آلي حميدي
نشرت في 27 يونيو 2015
الكاتب تشاك بولانيك يتصف أسلوب كتابته بالمينيماليزم المكثفة بشكل واضح في حوار شخصيات رواياته التي تعرف غالبيتها بالوحدة.
الكاتب والمؤلف الأميركي تشاك بولانيك يؤكد دوما على أن التراكم اللغوي الذي يمتلكه، عبارة عن آلية مركبة من الإسقاطات لإحداث تأثير من الثَّقافة العالية من خلال الثَّقافة الهابطة. يقول عن نفسه بأنه “مفتونٌ بالخيال الهابط الذي يُولِّد ردَّة فعلٍ بدنيَّة، يثير اشمئزاز القارئ أو جوعه أو شهيَّته”.
ولد بولانيك في العام 1962 في مدينة باسكو التابعة لولاية واشنطن. التفكك الأسري الذي عاناه جراء طلاق والديه، وذاكرته المشوّهة عن حادثة قتلهما من قبل زوج صاحبة أبيه السابق، والفوضى في طفولته، كل هذا جعله ينظر إلى الأمور بزاوية مختلفة عن الرؤى الطبيعية. ففكرة العنف والتأقلم معها جعلت لديه إحساسا مرافقاً له أن الكوارث قد تحل في أيّ لحظة.
عمل ميكانيكاً لدى تخرجه من الجامعة، في فترات متقطعة في مصنع للشاحنات، ومتطوعاً في المستشفيات خلال مرحلة من حياته، مشرفا على دار عجزة، ولوقت قصير في مجال الصحافة، وعندما وصل إلى سن الثلاثين قرر إنهاء مهزلة الأعمال الفارغة والبحث عن مهارة تعبّر عنه، فوجد نفسه في الكتابة، رغم يقينه باحتمال فشله وعدم تمكنه من كتابة جملة جيدة واحدة، لكن رغم ذلك تخلى عن النموذج الأميركي المصطنع الذي يوصي بالعمل كثيراً لساعاتِ طويلة، وحقق النجاح بهذا التخلي ونشر عددا من الروايات، أهمها “نادي القتال” الذي تحول إلى فيلم سينمائي، “الناجي الأخير”، “أرق”، “وحوش غير مرئية”، “خنق” و”مفكرة”، وغيرها.
المينيماليزم المكثف
بولانيك والذي يعتبر من أهم روائيي القرن الحادي والعشرين خصوصاً في الوسط الأميركي، بما يتصف أسلوب كتابته بالمينيماليزم أو بالتقليلية إن دق التعبير، المكثفة بشكل واضح في حوار الشخصيات الموجودة في رواياته التي تتصف غالبيتها بالوحدة والبحث عن سبل للتواصل مع الآخرين.
كما في توصيفه لبعض الحالات والأفكار الاستثنائية في كتاباته مثل نص “أحشاء” الذي يعتبر من أقصر النصوص التي كتبها، والمصنف في خانة القصة القصيرة جداً، يقوم نص ” أحشاء” على أسلوب المينيماليزم، الانتقال السريع من البساطة إلى عمق الأحداث بإسقاط صادم، دون الخوض في حياة وهموم الأشخاص اليومية المتكررة.
الغثيان الحالة المهيمنة على القارئ لدى دخوله عالم بولانيك، الغثيان والرغبة في التقيؤ تصل إلى أعلى درجاتها في نص “أحشاء”. أن تكون الكتابة محمّلة بهذا الكم من التأثير تدل على عبقرية وموهبة لا يستطيع العديد من الروائيين الوصول إليها بسهولة. وسط العديد من الروايات المحملة بالمثاليات والأخلاق العالية والرومانسيات الخياليّة.
علّق تشاك على تأثير قصته القصيرة هذه بقوله “قرأت أحشاء للمرة الأولى في حدثٍ عام في جولة الترويج لروايتي “يوميات”. كان هذا في مكتبةٍ مزدحمة في بورتلاند، أوريغون، وكان ثمَّة طاقم تصوير هولندي هناك يقوم بعمل فيلم وثائقي، وامتلأت المكتبة يومها بأكثر من ثمانمئة شخص، ما تجاوز السعة التقليدية التي ينص عليها قانون الحرائق.
تحتاج قراءة “أحشاء” إلى تركيز كامل، فلا تستطيع رفع رأسك عن الأوراق كثيرًا لتنظر حولك، لكن في المرات التي رفعت فيها رأسي بدت وجوه محتلِّي الصف الأول مكفهرَّة إلى حدٍّ ما، ثم حان دور الأسئلة والإجابات، وبعده توقيع الكتاب. كنت قد وقَّعت النسخة الأخيرة من الكتاب عندما أخبرني أحد العاملين بالمكتبة أن اثنين فقدا وعيهما، شابَّان، كلاهما سقط مغشيًّا عليه خلال قراءة النص، مرتطمًا بالأرضية الخرسانية، وإن كانا بخير الآن، لكن كليهما لا يذكر ما حدث بين الوقوف والإصغاء ثم الإفاقة بين أقدام المحيطين.
نادي القتال
في روايته الشهيرة التي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان “نادي القتال” حقق أعلى الإيرادات، وساهم في شهرته بشكل كبيرة. قدم من خلال شخصية “تايلر” -بطل الرواية- حالة الضياع الفردية، الأرق والاكتئاب المزمن، وتأثيرها على الذات، المسببة بردة فعل للقيام بدعوة تجاه كل ما هو مستهلك عند الطبقة الوسطى، الطبقة التي تسعى بكامل جهدها لإيجاد معنى لحياتها للوصول إلى مستوى وهمي أعلى.
“نادي القتال” رواية تدعو إلى احتقار الحضارة والثقافة وزيف المجتمع، الزيف الذي أدى إلى نشوء الأحقاد الطبقية وانتشار البرجوازية وحصول هوّة بين طبقات المجتمع.
الرواية تنحاز للطبقة البروليتارية، للمهمّشين، العاديين الذين يقضون حياتهم في أعمال تستعبدهم، تستنزف طاقاتهم، وتقضي على شغفهم، بحجة الحضارة والتضحية والقانون وكل هذا الهراء بحسب بولانيك، المفاهيم التي لا تطبق إلا لمصالح من هم فوق، الطبقة المستبدة. أما إحدى نظريات نجاح روايته برأيه، فتقوم على أن القصة قدمت للناس نظاماً مكونا من مجموعة أشخاص لديهم نفس الاهتمامات وذات المعاناة المشتركة.
ينوّه بولانيك إلى الفيلم المقتبس عن روايته بالقول “كلُّ ما تبقى هو كتاب، والآن فيلم. فيلم طريف مثير في الحقيقة، جامح مليء بالأفكار المخيفة الخطرة، هو بالنسبة إلى الآخرين رحلة مسلية، أما بالنسبة إليّ وأصدقائي فدفتر قصاصات حافل بالذكريات الحميمة، مُفكِّرة، دليل رائع مُطمئِن على أننا بكلِّ غضبنا وإحباطاتنا ومعاناتنا وحسرتنا قد ارتبطنا ببعضنا البعض، والآن بالعالم، كل ما تبقى هو دليل على أننا نستطيع خلق الواقع.
الناجي الأخير
في روايته “الناجي الأخير” يكثف بولانيك في المحاور الأولى من الرواية مونولوجا نفسيا مجسدا بصوت مرتفع مرقما بشكل غير نمطي. تبدأ من القسم 47 في الصفحة 296 وتنتهي الرواية في القسم 1 من الصفحة الأولى، أي تدور الأحداث بأرقام معكوسة من الخلف إلى الأمام، فلاش باك لغوي. هذا الفعل العكسي ليرمز إلى أن الخلاص يكمن في البداية، في الرجوع إلى نقطة الخلق، البياض الأول، بطريقة سوداوية متهكمة.
الرواية صدرت بالعربية مؤخرا عن دار التنوير للنشر، للمترجم المصري هشام فهمي الذي ترجم عدداً من الروايات إلى العربية، منها “فرانكنشتاين” لماري شلي، و”الهوبيت” لتولكن صاحب “سيد الخواتم”، كما صدر له هذا العام ترجمة أخرى لتشاك بولانيك هي “أغنية المهد”، ويعمل حاليًا على ترجمة سلسلة “أغنية الجليد والنار” لجورج ر. ر. مارتن.
يركز السرد بأسلوب حاد وعدمي حول” تندر برانسن” ذي النشأة الدينية من العقيدة الكِريدِشِيَّة، طائفة الانتحار الجماعي المذهب الذي يبجل عبادة الموت بطريقة ميلودرامية، لها طقوس ومعتقدات معينة تعطى لفئة محدودة وتبقى فيما بينها بشكل سري.
برانسن شخصية ذات تعقيدات واضطرابات نفسية شائكة لا تتضح أسبابها إلا بعد قطع شوط من الرواية، يظهر في الصفحات الأولى منها ، تعامله مع مكالمات هاتفية من غرباء لم يلتق بهم من قبل، لكنه يساعدهم على الخلاص من وجهة نظره، بتحريضهم على الانتحار بجملة مكررة “اقتل نفسك”.
شخصية مثقلة بالمضمون الراسخ، محاطة بهالة نفسية من التوازن الساكن، معلقة في طائرة متحركة على وشك السقوط والاحتراق، بعد أن اختطفها وأنزل ركابها وقبطانها وتولى بعدها وحيدا قمرة القيادة، في سباق زمني بين سرد تفاصيل حياته للصندوق الأسود خلال عمله في تدبير منازل الأثرياء، كإزالة بقع الدم عن الفراء الأصلي، أو كيفية تلميع مفاتيح البيانو باستخدام بودرة الحليب، أو كيفية إصلاح ثقوب الطعنات في ثياب النوم والقبعات، والسيطرة على فكرة عدم الانهيار قبل نفاد الوقود والموت في منتصف السرد.
يتعامل بولانيك مع الدين كفكرة ووسيلة يتلاعب بها الأشخاص المتمكنون في السلطة، وإسقاطها على شخصيات هشّة، وتلقينهم أدوارهم دون حرية الاختيار، ذلك عن طريق الدعاية أو التسويق أو عن طريق الإرهاب العقلي والجسدي منذ الصغر.
لم يبعتد في بعض فصول الرواية عن أسلوب روايته المشهورة “نادي القتال” خصوصاً في تركيبة الشخصيّة النسائيّة “فرتيليتي” المرأة المتنبئة بحصول الكوارث في أحلامها قبل وقوعها، ذات مزاجية متقلبة، المشابهة في بعض تصرفاتها لشخصية “مارلا سينجر” في الجنون واللامبالاة، وتطويع نفس العناصر بطريقة السرد القصيرة والمكثفة، وإسقاطها في الروايتين بذات الموقع بين السرقة وتنظيف المنزل بالمواد السامة والعناية بالورود على المقابر وتفاصيل صنع الصابون من دهون مسروقة من عمليات تنحيف النساء الثريات وإعادة بيعها بأعلى أسعارها للأثرياء أنفسهم، إعادة تدوير تهكميّة.
عملت رواية “الناجي الأخير” على عنصر الانتقال المفاجئ في منتصفها، من التغيير في يوميات التندر المملّة المليئة بالواجبات في عمله كخادم، إلى نموذج يمثل آخر من تبقى من طائفته الانتحارية، تتسابق على استحواذه الشركات ووكلاء الأعمال في محاولة لصناعة نجم مشهور من لا شيء، طريقة لبيع الوهم وقبض ثمن كل ما ينطقه، صفقة مربحة من الكتب والرسائل وكتب الأدعية التي ستباع بآلاف النسخ بسبب قصته، وتأليف كتاب باسمه تحت عنوان “الأدعية الأكثر تداولاً”، منها: “دعاء الانتظار في إشارة المرور”، “دعاء فقدان الوزن”، “دعاء تخفيض ضوضاء القطارات”، “دعاء إسكات أجهزة إنذار السيارات”، “دعاء إسكات الكلاب النابحة”، أدعية بالدولارات بلا نهاية. حسب الرغبة. تبسيط صغير عن هوس الرمز وتقديسه، عن كيفية صناعته وترويجه، عن الشهرة، وفقدان الوجود، عن الحياة، والموت.
ما يميّز روايات بولانيك، المنحنيات الكثيرة المتحركة بكارثية، مسببة التشوش والرغبة في المتابعة والابتعاد بذات اللحظة. تعكس كتاباته رغبته الواضحة في الخروج عن التسلسل الكلاسيكي للرواية كما هو شائع. تبدأ الفصول بحدث لا تستطيع إيجاد بدايته، ويراودك الشك بأنك قد فوتّ جملة أثناء القراءة، ثم تصاب بإدمان التوغل في تتبع السرد أكثر، لتكتمل الصورة بشكل أوضح مع التعمق في النص، وكأنه يريد إصابة القارئ بالإرباك، ثم إعطائه حرية إكمال ما هو ناقص باستخدام أفكاره الخاصة، محفزاً المخيّلة بشكل مستفز وسط آرائه الفوضوية، فلا يمكن للقارئ أن يحدد موقفا وسطيا من الرواية، إما أن يقع في فخ الإدمان المفرط أو أن يبغض ما يقرأ بشكل منفّر، فالتطرف أسلوب مهيمن لدى بولانيك.
ــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: العرب اللندنية، 27 يونيو 2015، العدد 9961.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق