ترجمة: مدني قصري -عمان-
نشرت في 31 يناير 2009

في "كتاب الأوهام"، يعود بول أوستر الذي كان شاعرًا ومترجمًا للأدب الفرنسي في بداياته، قلت يعود لمقولة الكاتب شاتوبريان في "مذكرات ما بعد القبر": "أوقات الأزمة تحدث ازدواج الحياة عند البشر". إنه بالتحديد وقت أزمة، هذا الذي يمرّ به أوغوست بريل، الرجل "الوحيد في الظلام"، في رواية بول اوستر الأخيرة. فهذا الذي صار طُعمًا للأرق، ومعزولا في غرفته التي يحتلها في بيت ابنته، يخترع لنفسه "قصصًا تحول دونه والتفكير" في مصاعبه وآلامه وانشغالاته. إذاً، هذا الناقد المتقاعد، يروي مغامرة ساحر من نيويورك، يدعى بريك، الذي يفيق من نومه في قاع ثقب عميق لا يسمع فيه سوى ضجيج وعجيج معركة طاحنة. ويخرج من هذه المعركة لتوكل إليه مهمة خطيرة: إنهاء الحرب الأهلية التي تفتك بأميركا "موازية". اللافت في رواية بول أوستر أن كل الأحداث تجري ليلا، وكأن النوم يستعصي على الكاتب. في هذا الشأن يقول الكاتب أن الوضعية تُفرض عليه بشكل عضوي. فهو لا يعاني السهاد، لكنه أحيانًا يجد صعوبة في الاستسلام إلى النوم. في هذا السياق يقول: "إنني أنصت إلى هذه الشخصيات الخيالية، لكنها لا تعبّر عن قلقي واضطرابي. أي أنها لا تعبّر عن لاشعوري". ثم، وعلى عكس بريل، نرى أن الكاتب لا يكتب روايات للهروب من العالم، لكن من أجل ان يواجه هذا العالم. هذا الرجل يتألم كثيرًا، فإن هو أفرط في التفكير في متاعبه، وفي خساراته، لأصبح كل شيء فيه لا يطاق! فهو يريد أن ينتصر على ليله، ولذلك فليس له من خيار آخر سوى ابتكار شخصيات يتسلى بها.
ومن الصور التي تؤرق الكاتب بول أستر، الحرب العراقية التي طغت على نصه، إذ يقول إن الحرب على العراق تصيبه بغمّ كبير. أما الفكرة فقد أوحى بها إليه موت الشاب يوري، ابن صديقه الإسرائيلي المناصر لعملية السلام، دافيد غروسمان. لقد فارق يوري الحياة وهو في العشرين من عمره، العام 2006 في لبنان. هذه الحادثة، قلبته رأسًا على عقب، وكل شيء تبلور بعد هذا الحادث. وهنا، انبثقت في نصه فكرة حرب العراق.
في روايات بول أوستر الأخيرة صار الأبطال يتقاطعون أكثر فأكثر في شكل كوميديا إنسانية، مما يجعلنا نتساءل: فهل صار هذا النمط من الكتابة من انشغالات الكاتب؟ في هذا الشأن يوضح بول أوستر أن هذه الظاهرة بدأت تفرض نفسها عليه تلقائيًا، مؤكدًا في هذا السياق أنه لا يصرّ عليها بأي حال من الأحوال. شخصياته، بالتأكيد، مرتبطة بعضها ببعض بشكل من الأشكال، إذ يحس وكأنها جميعًا تعرف بعضها البعض، مثل "كين" في رواية "مدينة من زجاج"، وبيتر في رواية "ليفياتان"، أو ويللي، في رواية "تومبوكتو". كلّ هؤلاء شباب في نفس السن تقريبًا، وطلاب في جامعة كولومبيا في نيويورك. ويمثل فيلم "رحلة إلى طوكيو" للمخرج أوزو، جزءًا من التحية التي يوجهها بول أوستر للسينما، إذ يتميز الناس بالطيبة وبالقلق بشأن محيطهم. فهل الطيبون وحدهم من يشكون في طيبتهم؟ في هذا السياق يؤكد الكاتب أوستر أنه يعرف الكثير من الناس الذين يعتقدون دائمًا أنهم سيئون ولذلك فهم طيبون. وهو شخصيًا، تراوده بعض المخاوف، فابنته عمرها 21 عامًا، وهي في عمر كاتيا، وهي واحدة من شخصيات روايته الأخيرة. لكن يقول الكاتب أنه على الرغم من أن بلدي (أميركا) يمرّ بحالة من الارتباك الكامل، فهو متفائل وسعيد بقدوم الرئيس باراك أوباما إلى السلطة، إذ يعتبر أن انتخابه من أطيب الأمور التي فعلها الأميركيون. لأن "العالم، كما، قال روز هيوتورن، غريب، لكنه مستمر في الدوران". لأنه عالم غريب!
وإذا كان كل شيء ممكن في أدب بول بوستر، فإن ما هو غير ممكن في حياته هو الكتابة بلغة أخرى غير الأميركية. على الرغم من أنه مترجم للآداب الفرنسية، وعلى الرغم من أن ما يرويه في رواياته يجرى كله خارج نيويورك.
-(عن لوفيغارو)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الغد ، 31 يناير 2009م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق