الخميس، 7 يوليو 2016

هنري ميلر المقيم أبداً في عري الكتابة

خليل قنديل



لعل أهم مزايا الكتابة انها حال حدوثها تتحول بقصدية مدروسة إلى نوع من الإحلال في المعنى، أي انها في القصدية الأولى لنطقها تشكل ما يمكن تسميته بالساتر السميك بين ذات المبدع وأصل خصوصيته المعيشية والحياتية والقارئ المتلقي للنص، القارئ الذي تنطلي عليه لعبة الاستعارة والتورية، هذه اللعبة التي تقود الكتابة نحو إعادة إنتاج الأمكنة والحالات والشخوص لتفرض عليهم الإهانة الجبرية داخل النص.

إن الأنا الإبداعية وهي تختفي وراء هذا الساتر "النص" تمتلك قدرة عجيبة على التشكل الحربائي في اتخاذ اللون الذي تشاء، انها الأنا الموارية القادرة على أن تنهل من تكونها الفطري الخام وتكونها المعرفي والثقافي والفني ما تشاء أيضاً، وهي الأنا التي لا تكتفي بمخزونها الذاتي بل تذهب إلى المجموع الإنساني المحيط بها كي تحل به ويحل بها، لتشكله كما تشاء، وهي تذهب أيضاً إلى الأمكنة كي تؤثثها بالمشهد الذي تريد، وبالشخوص الذين تريدهم أيضاً.

لكن، ماذا لو جاء المبدع الذي قرر سلفاً تفجير هذا الساتر وخدشه بمخالبه الخرافية حد الإزاحة الكاملة؟ ماذا لو قرر الكاتب أن يحذف هذا الساتر تماماً؟ ويزلزل لعبة الكتابة من جذورها ويقف بعري أناه الكاملة أمام القارئ دونما وجل أو خوف، لا بل يقف في منطقة البث الإبداعي المباشر إن جاز التعبير؟

هذا بالضبط ما فعله الكاتب الأمريكي "هنري ميلر" 1891- 1980حيث استطاع بمقدرة خاصة ومتميزة أن يجيز التعبير المستحيل، ويفك أسره طوال رحلة كتابته.

ويبدو ميلر القادم من سلالات أوروبية فرنسية وأسبانية ويونانية تدرجت حتى فرخته في "يوركفيل" بولاية نيويورك، وكأنه أحد ضحايا الترحال المضني للسلالات، وابن نقمتها، مثلما يبدو أنه بحجم هذه القسوة وبمستوى هذا التحدي حيث يقول: "أنا رجلٌ من العالم القديم، أنا حبة جلبتها الرياح".

ونحن حينما نعود إلى المقترح الجغرافي لولادته في مدينة نيويورك التي كانت تستعد عام 1901لكي تكون عاصمة التنوع الإنساني، والقربان الأسمنتي للتشكل الاقتصادي وتورماته.

وقد كان ميلر بحجم هذا الاستدعاء، برغم طأطأة الرأس التي قدمها لمجتمعه النيويوركي مطلع حياته، حيث ترك حياته تتدفق دونما اعتراض عند الأب السكير الذي يعمل في محل للخياطة، وعند الكنيسة التي كانت تقتاده صباح كل أحد لسماع الموعظة والتي كان يحس تجاهها بالضجر، وعند أمه المصابة بالمواظبة البيتية المقيتة وعند المدرسة التي قال عنها ذات مرة: أؤمن بأن كل المدارس مخرِّبة، انها تقتل التطلع والرغبة في التعليم، والفنانون كلهم قتلتهم المدارس.

لكن ميلر حينما نهض بقواه الإبداعية، اتخذ قراره بأن لا يذهب إلى تأليف المشهد الحياتي وكتابته، بل يذهب إلى الحياة ذاتها كي يكتبها كما يعيشها وكما يود أن يقترح عليها من متخيل!

وهكذا بدأ ميلر الخارج من عائلة بالكاد قادرة على سد رمقها الحياتي والمعيشي، إلى حياة تحتاج قدرة هائلة لسد الرمق الإبداعي، وبين الفقر المدقع والحاجة إلى الكتابة كمتنفس وحيد لكيانه، عاش ميلر تجواله في قيعان مدنه التي حط بها. وكانت باريس هي المفجرة الحقيقية للكتابة حيث اندغم في الواقع اليومي لقاع مدينة باريس، باريس التي كتب فيها "مدار السرطان" و"الربيع الأسود" و"مدار الجدي". هذه الأعمال التي جعلته محظوراً في أمريكا ومتاحاً في أوروبا وباقي دول العالم، وهي الأعمال التي أكدت جرأته في اقتحام الحياة والتعبير عنها ببوح أكثر جرأة. وميلر عمم منهجه الإبداعي هذا على تعامله مع الموسيقى حينما كان يعزف على البيانو، مثلما عممه على الرسم أيضاً. وربما يكون ميلر هو الوحيد الذي عبَّر عن نبوءة عصر المعلوماتية والكمبيوتر والإنترنت وثقافة الصورة حينما قال: "أعتقد أن عصر الطباعة والقراءة زائل لا محالة، ومستبدل بشيء آخر، لكني باعتباري كاتباً، والكلمات تعني لدي الكثير، أجد صعوبة في تصور ماذا يمكن أن يكون عليه البديل؟".

ـــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : جريدة الرياض، 15 مارس 2007م، العدد 14143.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق