الجمعة، 16 سبتمبر 2016

حالة بنجامين بتن المحيرة : سكوت فيتزجيرالد

مقتطف من قصة "الحالة المحيرة لبنجامين بتن"

ترجمة: إكرام صغيري



3.

حتى بعد أن قص الفرد الجديد في عائلة بتن شعره و صبغه بلون أسود غير طبيعي، و قد حلق ذقنه حتى صار كأنه يتلألأ، و قد أُلبس ثيابا للأطفال صنعها له تحت الطلب خياط مندهش، و قد كان من المستحيل على السيد بتن تجاهل حقيقة أن ابنه كان مثالا بائسا لأول طفل يولد للعائلة. وعلى الرغم من انحناء ظهره، فإن بنجامين بتن- هكذا كانوا يدعونه بدلا من أن اسم "متوشالخ" الذي كان يناسبه أكثر لكنه بشع- كان بطول خمسة أقدام و ثمانية بوصات، ولذا فإن هذه الملابس لم تخفي هذا، ولا تعديل حاجبيه وصبغهما استطاع أن يخفي حقيقة عينيه المتعبتين، الباهتتين و الدامعتين.

في الواقع، المربية التي تم تعيينها مسبقا غادرت المنزل في حالة من السخط الشديد المنزل، بعد أن ألقت عليه نظرة واحدة. لكن لم يغير السيد بتن رأيه، فبالنسبة له بانجمين طفل، و يجب أن يبقى كذلك. في البداية أعلن أنه إذا كان بانجمين لا يحب الحليب الساخن فلن يكون هناك ما يؤكله، لكنه وافق في الأخير على السماح لابنه بأكل الخبز والزبدة ، بل و حتى الشوفان كحل وسط.

و في أحد الأيام، جلب معه خشخيشة و أعطاها لبنجامين، و أصر بشدة على أن يلعب بها، عندئذ أخذها الرجل العجوز بانزعاج و كان يجلجلها بإذعان خلال فترات من اليوم.

ومع ذلك، فمن المؤكد أن الخشخيشة كانت تضجره، وانه قد وجد أشياء أخرى تلهيه و تهدئه عندما كان يترك وحيدا. فعلى سبيل المثال، اكتشف السيد بتن في أحد الأيام أنه دخن خلال الأسبوع السابق سجائر أكثر من المعتاد، وهي الظاهرة التي اتضح له سببها بعد بضعة أيام عندما دخل حجرة بانجمين على نحو مفاجئ، فوجد ضباب أزرقا خافتا يعم الغرفة بأكملها ،في حين كان بنجامين يحاول إخفاء عقب السيجار الكوبي و قد اعتلى وجهه إحساس بالذنب. وهذا، بطبيعة الحال، يستلزم ضربا مبرحا، لكن وجد السيد بتن نفسه غير قادر على التحكم فيه، فاكتفى بتحذيره من أن هذا قد " يعيق نموه".

ومع ذلك أصر الأب على موقفه، فأحضر إلى المنزل دمى جنود من الرصاص ، و لعبة القطارات، و أحضر  له دمى حيوانات كبيرة و جميلة مصنوعة من القطن، و للحفاظ على هذا الوهم الذي خلقه- على الأقل من أجله هو -  طالب بإصرار من البائع في متجر اللعب "إذا ما كان طلاء البطة الوردي يزول إذا ما وضعها الطفل في فمه ". ولكن، بالرغم من كل جهود والده، أبى بنجامين أن يبدي اهتماما بها. فكان ينزل خلسة من الدرج الخلفي و يعود إلى غرفته مع مجلد من الموسوعة البريطانية، والذي كان يقضي به فترة ما بعد الظهر، دون إبداء اهتمام بأبقاره القطنية أو بمجسم سفينة نوح الملقى على الأرض. و في مقابل هذا العناد، ذهبت جهود السيد بتن سدى.

و كان الانطباع الذي تولد في بالتيمور مدهشا في البداية .     
ولحسن حظ عائلة بتن أن الحرب الأهلية التي اندلعت قد حولت اهتمام المدينة إلى أمور أخرى و أنقذتهم من كارثة كانت ستحل بهم. والحقيقة أن القلة من ذوي اللباقة قد أجهدوا عقولهم بحثا عن عبارات تهنئة مناسبة للوالدين و في الأخير توصلوا إلى العبارة الذكية بأن الولد يشبه جده، وهي الحقيقة التي لا يمكن إنكارها بسبب حالة الوهن المعتادة و الشائعة بين كل الرجال السبعينيين. و لم يسر هذا السيد والسيدة روجر بتن، و قد أهين جد بنجامين بشدة.

بمجرد ما خرج بنجامين من المستشفى، اتخذ الحياة على النحو الذي وجدها عليه. فتم جلب العديد من الصبية الصغار للقائه، وقد أمضى عشية مؤلمة لمفاصله وهو يحاول إيجاد أي اهتمام في اللعب بالبلبل و الكرات الرخامية، حتى أنه نجح دون قصد في كسر نافذة المطبخ برمية حجر من المقلاع، الأمر الذي أفرح والده سرا.
بعد ذلك أصبح بانجمين يخطط لكسر شيء كل يوم، لكنه كان يفعل هذه الأشياء فقط لأنها كانت متوقعة منه، ولأنه كان يحب المساعدة.

عندما زال نفور جده الأولي، وجد بنجامين وهذا العجوز متعة كبيرة في رفقتهما معا. فكانا يجلسان لساعات، هذان المتباعدان في العمر و الخبرة، وكرفيقين قديمين كانا يتحدثان دون كلل عن الأحداث اليومية البسيطة. وكان بنجامين يشعر بارتياح أكبر في حضرة جده أكثر من والديه – فقد كانا يبدوان دائما إلى حد ما في رهبة منه، وعلى الرغم من السلطة الحازمة التي تُمارس عليه، فغالبا ما كانا يخاطبانه بـ " السيد".
ولقد كان هو الآخر في حيرة مثل الجميع من نضج عقله و كبر جسمه في العمر الظاهر للعيان منذ الولادة. فقرأ حول الموضوع في المجلة الطبية، لكنه وجد أنه لم يسبق و أن سُجلت حالة كهذه من قبل. واستسلاما لإلحاح والده قرر أن يقوم بمحاولة صادقة للعب مع بقية الأطفال الذين كان ينضم إليهم غالبا شريطة أن لا تكون الألعاب عنيفة ككرة القدم مثلا، فقد كان يخشى على عظامه القديمة إذا ما انكسرت أن لا تُجبر مرة أخرى.

عندما بلغ الخامسة تم إرساله إلى روضة الأطفال، حيث بدأ في تعلم إلصاق الورقة الخضراء على الورقة البرتقالية، و تلوين الخرائط وصنع قلائد الورق المقوى .و كان يميل إلى النوم أثناء إنجاز هذه المهام، وهي العادة التي أغضبت معلمته الشابة وأخافتها على حد سواء. ولأجل راحته اشتكت إلى والديه، اللذان قرارا إيقافه عن الدراسة. و أخبر أفراد عائلة روجر بتن أصدقائهم أنهم قد أحسوا أن ابنهم لا يزال صغيرا جدا على الذهاب إلى المدرسة.

عندما بلغ من العمر اثنتا عشرة سنة كانا والداه قد تعودا عليه. في الواقع، للاعتياد قوة كبيرة حتى أنهما لم يعودا يشعران بأنه مختلف عن أي طفل آخر، باستثناء بعض الفضوليين الذين يذكرونهم بذلك. لكن في أحد الأيام، بعد أسابيع قليلة من عيد ميلاده الثاني عشر، وعندما كان ينظر في المرآة، اكتشف بنجامين، أو ظن أنه اكتشف، أمرا مذهلا. هل خدعته عيناه أم أن شعره قد تحول خلال اثنتي عشرة عاما من الأبيض إلى الرمادي الحديدي كما يمكن رؤيته من الجذور؟ ألم تصبح التجاعيد الغائرة في وجهه أقل وضوحا؟ و بشرته أكثر صحة و نضارة، مع بعض الحمرة؟ يستحيل قول ذلك. هو يعلم أن ظهره قد استقام، وأن صحته في تحسن منذ الأيام الأولى من حياته.

"هل هذا ممكن___؟" فكر في نفسه، أو بالأحرى تجرأ على التفكير فيه.
ذهب إلى والده  "أنا أكبر" أعلن بإصرار.
"أريد أن أرتدي سراويل طويلة."
تردد والده  وقال أخيرا: "حسنا! أنا لا أدري. الرابعة عشر هي السن الذي ترتدي فيها سراويل طويلة وأنت لا تزال فقط في الثانية عشر ".
احتج بنجامين  قائلا "لكن عليك الاعتراف بأنني أكبر من سني ".

نظر إليه والده متكهنا و أجاب: "أوه، لست متأكدا من هذا، عندما كنت في الثانية عشر كنت كبيرا مثلك"

لم يكن هذا صحيحا، بل كان جزءا من اتفاق صامت بين روجر بتن و نفسه ليؤمن بأن ابنه طبيعي.

وأخيرا تم التوصل إلى حل وسط. فكان على بنجامين مواصلة صبغ شعره، و أن يقوم بمحاولة أفضل للعب مع أقرانه، و أن لا  يرتدي نظاراته أو يمشي بالعصا في الشارع. في مقابل هذه التنازلات قدم له أول سروال طويل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) دار كلمات للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولي 2015.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق