الأحد، 10 يوليو 2016

جاك لندن.. من الجوع والفاقه والتشرد الى «العقب الحديدية»

ترجمة: زياد الملا

تاريخ النشر: 21 ابريل 2009

تبين أن حياة السفن أقسى بكثير من مدرسة الشارع والمعمل إذ اضطر جاك الى قبضة اليد كي ينتزع الاحترام والمكان اللائق بين أفراد الطاقم ويتذكر الكاتب كيف أمكنه اجتياز امتحان الرجولة بنجاح. 

ولد جاك لندن( 1876 ـ 1916) في سان فرنسيسكو كان زوج أمه وليم تشيني ايرلندياً غريباً في أطواره بعض الشيء منجماً وأديباً وفي الآن ذاته فاشلاً وقد تحمل جاك الفتى جميع أعباء حياته الصعبة ويتذكر جاك سنوات الطفولة التي قضاها في اوكلاند إحدى ضواحي سان فرنسيسكو وكتب يقول: (وأنا في العاشرة من العمر صرت أبيع الجرائد في الشوارع وكنت أعطي كل النقود للأسرة وفي كل مرة أذهب فيها الى المدرسة كنت أخجل من طاقيتي ولباسي وحذائي المهترئ كنت أنهض في الثالثة صباحاً كي أستلم الجرائد وبعد بيعها أتوجه مباشرة الى المدرسة وبعد المدرسة أبيع جرائد المساء....) ‏
بعد فترة من الزمن اشتغل عاملاً في معمل كونسروة إذ كان يعمل ثماني عشرة ساعة متواصلة هذه هي مدرسة الحياة التي اجتازها في سن الفتوة. جذبت رومانسية حياة الميناء الشاب اليافع وسرعان مادخل في عداد الباحثين عن المغامرات الذين لم يكتفوا بصيد المحارات بل تمادوا في أعمال مشبوهة ورأى جاك أن مثل هذه الحياة (متوحشة وحرة).

بيد أن نشاط (قراصنة المحار) لم يشبع رغبات الفتى الذي أخذ يحلم بالمغامرة في العالم بأسره وحيث لايتعاركون من أجل قميص عتيق أو سفينة مسروقة بل لأجل غايات سامية. ‏
يبدو أن الخبرة المكتسبة في هذه الفترة أوحت للفتى فكرة التثقيف الذاتي فوجد طريقه الى المكتبة وهكذا أرسل أول قصة له بعنوان (إعصار عند شواطئ اليابان) الى الجريدة ونشرت فعلاً في 12 تشرين الثاني عام 1893. ‏
ولكن لم يستطع جاك لندن العيش حياة العمل الأدبي بعد، وأما النقود فكان بحاجة إليها له ولأسرته وفي عام 1894 صار يعمل وقاداً في محطة كهربائية وسرعان مادخل في صفوف العاطلين عن العمل وأخيراً صار جندياً في (جيش كيللي). ‏
هذه تسمية الحشد الهائل من العاطلين الذي انطلق في مسيرة الى واشنطن كي يستحصل الخبز والعدالة. ‏
مثله مثل الكثيرين من (جيش كيللي) اعتقلوا لندن وحبسوه في السجن بتهمة التشرد ورأى الفتى كيف أنه هو نفسه كتب( المهاوي المرعبة للإذلال البشري) ووصف ملحمة التشرد في وقت لاحق في مجموعته القصصية «الطريق » (عام 1910) عندما خرج من السجن عام 1895 اقترب من صفوف حزب العمال الاشتراكي وبدأ نشاطه كداعية وبالذات بعد المسيرة الى واشنطن وكل ماعايشه شعر لندن نهائياً وجدياً بلقبه ـ كاتب. وكان عام 1896 مفعماً بالنشاط الكتابي. وحسب اعترافه ساعة في اليوم الواحد في مختلف الأجناس الأدبية انتسب الى الجامعة ولكن سرعان ماتركها بسبب العوز المادي. واضطر لندن الى العمل في مغسل بخاري. ‏
ليس من الصعب إدراك مدى معاناة «لندن» بسبب الفقر المدقع والمزمن والاحساس بالتبعية الشاقة للأجور الحقيقية بحيث كان عليه أن يتوقف عن القراءة وعن أي نشاط كتابي، وسقط الشاب في المأزق إذ كانت بانتظاره العبودية التي لاتطاق. ‏
ولهذا السبب انجذب جاك لندن مثله مثل الكثيرين غيره ومن طينته الى كلوندايك (منطقة غنية بالذهب في شمال غرب كندا في حوض نهر كوندايك تم اكتشافها في عام 1897 وانتشرت«حمى الذهب» في بداية العشرينيات ومركزها المأهول بالسكان (مدينة دوسون) لقد وهبته كلوندايك ذخيرة هائلة من تبصر الحياة ودفعته الى الاصطدام بكفاح الإنسان البطولي ضد الطبيعة الشمالية العديمة الرحمة والشفقة وبمشاهد من الصراع الطماع والشره على الذهب وقد انفتح جوهر المجتمع البرجوازي لزمانه أمام الكاتب في أوكار ألاسكا المبنية من جذوع الشجر في الأجزاء الثلجية الشاسعة والشعاب الصخرية وبعد أن شفي لندن من داء الاسقربوط عاد الى الوطن الى العائلة المتيتمة (توفي زوج الأم) فأخذ بخطوات مثابرة يعود الى النشاط الكتابي الإبداعي وفي عام 1899 استطاع فعلاً انتزاع مكان لنفسه في المجلات والجرائد الأمريكية وقد شدت قصصه من حياة الشمال جمهور القراء الذي أحبها وانتهت سنوات البحث المريرة عن العمل. وصار لندن يكسب لقمة العيش لذاته ولأسرته بفضل الجهد الأدبي الذي بذله. ‏
شكلت تسعينيات القرن التاسع عشر الفترة الأولى من طريق لندن الإبداعي عندما انطلق الى الفن الكبير حيث أبدع قصصاً عن ألاسكا وقد تم جمعها في فترة لاحقة في مجموعات قصصية منها: «ابن الذئب» (1900) «وإله آبائه» (1901) و«أطفال الصقيع» (1902) و«وفاء الرجال» (1904) ويتجلى في هذه القصص الانشداد نحو موضوعات البطولة والتي تدخل في إطار سمات الكاتب بشكل عام. ‏
ففي تلك الفترة كان الشمال بالنسبة الى لندن وقبل كل شيء تعبيراً عن القوة الجسدية والروحية التي يستحيل تحطيمها وبالطبع تخص الفرد الجبار الذي يفرض ذاته في الكفاح العنيد مع قوى الطبيعة ومع البشر على حد سواء بيد أن حماسة قصص لندن الشمالية الرائعة والمذهلة بلوحات المناظر الطبيعية الضخمة والطبائع المتحدة والكاملة والظروف الحادة لاتكمن في الصراع على الذهب بل في الكفاح من أجل النفوس البشرية: الإنسان الذي لايجمد ضميره حتى عندما يشير الترمومتر الى الخمسين حتى الصفر هذا هو بطل قصص لندن المبكرة والأصيلة وتسمو قوانين الصداقة والحب الصافي ونكران الذات على ضوضاء الثراء الإجرامية والتي غالباً مايكتب عنها بروح من النفور والاشمئزاز ولكن يستحيل عدم تسجيل تناقضات الشاب لندن الحادة أيضاً، فإذا كانت الغريزة الاجتماعية السديدة للإنسان الشغيل قد قادت الكاتب الى الأمام إلى شخصيات رائعة من البشر البسطاء والشرفاء القادرين على القيام بمأثرة حقيقية بصمت إلا أنها دفعت بالكاتب وبالواقع البرجوازي الى اتجاه آخر، وبرز التأثير القوي للفلسفة البرجوازية التي تشرب بها وهو يجتاز طريقاً صعباً من الروح العصامية وينتقل من شخصية الى أخرى من سبنسر الى نيتشه. ‏
بعد سبنسر صار لندن الشاب يميل الى اعتبار الطبقة العاملة (قاع) البشرية حيث يصطدم جميع (الضعفاء) بحالة ( الانتقاء الطبيعي) و(الأقوياء) الذين يخترقون طريق الثروة والسلطة هذا وتعززت استدلالات فريدريك نيتشه العقلية المشؤومة بصدد (عرق الأرباب) و(عرق العبيد) وحملاته الدغمائية على الديمقراطية البرجوازية التي بدت ليبرالية للغاية بالنسبة إليه تعززت بدغمائية سبنسر وكل هذا ساعد على أن تنحو أمزجة لندن الشاب وفي حالات غير قليلة في الطريق الباطل والملفق وقد بدا للشاب أن العالم عبارة عن عراك رهيب ومستديم بين الأقوياء والضعفاء وحيث النصر دوما وبالضرورة الى جانب الأقوياء ينبغي أن تكون قوياً فحسب كي تنجز احتواء الآخرين أي الأضعف وهذا هو قدرهم وكان تأثير ر.كيبلينغ قد أسهم أيضاً في التولع بمثل هذه الأفكار فالشاب لندن لم يكتف بتقدير مهارة كيبلينغ وموهبته بل انجّر أيضاً الى التأثر بنظراته ويمكن الإصغاء الى أصداء مثل هذه النظرات في قصص لندن مثل«ابن الذئب» بطلها أمريكي لايهاب شيئاً يسحب فتاة هندية حمراء من كوخ آبائها ويقنع الهنود الحمر بأنه كائن «أسمى وأعلى » من البشر وليس عبثاً أن يطلق على الهنود الحمر تسمية« قبيلة الغراب الأسحم» وبالطبع الغراب صياد جريء وكاسر إلا أنه لن يتجاسر على مصارعة الذئب، هذا وتتكشف في رمزية التسميات التي تقلد الأسماء والمفاهيم الهندية خرافات ورواسب لندن الشاب وتدوي أفكار سبنسر ونيتشه بصورة أكثر حدة في رواية لندن المبكرة «ابنة الثلوج» (1912). ‏
تعكس قصص الشمال تطور نظرات لندن التدرجي أيضاً وتتنامى فيها أهمية الموضوع الهندي ولكن في عام 1901 تقريباً يحدث انعطاف جديد وهام للغاية في ابداع لندن ومن بين أولى كتاباته مقالة عن « فوما غوردييف» (1901 ) برنامج «الواقعية الفعالة» التي تخدم الأهداف الاجتماعية السامية. في بداية العشرينيات اقترب لندن من الحركة العمالية المنظمة وصار من أنصار يوجين ديبس زعيم العمال الأمريكيين. ‏
وفي أحد الاجتماعات الاشتراكية الجماهيرية تعرف جاك لندن بامرأة اسمها آنا سترونسكايا التي كانت أسرتها قد غادرت روسيا القيصرية وقد ساعدت لندن على محبة الأدب الروسي الذي انجذب إليه قبل هذا التاريخ. ‏
في تموز عام 1902 اقترحت إحدى الجرائد البرجوازية على لندن السفر كمراسل لها الى جنوب افريقيا حيث انتهت الحرب الأنكلوبويريه وافق لندن إلا أنه تأخر إذ استسلم البوير لغاية هذا الوقت وعند ذاك مكث جاك في لندن لحضور مراسم تتويج ادوارد السابع. ‏
ما إن حل في انكلترا حتى أخذ يهتم بوضع الجماهير الشعبية الانكليزية وحياة القاع اللندني، استأجر غرفة في الحي العمالي في العاصمة وعاش عدة أسابيع حياة عامل عادي وتقاسم الخبز والمبيت وكل قساوات الحياة مع الفقراء المعدمين في الأكواخ الحقيرة وأدت مراقبته لهذه الحياة الى كتاب جديد بعنوان «بشر الهاوية» (1903). ‏
في كانون الثاني عام 1904 يتوجه لندن الى الشرق الأقصى مراسلاً حيث اشتعلت هناك الحرب الروسية اليابانية أقام في كوريا وعاد منها أكثر راديكالية من السابق. ‏
أثرت الثورة الروسية الأولى عام 1905 تأثيراً قوياً للغاية في الكاتب إذ درس تجربتها بكل عمق وحفزته على الكفاح أكثر فأكثر في وطنه أمريكا. ‏
بعد (ابنة الثلوج) كتب جاك لندن «الذئب البحري» (1904 ) وأثار اهتمام القارئ كي يرى جوهر الرواية الفكري خلف السمات الظاهرية للرومانسية المغامرة وهي النضال ضد البؤس المدقع والنقد الملتهب للنزعة الفردية العسكرية فالكابتن وولف لارسين إنسان قوي: في المفهوم النيتشوي لهذه الكلمة ينهزم هزيمة نكراء عميقة وأخلاقية ويدفع حياته ثمناًَ لتصرفاته. كما كشف الكاتب في الرواية، الطابع الد يماغوجي لنقد الرأسمالية النيتشوي. ‏
كانت أعوام 1906 ـ 1909 هي الفترة الأكثر أهمية وسطوعاً في تطور لندن الإبداعي. ففي هذه السنوات أبدع «العقب الحديدية» (1908) ومجموعة مقالات بعنوان «الثورة» (1910) و«مارتن ايدن» (1909). ‏
الشيء الرئيسي في «العقب الحديدية» هو رومانسية الكفاح الثوري ضد الرأسمالي. بطل جاك لندن الجديد هو الثوري المحترف قائد العمال الأمريكيين. وتتجسد فيه وبقوة هائلة الرومانسية الثورية التي يتنفسها الكتاب. ‏
يرتبط المضمون السياسي الثري للعقب الحديدية وحماس أسلوب «العقب الحديدية» ارتباطا وثيقاً بمضمون وأسلوب كتابات لندن الاجتماعية. ‏
تجلت الجوانب الثورية الرومانسية لعلم الجمالي الواقعي عند لندن، في «العقب الحديدية» على وجه الخصوص. وعندما تدرس هذه الرواية كموسوعة متميزة لنضال الطبقة العاملة ومعروضة في صيغة فنية فإنك ترى بسطوع أن بعض المشاهد مستقاة من تاريخ كومونة باريس وأخرى تذكرنا بمعارك ثمانينيات ـ تسعينيات القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، وغيرها مكتوبة تحت انطباع معارك المتاريس في بريسنا... ‏
«العقب الحديدية» رواية طوباوية سياسية ولوحة ملحمية هائلة حيث تتحرك على خلفية الأحداث التراجيدية ذات الأهمية العالمية شخوص مرسومة بصورة اصطلاحية مثل الخطوط المنقطة. وهذا مفهوم وطبيعي في بناء رواية طوباوية مثلها. ‏
شهرة جاك لندن المتمرد صارت سبباً لتسميمه عن سابق إصرار في عام 1906 ولكنه شفي من ذلك. ‏
من رواياته الأخيرة «قلوب الثلاثة» التي صدرت بعد وفاته كانت بمثابة غروب الكاتب الكبير. فهو لم يستطع أن يقول لذاته، مثل غوركي بأنه «يعرف ولأجل أية غاية ينبغي العيش» ضاع الهدف ولم يعد القارئ يجد في أعمال لندن المتأخرة تلك الواقعية الفعالة والاندماج المثير الذي لمسناه في «العقب الحديدية» و«مارتين ايدن» وصرنا نلحظ في أعماله الأخيرة تناقضات كثيرة وحادة. لقد وقف ضد الحروب الامبريالية وتضامن مع الثورات المكسيكية إلا أنه تعاطف مع وجود المتدخلين الأمريكان في بلد غريب بينما اتخذ جون ريد موقفاً آخر. ‏
في عام 1916 قطع علاقته مع الحزب الاشتراكي متهماً قادته بالانتهازية. وتهادن مع تلك القوى التي كان ضدها سابقاً وعلى مايبدو أنه رأى في أزمة الحزب هزيمته الشخصية إلا أنه خشي الاعتراف بذلك. ‏
عانى من أمراض صعبة الشفاء وفي صباح 21 تشرين الثاني عام 1916 وجدوه في حالة ميؤوس منها فهو إما أنه تناول جرعة كبيرة من المسكنات أو لجأ الى الانتحار المقنع. ‏
أنا مرهق بشكل مميت ـ هذه هي الكلمات التي سمعها منه الكثيرون في خريف عام 1916 وفارق الحياة بعد أن عاش أربعين عاماً لاأكثر. ‏
ــــــــــــــــــ
المصدر: تشرين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق