أكرم قطريب
بعد أن تُرجمت إلى عدد من اللغات العالمية وحصدت جوائز عالمية مهمة صدرت الترجمة العربية لرواية «كندا» للروائي الأميركي ريتشارد فورد بترجمة للشاعر السوري أسامة إسبر عن دار «ورق « -دبي. هذه الرواية التي تعيد إلى القص سحره، وتعمق العلاقة بين القارىء والنص من خلال ما يمكن أن نسميه التشويق الكشفي. فالقارئ يتابع خيط الأحداث منذ عملية سطو والدي ديل بارسونز على مصرف من أجل تحسين حياتهما إلى اعتقالهما وهرب أخت ديل وتهريبه إلى كندا «مقاطعة ساسكاتشيوان»، بمساعدة من صديقة للأم التي رتبت المسألة، قرب الحدود الأميركية، حيث يتحول ديل إلى أداة موظفة لدى شخص أميركي فار ومطلوب للعدالة بسبب قيامه بتفجير إرهابي داخل أميركا ذهبت ضحيته شخصية نقابية مهمة.
لكن القصة مرويّة عبر الغوص في أعماق الشخصيات والقراءة الدقيقة لعوالمها الداخلية، فالراوي، الذي هو ضحية هذه الجرائم، يسلط الضوء على علاقته مع والديه، ويروي كل شيء بعد مرور زمن طويل على الحدث، كما لو أنه في حاجة إلى هذه المسافة لكي يقدم لنا رؤية ناضجة للحدث، ولكي يروي قصة مكتملة ومحكمة. لكنها قصة مكتوبة بلغة قال النقاد الأميركيون إن ما من أحد في الأدب الأميركي المعاصر يضاهي ريتشارد فورد في استخدامها. ونشعر بحيوية هذه اللغة وجماليتها في النص العربي المترجم أيضاً، وسيكتشف قارئ الرواية أن فورد قادر على أن يتجاوز الحدود المحلية لقصته وأن يمتع أذواقاً من ثقافات مختلفة.
«كندا» الكتاب الأول الذي يترجم إلى العربية، وربما يكون مدخلاً للتعرف على بعض جوانب ما يسمّى تيار الواقعية القذرة في الأدب الأميركي. تتحرك قصة عائلة بارسونز في سياق التقلبات الاقتصادية الأميركية ولا ينسى الروائي التطرق الى حروب أميركا الخارجية وقصف طائراتها، ويتحدث عن الفساد داخل المؤسسة العسكرية الأميركية، وعن تنامي نزعة الإجرام وضياع الأجيال.
ريتشارد فورد روائي أميركي ولد في منطقة جاكسون في الميسيسيبي العام 1944، حصل على جائزة البوليتزر عام 1995، وجائزة فيمينا في فرنسا 2013 عن روايته «كندا». هجر دراسة إدارة الفنادق لينتقل الى دراسة الأدب الإنكليزي ومن ثم عمل مدرساً في جامعة ميشيغان، ومتطوعاً في المارينز ليطرد في ما بعد بسبب مرضه بداء الكبد الوبائي.
« قطعة من قلبي» كانت أول رواية نشرها العام 1976، ثم تبعتها رواية «الحظ الجيد المطلق» 1981. لم تحقق الروايتان نجاحاً يذكر، فهجر فورد كتابة الرواية ليعمل كاتباً رياضياً لمجلة «انسايد سبورت»
في نيويورك، ويصرح حينها بمناسبة هجره كتابة الرواية أن «هناك فجوة كبيرة على الأرجح بين ما أستطيع فعله وبين ما يمكن أن ينجح لدى القراء. شعرتُ أن لديّ الفرصة لتأليف روايتين لكنهما فشلتا فقررتُ البحث عن عمل آخر حقيقي كي أكسب رزقي».
في 1982عاد فورد إلى الكتابة مع رواية «الكاتب الرياضي» ويتحدث فيها عن روائي فاشل تحول إلى كاتب رياضي ويمر بأزمة عاطفية حادة بعد وفاة ابنه. حققت هذه الرواية نجاحاً هائلاً وربط النقاد تجربته هذه بحركة جمالية تسمى «الواقعية القذرة». والمصطلح يشير إلى مجموعة من الكتاب في السبعينات والثمانينات بينهم ريموند كارفر وتوبياس وورث ولاري براون وغيرهم. كتّاب هذا التيار يركزون على رصد مظاهر الحياة اليومية العادية بلغة واقعية واضحة وغير شاعرية، والجانب الفج في الحياة المعاصرة: فمن مدمني المخدرات، إلى الأزواج المهجورين، وسارقي السيارات والنشالين والأمهات غير المتزوجات... وما إلى ذلك من أمكنة العزلة الإنسانية المهملة.
تتميز» الواقعية القذرة « بالاقتصاد الأسلوبي للمفردات والتركيز على الوصف الظاهري للأشياء وتجنب الصفات والاستعارات والمونولوغات الداخلية واتباع الأشياء في سياقها المولد للمعنى. الشخصيات دائماً مفلسة وبلا أعمال مميزة أو مهمة وتميل إلى اليأس الداخلي.
رواية «كندا» صدرت العام 2012 عن دار هاربر كولنز بنيويورك، واستغرقت كتابتها قرابة عشرين عاماً. ترصد حياة فتى في الخامسة عشرة من عمره يدعى ديل بارسونز.
حين يقوم والدا ديل بارسونز بالسطو على مصرف، يتغيّر شعوره بالحياة السوية إلى الأبد. وفي لحظة، تدفع هذه الجائحة الشخصية حياته إلى عتبة لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه سابقاً. اعتقال والديه، والزجّ بهما في السجن، يعنيان مستقبلاً غامضاً ينطوي على التهديد والخطر بالنسبة له ولشقيقته التوأم بيرنير العنيدة والمليئة بالاستياء، والتي تهرب من منزل العائلة في مونتانا، هاجرة شقيقها وحياتها. لم يكن ديل حينها وحيداً في شكل مطلق، ذلك أن صديقة للعائلة تتدخل، وتنقله عبر الحدود الكندية إلى حياة أفضل كما كانت تأمل، وفي كندا حيث سهوب ساسكاتشيوان، يتولّى المسؤولية عن ديل رجل أميركي، يُدعى آرثر رملنغر، وهو شخص غامض وكاريزميّ يخفي تحفّظه المريح طبيعة متوترة وعنيفة.
رواية «كندا» رواية مُتقنة وتستند إلى رؤية مذهلة وعميقة، إلى جحيم الروابط الأسرية الغامضة والمعزّية حيث الحدود تُنْتَهك والبراءة مفتقدة. كُتبت بنثر مقتصد، شاعريّ وعميق في آن، ولهذا يعتقد بعض النقاد أنها ستصبح واحدة من روايات العصر الكلاسيكية.
ـــــــــــــــــــ
المصدر: الحياة اللندنية، 1 فبراير 2015م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق