الأحد، 10 يوليو 2016

كتاب الهايكو

ترجمة وإعداد: لينا شدود / دمشق


طوال اليوم أرتدي
قبعة لم تكن ‏
على رأسي ‏

سلحفاة تُبحرُ ‏
على امتداد جذع شجرة، ‏
الرّأس إلى الأعلى ‏

‏ 






ولد جاك كيرواك عام 1922 في «لويل ماساتشوستس» هو الأصغر بين ثلاثة إخوة لعائلة فرنسية أميركية، انتسب للمدارس المحلية الكاثوليكية، ثم العامة، وفاز بمنحة كرة القدم لصالح جامعة كولومبيا في نيويورك سيتي حيث التقى «ألن غينسبرغ». ظهرت روايته الأولى «البلدة والمدينة» عام 1950. نَشْرْ روايته «على الطريق» -لأول مرة 1957- جعله من أكثر الكتاب شهرةً في ذلك الحين. نُشِرَ له لاحقاً عدة كتب من بينها «المتخفّون» و«Big Sur» ثم «دارما المشرّدين». ‏

من بين كتب كيرواك الشعرية «بلوز مكسيكو سيتي»، «قصائد متفرقة»، «قصائد من كل المقاسات»، «الجنة وقصائد أخرى»، و«كتاب البلوز». توفي كيرواك في سانت بيتسبرغ في فلوريدا عام 1969 وهو في السابعة والأربعين. ‏

يُهدي كيرواك «كتاب الهايكو» إلى ذكرى «سيمور كريم» أول من اطلع على هايكو كيرواك الغريب الأطوار. ‏

بطريقة ما حاول كيرواك أن يبتدع الهايكو الأميركي، بالثلاثية البسيطة ذات الإيقاع، وليس البوب الأميركي. اشتُهر أكثر كروائي بعد رواية «على الطريق» كونه ملهم «جيل البِيتْ «الذي مثّله بقصة هبيين ساخطين بأسلوب صاخب، وغير مُنقّحْ. ‏

قرّاء نثر كيرواك المهتمون به كانوا واعين لأسلوبه العاطفي الممزّق المُلتفّ ذي الإيقاع، أسلوبه الذي انتُقِدَ لكونه يُبجِّل ويتَمثَّل التّعابير الموزونة للشعر. ‏

يعتبر كيرواك أنّ الهايكو الذي كتبه «باشو»، من أبسط و أجمل ما كُتِب. ‏

يوم بسعادة رائقة، ‏
جبل فوجي محجوب ‏
بمطرٍ سديمي ‏

باشو(1644-1694) ‏

من وحيها كتب كيرواك: ‏

الطيور تغني ‏
في الظلام ‏
فجرٌ مطير. ‏

بين عامي (1956-1966) دوّن مئات المقاطع من الهايكو على شكل مسودات ملفوفة لِتُحشَرْ في جيب قميصه، حيث يمكنه حملها إلى كل الأماكن. ‏

مقاطع طازجة عفوية، ومن ثلاثة أسطر. ‏

منها اختار ما ضمَّه في «كتاب الهايكو»، بعد أن حثَّ صديقه الفرنسي «لورنس فيرلينغيتي» على نشره (1961)، مع خمسة أعمال أخرى ما بين عامي (1961-1965). أما تبقّى من أعماله فقد دُسَّ في رواياته، ورسائله، أو نُشِر في مجلاتٍ أدبية صغيرة. ‏
اخْتيرت ستة وعشرون منها للنشرْ عام (1964) في «أنطولوجيا القصيدة الأميركية»، من قبَل مُتَرجمه الإيطالي «فرناندا بيفانو» في أضواءالمدينة كقصائد متفرِّقة. ‏

لم يكن كيرواك أول شاعر أميركي جرَّب الهايكو. كثيرون قبله ألفوا قصائد هايكو مُلْهِمة، مثل عزراباوند، ويليام كارلوس، إيمي لويل، ووالس ستيفنز. ‏
لاحقاً التفت كيرواك لدراسة واختبار البوذية في الفترة التي تَلَتْ كتابته لرواية «على الطريق»، ‏

أي قبل الشهرة التي غيّرتْ كل شيء. ‏

بعد إنهاء كتابه «المتخفّون» الذي ألّفه على أثر فشل عاطفي، انهمك في دراسة الزن وفي كتاب «حياة بوذا» لـ «أزفاغوشا»، وتزايد شغفه إلى أن وصل إلى تصنيفات هائلة لأشياء روحية، إضافة للصلوات والتأمل. ‏
في «نورث كارولينا» حيث كان يعيش مع شقيقته، عمِل على نَصين آخرين لبوذا، أولهما «استيقظ»، وقد ضمّنه رؤيته الخاصّة لبوذا، والثاني «يُخبِرنا بوذا»، وفيه أعمال تُرجِمت في أديرة التيبت. ‏
وصل الهايكو إلى شعراء الساحل الغربي عن طريق «غاري سيندر» بوحي من مقالات «سوزوكي» عن بوذية الزن عام «1927». ‏
أمضى سيندر بداية الخمسينيات في زيارة اليابان دارساً ومُخْتَبراً بوذية الزن. أيضاً كلٌ من كيرواك، غينسبرغ، وسيندر أمضوا الكثير من الوقت في «بِرْكلي» عام (1955) في تحليل ترجمات «بليث» للهايكو وملاحظاته الثّرية عن الأعمال اليابانية، مما مهّد لمرحلة قادمة من الهايكو الأميركي بكسر الأرضية الراهنة. ‏

اعتبر غينسبرغ أن كيرواك هو سيد الهايكو، إذ كان يتكلم و يفكر كما يكتب. قصائده البعيدة عن الثبات بل القادرة على إذابة ماهية الموضوع، والطبيعة السريعة للزوال، ووجودها المتلاشي، إضافة إلى الوميض الآسر لكلمات تملك حساسية عالية تجاه الأشياء الزائلة، مع قدرته الواضحة على استحضار غواية القلق الفردي من الانزلاق في مجتمع قاسٍ وحيادي، في الأوقات التي كان الاستسلام فيها مرفوضاً. ‏

من إحدى صور كيرواك الضاجّة بحيوية وتفرد الامتداد: ‏

طواحين ‏
أوكلاهوما تلوحُ ‏
من كل الجهات 
زهرة واحدة ‏
على الجرف ‏
تُومِئ للوادي ‏

كان كيرواك في سعيٍ دائم لاحتمالات بصرية أكثر حيوية بسبب قدرته على مزج السرد العفوي بالسكيتش؛ التقنية التي اقترحها عليه «إد وايت»، صديقه في جامعة كولومبيا. ‏

الهايكو الجيد كما الرسم الجيد ‏
الهايكو عند كيرواك هو أن تُبْقي عينيك ثابتتين على الموضوع، والهايكو الأفضل يمنحه الإحساس القادم من النظر إلى رسمٍ عظيم، مثلاً لـ«فان كوخ»، بفعل قوة النظر. ‏

لقد ميّز كيرواك وببراعة التقطيع في الهايكو الياباني كمفتاح للصوت والإحساس، مع أنه لم يكن آمناً بالنسبة لما يكتبه، إذ كان يُعيد تدوير قصيدته دائماً، وهذا يدحض الرأي القائل بأن كتابته ثورية وغير منطقية. ‏

كان اكتشافه للهايكو عن طريق ترجمة «بليث» لأعمال «سوزوكي» نقطة البدء لكتاب كيرواك»دارما المشرّدين، بل ربما كان نافذته الأولى التي تنسّمَ منها نفحات الأدب الياباني، مُستخدماً الجاز التقليدي أيضاً. ‏

الفصول، الريح، الليل، الغسق، الفجر، الضباب، الطيور، الجداجد، والقمر والنجوم جميعها تناسخَتْ مع رؤاه المعاصرة إلى جانب تقنيات الهايكو التقليدية. ‏

حقق كيرواك الكثير من الغِنى والعمق، على الرغم من كل إخفاقاته في تناوله المُكتمِل للهايكو. ‏

لا جدوى لا جدوى! ‏
مطرٌ غزير يجرف كل شيء ‏
إلى البحر ‏

استخدم كيرواك أسماء الأماكن الحقيقية والمُتَخَيَلِة، وأسماء الناس، والتجريد في ذكر الأبدية واللامرئي، كما أنه استخدم «الفونا[3]» «والفلورا[4]» لاستحضار الحالة. ‏

في هاتين المقطوعتين نجح بمزج المثالية اليابانية والغربية، أي البلوز والهايكو معاً: ‏

عابراً ملعب كرة القدم، ‏
عائداً إلى منزله من العمل، ‏
رجل الأعمال الوحيد ‏

الحظيرة، تعوم ‏
في بحرِ ‏
أوراقٍ عصَفَت بها الريح ‏


تسلل الهايكو إلى نثره أيضاً، ولكن بأسلوبٍ مختلف، كما في «دارما المشرّدين» ‏

«مضَتْ العاصفة بعيداً و بسرعة كما أتت، بريق الأصيل على البحيرة أعماني، و في وقتٍ متأخر من بعد الظهر تجفُّ ممسحتي على الصخر. في وقتٍ متأخر من بعد الظهر، ظهري العاري باردٌ، لمّا وقفت أعلى العالم في حقل ثلج أحفرُ ملءَ مجرفةٍ في دلو». ‏

يترك تكرار عبارة «في وقت متأخر من بعد الظهر» نفس الصدى الذي يتعمّده كيرواك في الهايكو. ‏

نلمحُ أحياناً كيمياء لغته في نثره أيضاً، بما هو رحلة روحية، يسرد فيها وحدانيته وعزلته على شكل جسورٍ يمدّها لربط الصور التي تعبر رأسه كما الجاز. ‏

يُشكك النقاد المتشددون في أنه قدّم هايكو بالنسبة لمقاربته لقواعده. في حين أن المعاصرين قد تأثّروا بما كتبه، ولكنهم لم ينسجوا على منواله، بل اتخذوا اتجاهات أخرى أكثر قُرباً من الأصل. ‏

هل كتب كيرواك الهايكو أو السِنريو ؟ ‏

السِنريو قريبة الهايكو، تُركّز على الطبيعة الإنسانية، وعلاقاتها، وغالباً بسخرية، مُعْتَمِدةً على الخدع الشعرية، كالاستعارة، التشبيه، والتجسيد، كما هايكو كيرواك الذي يميل إلى الهزلية أكثر منه إلى الصرامة. ‏
 
في خزانة أدويتي ‏
ماتت ذبابة الشتاء ‏
بسبب العمر ‏

تبدو الشجرة ‏
ككلب ‏
ينبح على الجنّة ‏
للقمر ‏
شواربُ قطٍّ، ‏
لوهلةٍ ‏
كرسي الصيف ‏
تتحطم وحدها ‏
في العاصفة الثلجية ‏

في النهاية كان قرار كيرواك بأن يُسمّي الهايكو بالبوب تعبيراً عن رفضه لتقاليد الهايكو. ‏

على الكرسي ‏
قررتُ أن أدعوَ الهايكو ‏
بِاسمِ البوب ‏

حرَصَ كيرواك على استخدام الزمن الحاضر لصور مادّية، وبكثير من العفوية في جمل قصيرة، وبمحاذاة بعضها ليترك وميضاً في العقل وبحركة مُفاجِئة ومرحة أحياناً. و الأهم من كل هذا أنّ الهايكو الذي كتبه كيرواك كان بسيطاً، وحرّاً من كل خدع الشعر بغيةَ خلق صورٍ صغيرة منعشة ورشيقة، كما الأوبرا الرّعوية لفيفالدي.
ـــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق