ترجمة : عمرو محمود السيد
مدونة : مرارة روح
كبرا كجارين على حدود أحد المدن وبالقرب من الحقول والغابات والبساتين, وتحت عيون أجراس جميلة اعتلت برجاً لمدرسة للمكفوفين. هم الآن في العشرين من عمرهما ولم يريا بعضهما الآخر منذ عام تقريباً. كان دفء مريح لطيف يسود علاقتهما, لكن لم يكن بينهما كلام المحبين.
كان اسمه نيوت.. وكان اسمها كاثرين. مع بداية الظهيرة, طرق نيوت على الباب الأمامي لبيت كاثرين. جاءت إلى الباب وهي تحمل مجلة براقة كثيرة الورق كانت تقرأ فيها. كانت المجلة موجهة بالكامل للعرائس. قالت وهي مندهشة لرؤيته:
- "نيوت!"
قال:
- "هل يمكن أن نتمشى قليلاً ؟
كان نيوت شخصاً خجولاً حتى مع كاثرين. كان يخفي حيرته بأن يتحدث دون أن يمرر الكلام على مشاعره وكأن ما يهمه بالفعل لا علاقة له بما يتحدث به.. يتحدث كما لو كان وسيطًاً سرياً, وسيط سري يتوقف كثيراً بين مآرب جميلة وقصية وخبيثة بينما يبلّغ رسالته. كانت هذه طريقة نيوت في الحديث على الدوام, حتى في الأمور التي كانت تهمه بشدة.
تساءلت كاثرين:
- نتمشى؟!
أجاب نيوت:
- نحرك أرجلنا.. بين الأشجار, فوق الجسور..
- لم يكن لدي أدنى فكرة أنك هنا في المدينة.
- لقد أتيت للتو.
- يبدو لي أنك لا تزال في الجيش.
- بقي لي سبع أشهر أخرى في خدمتي.
كان نيوت عريفاً في سلاح المشاة.. بدا زيه مجعداً, وحذاؤه أغبراً. كان من الواضح أنه يحتاج لحلاقة ذقنه.. مد يده لالتقاط المجلة.
- دعينا نرى هذه المجلة الجميلة.
أعطتها له:
- إنني سأتزوج يا نيوت.
- أنا أعرف.. دعينا نتمشى قليلاً.
- أنا مشغولة بشدة يا نيوت. الزفاف بعد أسبوع واحد.
- إذا ذهبنا للتمشية فإن هذا سيجعلك مشرقة.. عروس مشرقة.
قلّب أوراق المجلة:
- عروس مشرقة مثل هذه, وهذه, وهذه. (قالها بينما يشير إلى العرائس).
تورد خدي كاثرين وهي تفكر في العرائس المشرقات.
- سيكون هذا هدية لهنري ستيوارت تشيسنز إذا ما أخذتك للتمشية. سأعطيه عروس متوردة الخدين.
قالت:
- أنت تعرف اسمه؟
قال:
- راسلتني أمي. هل هو من بيتسبرج؟
- نعم. حين ستراه ستحبه.
- ربما.
- هل.. هل ستستطيع أن تأتي للزفاف يا نيوت؟
- أشك في هذا.
- إجازتك ليست طويلة بما يكفي؟
- إجازة؟ أنا لست في إجازة.
كان نيوت يتفحص إعلاناً من صفحتين لمشغولات فضية..
قالت:
- ماذا؟
- أنا الآن ما يطلقون عليه متهرب من أداء الواجب.
- لا تقل ذلك يا نيوت!
- هذه هي الحقيقة بكل تأكيد.. (قالها بينما كان ينظر في المجلة..)
- لم يا نيوت؟
- كان علي أن أختار نقش الفضة المناسب لك.
بدأ يقرأ أسماء النقوش الفضية من المجلة.
- أمبارل؟ هيثر؟ ليجيند؟ رامبلر روز؟
رفع بصره إليها وابتسم:
- أخطط لأن أهديك أنت وزوجك ملعقة.
- نيوت.. نيوت, أخبرني..
- أريد أن أتمشى معك.
عصرت يديها في ألم..
- نيوت.. أنت تكذب علي بشأن هروبك من الجيش.
قلّد نيوت صوت سارينة الشرطة بصوت خفيض, ورفع حاجبيه.
قالت:
- أين.. من أين هربت؟
- من معسكر فورت براج.
- نورث كارولينا؟
- هذا صحيح. بالقرب من فايتفيل.. حيث تعلمت سكارليت أوهارا.
- كيف جئت إلى هنا؟
رفع إبهامه, وأشار به كما لو كان يشير إلى سيارة كي تقف على الطريق السريع:
- سافرتُ هكذا ليومين.
- هل تعرف أمك؟
- لم آت لرؤية أمي.
- من جئت لتراه إذاً؟
- أنتِ.
- لماذا أنا؟
- لأنني أحبك. هل يمكننا أن نتمشى الآن؟ نحرك أرجلنا بين الأشجار وفوق الجسور.."
بدءا في المشي في غابة أرضها بنية بلون الأرواق المتساقطة. كانت كاثرين غاضبة ومنزعجة وكانت على وشك البكاء. قالت:
- نيوت, هذا جنون مطلق.
- كيف هذا؟
- هذا توقيت جنوني لتخبرني فيه بأنك تحبني. لم تتكلم بهذه الطريقة من قبل.
توقفت عن المشي.
- دعينا نستمر في التمشية.
- لا, لن نتقدم خطوة أكثر بعد هذا. لم يكن يتوجب علي أن آت معك على الإطلاق"
- لكنك فعلتِ.
- كي أخرجك من المنزل. إذا ما خرج أحدهم وسمعك وأنت تتكلم معي بهذه الطريقة قبل أسبوع من زفافي.."
- ماذا سيظن؟
- سيظن أنك مجنون.
- لماذا؟
أخذت كاثرين نفساً عميقاً, ثم قالت:
- دعني أخبرك أنني ممتنة جداً لهذا الفعل المجنون الذي تجشمته. لا أستطيع أن أصدق أنك هربت بالفعل, لكن ربما تكون كذلك. لا أستطيع أن أصدق أنك تحبني بالفعل, لكن ربما أنت تحبني.. لكن.."
- أنا أحبك.
- حسناً أنا ممتنة لذلك, وأنا مغرمة بك كصديق يا نيوت, مغرمة جداً, لكن التوقيت غير مناسب على الإطلاق
خطت مبتعدة عنه:
- إنك حتى لم تقبلني مطلقاً
أخفت وجهها وراء يديها..
- لا أعني أنك ينبغي أن تفعل هذا الآن. أنا أعني فقط أن ما تقوله لم يكن متوقعاً. ليس لدي أدنى فكرة عن الطريقة التي ينبغي أن أرد بها عليك.
- دعينا نتمشى قليلاً, نقضي وقتاً لطيفاً معاً.
شرعا في المشي مرة أخرى:
- ماذا توقعت أن يكون رد فعلي؟
- كيف لي أن أعرف ما أتوقعه وأنا لم أفعل شيئاً كهذا من قبل؟
- هل كنت تظن أنني سألقي بنفسي بين ذراعيك؟
- ربما.
- آسفة لأنني خيبت أملك.
- لم يخب أملي. لم أكن أعتمد على أن هذا سيحدث. ما يحدث الآن لطيف جداً. لنتمشى فقط.
توقفت كاثرين مرة أخرى.
- هل تعرف ما الذي سيحدث بعد هذه التمشية؟
- لا.
- سنتصافح.. سنتصافح وننصرف كأصدقاء. هذا ما سيحدث.
أومأ نيوت.
- حسناً.. تذكريني من وقت لآخر. تذكري كم أحببتك.
انفجرت كاثرين في البكاء رغماً عنها. أعطته ظهرها ونظرت إلى صفوف الأشجار اللامتناهية. قال:
- ما الذي يعنيه هذا؟
- غضب! (قالتها وهي تقبض على يديها.) ليس لك حق في..
- كان علي أن أتأكد إذا ما كنت تحبينني أم لا.
- لو كنت أحبك كنت أخبرتك من قبل..
- هل كنت ستفعلين؟
- نعم.
قالتها وهي تتحول لتواجهه, بينما كان وجهها أحمر للغاية.
- كنت ستعرف.
- كيف؟
- كنت سترى الحب. النساء لسن ماهرات في إخفائه.
نظر نيوت عن كثب إلى وجه كاثرين. أرعبها أن ما قالته كان صحيحاً, فالمرأة لا تستطيع أن تخفي حبها... في هذه اللحظة كان نيوت يرى حباً صادقاً في وجهها... وقد فعل ما كان عليه أن يفعله...
قبّلها.
عندما أفلت ذراعيه عنها, قالت:
- لم يكن علي أن أسايرك. أنت شخص سيء يا نيوت.
- أنا؟
- لم يكن عليك أن تفعل هذا.
- ألم تعجبك؟
- ما الذي تتوقعه.. عاطفة ملتهبة فياضة؟
- أقول لكِ على الدوام إنني لا أتوقع ما سيحدث.
- ما سيحدث أننا سنقول وداعاً.
عبس قليلاً ثم قال:
- حسناً.
- لست آسفة على أنني قبلتك. كان هذا حلواً. كان ينبغي علينا أن نقبل بعضنا من قبل, لقد كنا قريبين جداً من بعضنا. سأتذكرك دائماً يا نيوت.. حظ سعيد.
- حظ سعيد لك أيضاً..
ثم قال:
- ثلاثون يوماً.
- ماذا؟
- ثلاثون يوماً في السجن. هذا ما تكلفه لي هذه القبلة.
- أنا.. أنا آسفة لكنني لم أطلب منك أن تهرب.
- أنا أعرف.
- وأنت لا تستحق مكافأة بطل على هذه الفعلة الحمقاء على أي حال.
- لابد أنه من اللطيف أن يصبح المرء بطلاً.. هل هنري ستيوارت تشيسنز بطل؟
- ربما سيصبح إذا ما حانت الفرصة.
لاحظت أنهما بدءا يمشيان مرة أخرى, وبدءا ينسيان الوداع اللذان كانا مقدمان عليه.
- هل تحبينه بالفعل؟
- بالتأكيد أحبه! لم أكن لأتزوجه لو أنني لا أحبه!
- ما الذي يجذبك إليه؟
- بهذه الصراحة! هل تعرف كم أنت مزعج؟ هناك الكثير والكثير من الصفات الحسنة في هنري! نعم وهناك الكثير من الأشياء السيئة أيضاً. لكن هذا ليس شأنك. أنا أحب هنري, وليس علي أن أناقش مميزاته معك!"
- آسف.
- حقاً!
قبلها نيوت مرة أخرى. قبلها لأنها كانت تريده أن يقبلها..
أصبحا الآن في بستان كبير.
- كيف ابتعدنا كثيراً جداً هكذا يا نيوت؟
- لقد حركنا أرجلنا بين الأشجار وفوق الجسور.
- الخطوات الوئيدة أقصتنا كثيراً.
رنت الأجراس في برج مدرسة المكفوفين المجاورة... قال نيوت:
- مدرسة للمكفوفين.
قالت:
- مدرسة للمكفوفين.
ثم هزت رأسها..
- ينبغي علي أن أعود.
- قولي وداعاً.
- يتم تقبيلي في كل مرة أودعك فيها على ما يبدو.
جلس نيوت على عشب قصير تحت شجرة تفاح.
- اجلسي.
- لا.
- لن ألمسك.
- لا أصدقك.
جلست تحت شجرة أخرى وأغلقت عينيها.
- أتحلمين بهنري ستيوارت تشيسنز؟
- ماذا؟
- تحلمين بزوجك المستقبلي الرائع..
- حسناً سأفعل.
أغلقت عينيها بشدة وقلبت صوراً لزوجها القادم..
تثاءب نيوت. كان النحل يطن بين الشجر وقد نامت كاثرين على الأغلب. عندما فتحت عينيها وجدت أنه قد نام بالفعل. بدأ يغط بصوت خفيض. تركته كاثرين ينام لساعة, وبينما كان نائماً شعرت بأنه تعشقه من كل قلبها.
اتجهت ظلال أشجار التفاح نحو الشرق. دق الجرس ثانية وغنى طائر في السماء. من مكان بعيد, جاء صوت محرك سيارة يحاول القيام ثم يفشل, يحاول ويفشل.
مشت كاثرين من تحت شجرتها وجثت على ركبتيها إلى جانب نيوت. قالت:
- نيوت؟!
- امم
- تأخر الوقت.
- أهلا يا كاثرين.
- أهلا يا نيوت.
- أنا أحبك.
- أنا أعرف.
- فات الوقت.
- فات الوقت.
وقف وتمطى بينما قال:
- كانت تمشية لطيفة للغاية.
- أعتقد هذا أيضاً.
- هل يفترق الرفاق هنا؟
- أين ستذهب؟
- سأسافر متطفلا وسأسلم نفسي.
- حظ سعيد.
- حظ سعيد لك أنتِ أيضاً.. هل تتزوجينني يا كاثرين؟
- لا
ابتسم وحملق في يدها للحظة ثم مشى بعيداً وبسرعة. شاهدته كاثرين وهو يتضاءل على المدى البعيد للظلال والشجر. كانت تعلم أنه إن توقف ونظر نحوها, إذا ما نادى عليها, فلن يكون لديها خيار.
وقد توقف نيوت بالفعل, ونظر نحوها. ثم نادى عليها..
- كاثرين..
جرت نحوه ولفت ذراعيها حوله ولم تستطع أن تتحدث.
(1960)
ــــــــــــــــــــــ
(*) القصة من مجموعة (Welcome to the Monkey House) ، للروائي الأمريكي كورت فوتيغوت، التي نشرت سنة 1968.
(*) رابط تحميل المجموعة (Welcome to the Monkey House)، باللغة الانجليزية : من هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق