الأحد، 10 يوليو 2016

ونضجت أفراس النهر في أحواضها لوليام بوروز و جاك كيرواك

ريم غنايم (*)

تاريخ النشر: 

عندما أضاعوا الطريق قبل أن يبدؤوا

فيمَ يهمُّنا اليومَ أن نقرأ شيئًا لكتّاب من عُرفوا بجيل البيت Beat Generation الذين هزّوا العالَم قبل أكثر من نصف قرن؟ لقد شكّل كتّاب هذا الجيل ركيزةً في ثقافة جديدة وُلِدت بعد الحرب العالميّة الثانية وتحوّلوا سريعًا إلى ظاهرة ثقافيّة متحرّكة اكتسحت جيلاً كاملاً، وتبنّت معايير وتجارب جديدة انقطعت عن التجارب السابقة وعادتها. الدّخول في عمق التّجريب مع الجنس، والكحول والمخدّرات، والديانات الروحانيّة الشرقيّة، ومعاداة الماديّة دفاعًا عن حريّات الفرد الشخصيّة، كانت العناوين الرئيسيّة لمشروعهم الثقافيّ الفنيّ الأدبيّ.

كان هؤلاء عبارة عن بوهيميا محليّة كونيّة تركت بصمتها على كلّ من جايلها. مع ألن غينسبرغ صاحب «عواء» (1956م) ووليام بوروز صاحب «الغداء العاري» (1959م) وجاك كيرواك 1957م صاحب الرواية الشهيرة «على الطريق» تشكّل الثالوث المقدّس لحركة الأندرغراوند هذه، والذين سطعت نجومهم في خمسينات القرن المنصرم. لكنّ اثنين من بين هؤلاء الشبّان الثلاثة، كانوا قد تورّطوا في حادثتين هزّتا أمريكا وإعلامها في أواسط الأربعينات وبداية الخمسينات، ولم يكونا بعد سوى كاتبين مغمورَين. وليام بوروز وجاك كيرواك. جريمة قتلٍ يتورّط فيها بوروز مع صديقه كيرواك في منتصف أربعينات القرن المنصرم، ومن ثمّ جريمة قتل جوان فولمر أدامز التي تورّط فيها بوروز بعد مرور سنوات قليلة على الجريمة الأولى. التّستّر على جريمة والتّبرير لها، ومن ثمّ تنفيذ جريمة أخرى والتّبرير لها، ومن بعدهما بداية أدبيّة هزّت العالَم والسّقوط في دهاليز المورفين والمخدّرات الثّقيلة والكحول.

جرائم أنجبت أدبًا مجنونًا برّرها وحتّى تستّر علَيها، تجعلنا نقف ونتساءل طويلاً عن هذه العلاقة الشّائكة شديدة التّركيب بين معنى أن تكونَ مجرمًا بوهيميًا أو مجرمًا صغيرًا وبين أن تكون موهبة أدبيّة فذّة تُبهر العالَم.

في عام 1951م قتلَ بوروز زوجته جوان فولمر عن طريق الخطأ في إحدى الحانات في المكسيك. بدأ القتل كلُعبة تسلية بإطلاق الرّصاص على كأس زجاجيّة فوق رأس جوان، وعلى عكس حكاية ويليام تل (التي أصاب فيها الأب التفاحة الموضوعة على رأس ابنه)، أصابت الرّصاصة رأس جوان وأردتها قتيلة في الحال. لكنّ بوروز- الذي ظلّ يدّعي أنّ المسألة لم تتعدّ كونها لعبة حظّ غير موفّقة- تمكّن من الإفلات من المحاكمة بمساعدة أموال عائلته وحُكم عليه لمدّة عامَين غيابيا.

سبعة أعوام تفصل بين هذه الحادثة وحادثة أخرى لا تقلّ فظاعةً عنها. ففي آب عام 1944م، قُتل لوسيان كار، أحد أعضاء حلقة نيويورك لجيل البيت وأَحد الأصدقاء المقرّبين لكيرواك ولبوروز، صديقًا له يُدعى ديفيد كاميرر بعد تحرّش الأخير به جنسيًا، وألقى بجثّته في نهر هدسون. يعود كار إلى شقّة بوروز، يسلّمه علبة سجائر القتيل الملطّخة بالدّم ويخبره بما جرى. يلقي بوروز علبة السجائر في المرحاض ويطلب من كار أن يسلّم نفسه بعد أن أقنعه بوروز. يتوجّه كار إلى كيرواك ويروي له ما حدث، ويغادر الاثنان متنقلين بين الحانات، والسينما بعد أن تخلّصا من السّكين التي قتل بها كار صديقهما المشترك. يتوجّه كار في النهاية إلى الشرطة بعد أن اعترف لوالدته، ويعترف بجريمته ويتمّ احتجازه إلى حين العثور على جثّة كاميرر.

في الخامس عشر من أيلول عام 1944م تم إدخال كار إلى مؤسسة إصلاحية أحداث في إلميرا في نيويورك لفترة أقصاها عشرة أعوام قضى منها عامين.

أثارت هذه الحادثة ضجّة إعلاميّة كبيرة. تمّ احتجاز كيرواك- ابن الثالثة والعشرين عامًا وقتها- ووليام بوروز ابن الثلاثين- كشاهدَين مادّيّين على الجريمة. طلبة جامعيّون، علاقات مثليّة مشبوهة، مخدّرات، ومَوقف أخلاقيّ محيّر من قبل بوروز الذي أعدم الأدلّة (وبعد انتهاء القضيّة أصبح بوروز مدمنًا على المورفين) ومن قبل كيرواك (سُجن لفترة من الزّمن لرفض والده دفع كفالة خروجه) الذي خرج بشكل طبيعيّ مع كار ليشاهدا فيلمًا وكأنّ شيئًا لم يحدث.

شكّلت هذه الحادثة البؤرة المركزيّة في وعي هؤلاء الكتّاب الّذين سيصبحون لاحقًا ظاهرة أدبيّة حقيقيّة، حيثُ كان لها أكبر الأثر في كتاباتهم وأشكال رؤيتهم المتعددة لها. في عام 1945م ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، قرّر الكاتبان المغموران آنذاك أن يخوضا تجربة تأليف رواية مشتركة هي «ونضجَت أفراس النّهر في أحواضها» (وهو سطر مستوحى من نشرة أخبار حول حريق اشتعل في سيرك وقتها). لكنّ الرواية لم تُنشَر وقتها بحُكم كون مَن شاركوا فيها كانوا لا يزالون على قيد الحياة.

في عام 2005م رحل لوسيان كار عن العالم وفي عام 2008م صدرت الرواية ولم يكن الأبطال الأربعة على قيد الحياة. لكنّ الأعوام التي تلت الجريمة لم تخلُ عند كتّاب البيت من إعادة تصوير هذه الحادثة في أشكال تخييليّة متعدّدة (كيرواك في روايته البلدة والمدينة The Town and the City وغرور دلوز Vanity of Duluoz، وألن غينسبرغ في روايته نشيد الدّم Bloodsong، وفيلم «اقتل أحباءك» Kill Your Darlings الذي عُرض عام 2013م حول جريمة قتل كاميرر إلى جانب حوارات معهم حول ما حصل في تلك الليلة، ومقاطع من سِيَرهم الأدبيّة وغير الأدبيّة، تؤكّد كيف شكّلت هاتان الحادثتان، تحديدًا الأولى، محطّة رئيسيّة في وعي الكاتبين وضميريهما لعقود من الزمن).

قسوة الصّبا، والغد الّذي لا يأتي

تنقسم الرواية إلى ثمانية عشر فصلا قصيرًا (ما عدا الفصل السابع عشر وهو أطولها على الإطلاق) وفيها يروي كيرواك على لسان مايك رايكو تفاصيل اللقاء الأخير بينه وبين فيليب (كار) بعد الجريمة. راويان رئيسيّان هما ويل دنيسن (وليام بوروز) ومايك رايكو (جاك كيرواك) يسردُ كلٌ منهما أجزاء من الحادث وما كان قبلها، كلٌ وفق ما رآه وما عرفه. بطلان رئيسيّان في هذه الحكاية هما فيليب توريان (لوسيان كار) وريمزي ألن (ديف كاميرر)، إلى جانب شخصيات أخرى كثيرة حضرت في هذه الرواية لم تكن تعني كثيرًا في تحديد ورسم ما حصل في ليلة الرابع عشر من آب عام 1944: جيني (إدي باركر زوجة كيرواك الأولى)، باربرا (سلين يانغ صديقة كار)، جيمس كاتكارت (جون كينغسلاند صديق كار). إلى جانب هؤلاء الذين نراهم يظهرون ويختفون على طول الرواية نجد والد ووالدة لوسيان كار، وصديقة كاميرر وزوجها وغيرهم من شخوص هامشية فرعية لا دور لها في هذه الرواية إلا لتسد بعض فراغات السّرد عند كلّ منهما.

يروي الاثنان تفاصيل ما حصل بين فيليب توريان (لوسيان كار) وبين ريمزي ألن (ديف كاميرر) ويبدو من البداية أنّهما يأخذان جانب الشّاب فيليب من بداية الرّواية. شيءٌ ما غير واضح فيما يتعلّق بالعلاقة الغراميّة-المثليّة-العدائيّة بينهما منذ البداية. حوارات طويلة عبثية حلمٌ يجمع فيليب ومايك بالإبحار على متن إحدى السفن إلى فرنسا، في حين يحاول ألن أن يقحم نفسه داخل هذا الحلم طمعًا منه بأن يكون إلى جانب عشيقه الفتى فيليب. يصوّر كيرواك ديفيد كاميرر (ألن) على أنّه رجلٌ مهووس جنسيًا بفيليب ولا يجد كيرواك زاويةً في الرّواية إلاّ وأبدى شكوكه حيال هذه الشّخصية المنحرفة جنسيًا مؤيّدًا صديقه فيليب.

الفصلان السادس عشر والسابع عشر يُعتبران أهم فصلين في الكتاب ففيهما تحدث المواجهتان: بين ويل وفيليب وبين مايك وفيليب حول الطريقة التي قتل فيها العجوز ألن:

«قتلت أل وألقيت جثته بجانب أحد المخازن […] سرنا إلى مكان ما في الجادة الثانية ودخلنا إلى مخزن قديم وبدأنا نتفحص ما كان هناك. وجدنا فأسًا صغيرة وكسرت بها بعض النوافذ. بعدها صعدنا إلى السطح. قال لي آل إنه يريد أن يبحر معي. أصابني الجنون ودفعته. كاد يسقط. نظر إلي وقال «أريد أن أفعل ما تفعله أنت. أريد أن أكتب الشعر وأن أذهب إلى البحر وكل شيء». […] حسنا، قلت له، هل تريد أن تموت؟ قال «نعم». وبدأ يتحاذق ثم حاول أن يضمّني. كنت لا أزال أمسك بالفأس، فضربته في جبينه. سقط. كان قد مات. […] دحرجته عن السطح بقدمي. بلغ الارتفاع سبع طوابق تقريبا».

يغادر فيليب شقة ويل ويتوجه إلى شقة مايك. يغلق ويل الباب بعد أن أبلغه بضرورة تسليم نفسه بدلا من الهرب. يلتقط ويل علبة السجائر المبقعة بدم أل، يمزقها إلى قطع صغيرة ويلقي بها في المرحاض. هكذا يشترك ويل (وليام بوروز) في جريمة قتل ألن (كاميرر) عندما استمع إلى فيليب، وعندما حاول أن يقنع فيليب بتسليم نفسه وتأليف صيغة خاصة حول ما قام به الأخير بأنّ آل اعتدى عليه وحاول اغتصابه وأن فيليب فقدَ صوابهُ لحظتها فقام بضربه، إلا أن الأخير تعثر وسقط عن السطح، وبهذا يحصل فيليب على حكم مخفف. وأخيرا عندما أخفى أثرا من أهم آثار الجريمة.

أمّا كيرواك (مايك) فيصغي إلى اعتراف فيليب (كار) ويخرجان معًا ليشاهدا فيلما لألكسندر كوردا بعُنوان «الريشات الأربع»، ويترددا بين الحانات يأكلان ويشربان ويلهوان ويتأملان اللوحات في أحد المتاحف، ويبرران معًا ما فعله فيليب. يشترك مايك (كيرواك) في هذه الجريمة بنفس الطريقة، وذلك عندما برّر ما فعله فيليب بالعجوز المثليّ «المهووس» ألن، وعندما ساعد فيليب على محو آثر الجريمة (منديل ألن) الملطخ بالدم، وأخذا يضحكان بعدها رغم أنهما عرفا أن النهاية الحتمية هي السجن.

يقوم الراويان بتحوير بعض معالم الجريمة. فبدلاً من السّكين التي قتل بها لوسيان ديف يستخدمان هنا الفأس وبدلاً من المتنزّه يلتقي الاثنان في مصنع مهجور، وبدلاً من إلقاء الجثة في نهر هدسون يلقي فيليب الجثة من سطح المصنع.

هذه هي أهمّ أحداث هذه الرواية. كلّ منهما يروي ما لم يره ولم يسمعه الآخر. النّساء؟ دمى متحرّكة لا دور لهنّ في هذه الحكاية المشبوهة إلا ليشكّلن تغطية عرضيّة للعلاقات المثليّة العدائيّة والغراميّة في نفس الوقت بين أبطال هذه الحكاية. هذه الرواية هي أوّل عملٍ روائيّ مشترك يؤلّفه كاتبان في بداية طريقهما الأدبيّ. جريمة هزّت المجتمع الأمريكيّ لم تكن مجرّد نهاية أسدلت السّتار على تاريخ مظلم قديم، بل شكلت بداية مرحلة أدبيّة جديدة في أمريكا ونقطة مفصليّة في حياة كلّ من شارك في هذه الحادثة التي حدّدت وعي كيرواك وبوروز في كثير من كتاباتهما اللاحقة.

سؤال الأدب والإجرام

ما فعله لوسيان كار كان جريمة، وما فعله بوروز مع زوجته كان أيضًا جريمة، وما فعله كيرواك بتبرير القتل ومحو الأدلّة هو أيضًا جريمة. لو كنّا نحكي عن حكاية يشاركُ فيها التّخييل والأبطالُ المتخيّلون، لكنّا ربطنا كمّ هذا العنف بظروف تلكَ المرحلة العنيفة في العالَم أجمع. السّؤال الأوّل والأخير الذي يجب طرحه هو السّؤال الأخلاقيّ حيالَ أن تكون أديبًا ومجرمًا في نفس الوقت. هل الأدب يبرّر كون الأديب مجرمًا؟ بوروز الذي تحوّل سريعًا إلى مدمن من العيار الثّقيل حتّى وفاته عن عمر ناهز الرابعة والثمانين، كان قد أطلق النار على زوجته جوان عام 1951م دون قصد في لعبة تفجير زجاجة فوق الرأس. وكيرواك الذي توفي عن عمر ناهز السابعة والأربعين، قضى سني عمره القصير في ترحال وتنقّل باحثًا عن معنى الحياة وجوهرها بين المهمّشين وظلّ حتى نفسه الأخير في مهبّ الطّريق. ظهرَ هؤلاء الكتّاب في سنوات الجَمر، السّنوات التي ولّدت أعمق معاني الأدب حول تجربة الإنسان الحديث مع العالَم، ولكنّها أكسبته طاقاتٍ هائلة من العنف والإحباط والشّعور بالخيبة من الإنسان وقيمه التي أثبتت فشلها. ولو لم تكن هاتان الجريمتان قد وقعتا فعلاً في رحلة هذين الرّجلين هل كانت موهبتاهما الأدبيّتان ستريان النّور بهذا الحجم، هل الجريمة تجيز لكَ أن تكون كاتبًا موهوبًا؟ هل الأدب يصفح لكَ كونكَ مجرمًا؟ لا يمكن بالضّبط الإجابة على هذه الأسئلة بشكلٍ مُطلق. شيء من النّرجسيّة والأنانيّة والعدائيّة والقسوة في هذا الكتاب ومحاولات تبييض وجه لوسيان كار (الذي كان رمزًا لفورة الشّباب وللمستقبل)، لكن مقتل كاميرر (الّذي انتمى إلى الجيل المخضرم والّذي غالبًا ما وصف بظلاميّة وغموض وسخرية كبيرة من قبل الجميع) بهذه الطريقة وفي هذا التّوقيت، كان هو السّبب المُباشر في بروز هذه الأسماء.

الرّواية خطيّة، مغلّفة بحبكة وشخصيّات رئيسيّة وأخرى ثانويّة، غارقة في إكليشيهات أربعينات القرن العشرين حول الإنسان والحريّة والفنّ والتمرد، وموغلة في أجواء البوهيميا التي غالبًا ما تلخّصت بالنّساء والجنس والكحول والموسيقى والعنف والتشرّد والحياة بلا أيّ هدف أو معنى. شعارات نقرؤها اليوم ولا ندري حقًا- باستثناء أهميّة ما حصل ليلة الجريمة- إلى أيّ حدّ نتماهى معها في عصر العولمة والرأسماليّة الكونيّة. لكنّ الرّواية في جميع الأحوال تكشف لنا عن أسرار كثيرة لما حدث في تلك الليلة دون أن تخوض فيما حدث بعدها. وليام بوروز، الذي افتتح الرواية، هو نفسه الذي يُنهيها برشاقة عالية في السّرد، وإن بدا السّرد على طول الرواية غارقًا في عوالم الضّياع والوحدة.

ـــــــــــــــــــــــ
ونضجت أفراس النهر في أحواضها (And the Hippos were Boiled in their Tanks) دار النشر: Grove Press 2008
214 صفحة
(*) ريم غنايم شاعرة ومترجمة من فلسطين.
ــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق