جاك، جرب هذا السرير. هات واحدة من تلك المخدات».
قال: «ما حالته؟».
قالت: «جربه».
تطلع حوله. كان المنزل مظلما.
قال: «عندى إحساس غريب. الأحسن أن نرى هل هناك أحدٌ بالبيت».
أخذت تنطّ على الفراش.
قالت: «جرّبه أولا».
رقد على الفراش ووضع الوسادة تحت رأسه.
قالت: «ما رأيك؟»
قال: «متين».
استدارت على جانبها ووضعت يدها أمام وجهه.
قالت: «قبلنى».
قال: «لننهض».
أغمضت عينيها. أمسكت به.
قال: «سأرى إن كان هناك أى شخص بالمنزل».
لكنه اكتفى بالجلوس حيث هو، متظاهرا بأن كان يشاهد التليفزيون.
أضاء نور منازل الشارع على الناحيتين.
«ألن يكون من المضحك لو ...» قالت الفتاة وابتسمت ولم تكمل.
ضحك الشاب، ولكن دون سبب وجيه. ودون سبب وجيه أضاء مصباح القراءة.
أبعدت الفتاة بعوضة بيدها، فنهض الشاب واقفا وسوّى قميصه بداخل سرواله.
قال: «سأرى إن كان هناك أى شخص بالبيت، لا أظن أنه يُوجد أى شخص. ولكن إذا كان هناك أى شخص، سأرى إلى أين تمضى الأمور».
قالت: «أيا كان ما يطلبون نزّل السعر عشرة دولارات. إنها فكرة جيدة على الدوام».
«وعلاوة على هذا، لا بدّ أنهم يائسون أو شىء كهذا».
قال الشاب: «جهاز التليفزيون بحالة جيدة جدا».
قالت الفتاة: «اسألهم عن سعره».
اقترب الرجل سائرا على الرصيف ومعه شنطة من السوق. كان قد أحضر ساندوتشات وبيرة وويسكى. رأى السيارة فى ممر العربات والفتاة على الفراش. رأى جهاز التليفزيون يعمل والشاب على الرواق الأمامى لمدخل البيت.
قال الرجل للفتاة: «مرحبا، لقد عثرتُ على الفراش. هذا جيّد».
قالت الفتاة: «مرحبا»، ونهضت. ربتت على الفراش وهى تقول: «كنت أجربه فقط».
«إنه فراش جيد جدا».
«فراش جيد»، قال الرجل، ووضع الشنطة وأخرج منها البيرة والويسكى.
قال الشاب: «لقد ظننا أنه لا يوجد أحدٌ هنا، إننا مهتمان بالفراش وربما بجهاز التليفزيون. وربما المكتب أيضا. كم تريد مقابل الفراش؟».
قال الرجل: «كنتُ أفكر فى خمسين دولارا مقابل الفراش؟».
قالت الفتاة: «أترضى بأربعين؟».
قال الرجل: «أرضى بأربعين».
أخرج كأسا من الكرتونة. أزال ورق الصحف عن الكأس. خلع سدادة زجاجة الويسكى.
قال الشاب: «ماذا عن التليفزيون؟».
«خمسة وعشرين».
فقالت الفتاة: «أترضى بخمسة عشر؟».
فقال الرجل: «لا بأس بخمسة عشر. أرضى بخمسة عشر».
نظرت الفتاة إلى الشاب.
قال الرجل: «يا شباب، لو ستشربان ستجدان الكؤوس فى تلك الكرتونة. أنا سأقعد، سأقعد على الأريكة».
جلس الرجل على الأريكة، واضطجع، وحدّق فى الشاب والفتاة.
وجد الشاب كأسين وصبّ ويسكى.
قالت الفتاة: «هذا كافٍ، أظن أننى أريد ماءً عليه».
جرّت مقعدا وجلست إلى مائدة المطبخ.
قال الرجل: «يوجد ماء فى ذلك الصنبور التى هناك، افتح ذلك الصنبور».
عاد الشاب بالويسكى المخفف بالماء. تنحنح وجلس إلى مائدة المطبخ. ابتسم. لكنه لم يشرب أى شىء من كأسه.
حدّق الرجل فى التليفزيون. أنهى مشروبه وبدأ آخر. مدّ يده ليضىء الأباجورة الطويلة. حدث عندئذٍ أن أفلتت سيجارته من بين أصابعه ووقعت وسط الوسائد.
نهضت الفتاة للمساعدة فى العثور عليها.
قال الشاب للفتاة: «إذن ما الذى تريدينه؟».
أخرج الشاب دفتر الشيكات ورفعه أمام شفتيه كما لو كان يفكر.
قالت الفتاة: «أريد المكتب؟ المكتب كم من المال؟»
لوّح الرجل بيده إزاء هذا السؤال غير المعقول.
قال: «قولا رقما».
نظر إليهما إذ جلسا إلى المائدة. فى ضوء الأباجورة، كان هناك شىء ما فى وجهيهما. كان لطيفا أو مقرفا. لم تكن ثمة حكاية.
قال الرجل: «سوف أغلق التليفزيون وأدير تسجيلا موسيقيا، هذا المسجّل سيذهب أيضا. رخيص. قدما لى عرضا».
صبّ مزيدا من الويسكى وفتح علبة بيرة.
قال الرجل: «كل شىء سيذهب».
قدمت الفتاة كأسها وصبّ الرجل لها.
قالت: «شكرا لك، أنت لطيف جدا».
قال الشاب: «إنه يدير الرأس هذا، أشعر به يلعب برأسى الآن». رفع كأسه ورجرجه.
أنهى الرجل شرابه وصبّ آخر، وعندئذٍ وجد صندوق الأسطوانات.
قال الرجل للفتاة: «اختارى شيئا»، وهو يمسك بالأسطوانات أمامها.
كان الشاب يكتب الشيك.
«هذه»، قالت الفتاة، وهى تختار شيئا، تختار أى شىء، فهى لم تكن تعرف الأسماء الموجودة على أغلفة تلك الأسطوانات. نهضت من على المائدة ثم جلست من جديد. لم تشأ أن تبقى ساكنة.
قال الشاب: «سأحرر الشيك لحامله».
قال الرجل: «أكيد».
شربوا. استمعوا إلى الأسطوانة. وبعدها وضع الرجل أسطوانة أخرى.
لماذا لا ترقصان يا شباب؟ قرّر أن يقول لهما ذلك، ثم قاله. «لم لا ترقصان؟»
قال الشاب: «لا أظن ذلك».
قال الرجل: «هيا، انطلقا، إنها باحتى. يمكنكما الرقص إذا شئتما».
بأذرع ملفوفة حول أحدهما الآخر، وجسدين مضغوطين معا، أخذ الشاب والفتاة يتحركان على طول ممر السيارات. كانا يرقصان. وحين انتهت الأسطوانة، أدارا أسطوانة أخرى، وحين انتهت هذه، قال الولد: «أنا سكران».
فقالت البنت: «أنت لست سكران».
فقال الشاب: «لا، أنا سكرت بجد».
أدار الرجل الأسطوانة مجددا وقال الشاب: «سكرت».
«ارقص معى»، قالتها الفتاة للشاب ثم للرجل، وحين نهض الرجل واقفا، اقتربت منه بذراعين مفتوحتين على اتساعهما.
قالت: «هؤلاء الناس هنا، يتفرجون علينا».
قال: «لا يهم، إنه مكانى».
قالت الفتاة: «دعهم يتفرجون».
قال: «هذا صحيح، إنهم يحسبون أنهم سيرون كل ما يجرى هنا. ولكنهم لم يروا هذا، صح؟».
أحسّ بأنفاسها على عنقه.
قال: «أتمنى أن يكون سريرك قد أعجبك».
أغمضت الفتاة عينيها ثم فتحتهما. دفنت وجهها فى كتف الرجل. جذبته إليها أقرب.
قالت: «لا بدّ أنك يائس أو شىء كهذا».
بعد أسابيع، قالت: «كان الرجل فى منتصف العمر تقريبا. وكل أشياءه كانت هناك فى باحته. بلا كذب. سكرنا بجد ورقصنا. فى مدخل السيارات. آه، يا ربنا. لا تضحكوا. شغّل لنا ثلاث أسطوانات. انظروا إلى مُشغل الأسطوانات هذا. لقد أعطاه لنا الرجل العجوز. وكل هذه الأسطوانات العفنة. هلّا نظرتم إلى هذا الخراء؟»
ظلّت تتحدث. حكت للجميع. كان هناك المزيد بهذا الشأن، وقد حاولت أن تصيغه لتنطق به. بعد وقت، كفّت عن المحاولة.
■ ■ ■
ريموند كارفر (1938 - 1988) القاص الأمريكي الأكثر شعبية فى النصف الثانى من القرن العشرين، وأحد أقطاب اتجاه «الواقعية القذرة»، كانت زوجته هى الشاعرة تيس جالاجر واشترك معها فى كتابة السيناريو الوحيد له «دستوفسكى»، وهو أيضا الرجل الذى كابد الفقر والإدمان أكثر من عشرين عاما، ورأى الموت أربع مرات ثم أفاق من سكرته فى آخر المطاف ليكتب شعرا و قصصا من أبدع ما يكون. قبل أن يودى سرطان الرئة بحياته المرتبكة العسيرة. اعترف فى أحد مقالاته بأنه لم يكن ليكتب ما كتب ما لو لم تكن حياته كما كانت.
وُلد كارفر فى كالاتسكانى، ولاية أوريجون، وتنقل فى حياته بين عدد من الولايات الأمريكية، منها واشنطن ونيويورك، حتى وفاته فى بورت أنجلز.
ـــــــــــــــــــــ
المصدر:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق