الخميس، 13 أكتوبر 2016

دون ديليلو في روايته الجديدة زيرو ك‮:‬ الاحتيال علي الموت

ميتشىكو كاكوتانى )النيويورك تاىمز)
ترجمة: مجدى عبد المجىد خاطر

يُطارد الموت شخصيات دون ديليلّو- سواء في هيئة الإرهاب، القنبلة الذّريَّة، الاغتيالات، الانتحار، الحروب، الزلازل، الطوائف القاتلة أو: سموم محمولة جوّاً، تُحلّق فوق صفحة الأرض، مثل قارب موت في أسطورة إسكندنافيَّة قديمة. وفي مسعاهم لدرء مخاوفهم من الموت، يُضطر مواطنوه لبلوغ نظم عَقَديَّة، مُخدرات، هوايات، مبادئ مُنظِّمَة (بدءً مِن كُرة القدم، إلي المعادلات الرياضياتيَّة، وصولاً إلي القصص)، طقوس التدبير المنزلي- أي شيء مِن شأنه إبعاد حقيقة الفناء، ولو مؤقّتاً.
يكاشفنا الراوي في ضجيج أبيض- رواية ديليلو السّابقة- أنّ: كافّة الحبكات تميل للحركة في اتجاه الموت، هكذا طبيعة الحبكات والمكائد، سياسيَّة أو إرهابيَّة أو سرديَّة، مكائد عشّاق أو المكائد التي تمثّل جزءً من ألعاب الأطفال. ندنو أكثر من شفير الموت بكل مرّة نُخطط ونتواطأ فيها. الأمر أشبه بعقد لابد أن يوقّعه الجميع، المتآمرون والمُتآمر عليهم، سواءٌ بسواء
تُشبه رواية السّيد ديليلّو الآسرة الجديدة، زيرو ك- الأكثر اقناعاً منذُ رائعته المدهشة، عالم سفلي (1997)- مسنداً لروايته الأخري، ضجيج أبيض (1985): بائسة وباردة في استشرافها للمستقبل، في حين كانت تلك الرّواية السّالفة ساخرة قاتمة في هزليتها. في زيرو ك، تسعي شخصيتان مركزيتان لهزيمة الموت، لا بتخطّيه، بل بالخضوع إليه: يُخططان لأن يصيرا، مُحفزين كيميائيَّاً للفظ روحيهما، وتجميد جسديهما داخل مجمّع تجميد فائق السريَّة؛ كي يتمكنا يوماً مِن العودة إلي الحياة- مِن خلال تقانة علمية متقنة تشمل تجديد الخلايا وتقانة النانو. في يوم مِن الأيام، سيتاح للبشر (الأثرياء منهم علي الأقل) خيار الولادة من جديد، كائنات طازجة، مشذّبة، غُرست داخلها ذكريات اختاروها بأنفسهم- موسيقي، صور عائليَّة، كتابات فلسفيَّة: روايات فلسفيَّة، أفلام برجمان وكوبريك وكيروساوا وتاركوفسكي.
تُقلع رواية زيرو ك، وقد أضفت عليها روايات السيد ديليلّو الأخيرة، بوينت أوميجا(2010)، رجل ساقط(2007)، والمدينة الكونيَّة(2003)، بعضاً من صداها المؤسف حين استبدل إحساسه الصّاخب الملموس بالحياة المعاصرة، بتأملات نسقيَّة غريبة، مُجرّدة في أغلبها بشأن الهوية والمصير،ولا يهبّ السيد ديليلّو لاستعمال راداره للكشف عن متناقضات وأوهام الحياة الحديثة، إلا بعد مضي نحو ثلث الكتاب
تبدأ روايته تدريجيَّاً بالتكشّف؛ إذْ تختبر الوسائل التي يتقارب من خلالها العلم والدّين في عالم يملؤه الخوف من الإرهاب والحرب، والتلهّف لأجل حلول، وربّما خلاص، تسفر عنه التقانة. في الوقت ذاته، تنفتح الرواية داخليَّاً، إذْ ترسم لوحة لعلاقة جيفري، الرّاوي، العاطفيَّة المشحونة بأبيه اللامبال المتسلِّط- في تذكير بعلاقة بنوّة نيك شاي في رواية عالم سفلي، إحدي روايات ديليلّو القليلة التي يستبطن فيها ما تحت قشرة حيوات شخصياته الهشّة.

في بداية زيرو ك، يُنقل جيفري إلي مُجمّع بعيد بمكان ما غامض بالقرب من كازاخستان، حيثُ موّل أبوه البليونير، روسّ، مشروع التقارب حيثُ يجري تجميد وحفظ الموتي تحسباً لليوم الّذي يُمكن فيه استعادة العقل والجسد معاً. ثمّة وحدة خاصّة اسمها زيرو ك، مُخصصة للمرضي الّذين يتخذون قراراً واعياً: بالانتقال للمستوي التالي، قبل ميتاتهم الطبيعيَّة. كانت زوجة روسّ الحبيبة، آرتس، والتي عانت العديد من الأمراض المسببة للعجز، قد اختارت هذا الشّكل من المساعدة علي الإنتحار، ما يدفع روسّ الّذي يحظي بصحّة جيدة، إلي الإعلان عن عزمه رفقة آرتس في رحلتها بحياتها الأخروية.
يسقط جيفري فريسة ارتباك مُبرر؛ إذْ يتساءل إذا كان أبوه قد تعرّض لغسيل عقل علي يدّ واحدة من الطوائف الخطيرة، أو أنّ قراره ليس إلا مظهراً منحرفاً، بوصفه رجلاً هائل الثراء، للرغبة في بسط السيطرة علي حياته- في هذه الحالة، من خلال اختيار وضع حدّ لها. يُدرك أنّ تعقيدات ردّ فعله ترجع لإنطوائه علي مشاعره المترددة إزاء أبيه الّذي، منذُ عقود مضت، هجره هو وأمّه، وأنّ اغترابه (وهي حالة عقليَّة تسم الكثير ين من أبطال روايات ديليلّو) تعود جذوره إلي هذا الصراع الأوديبي.  
سيشحذ وصف السيد ديليلّو لمجمّع التقارب كافّة تصورات القارئ عن الجمعيات السريَّة. ثمّة ممرات تيه ذات غرف لا يُمكن دخولها وراء أبواب غامضة، تذكير  بتلك البوابات التي واجهت أليس بطلة لويس كارول صعوبة بالغة في عبورها داخل أرض العجائب. ثمّة أيضاً أحاديث متبادلة غريبة، وكافكاويَّة، مع حُرّاس المجمّع الّذين يتكلّمون لغة عصر بيروقراطي جديد تغطّي عملهم الشرير، ولمحات أشبه بالخيال العلمي لآرتس ومرضي آخرين يتم تحضيرهم للمرحلة التالية في رحلاتهم، حيث ستوضع أجسادهم داخل حجيرات فائقة العزل( إذْ قُطِفّت أمخاخهم وسائر أعضائهم الحيويَّة الأخري للحفظ بأماكن أخري، كما هو الحال مع المومياوات المصريَّة).

لو أنّ ثمّة أصداء في تلك الصفحات لفيلم ستانلي كوبريك الكلاسيكي 1968: 2001، أوديسا الفضاء، فإنّ رؤية السيد ديليلّو تكشف عن جانب أكثر إظلاماً. ذلك أنّه يتشكك في هؤلاء الّذين يعتبرون الحياة البشريَّة محض خطوة علي سلّم التطوّر بين القرود وسلالة مستقبليَّة مِن أطفال النجوم. في الحقيقة، تطرح زيرو ك، قضيَّة أنّ الأمل في توفير التقانة حلاً لمسألة الفناء(كما فعل الدّين من قبل) إلهاء ووهم خطيرين منذ اللحظة الرّاهنة. كما تتراءي لقطات الأفلام التي تعرض الكوارث الطبيعيَّة والتي صنعها الإنسان علي شاشات مجمّع التقارب، والموظفين الشبيهين بالروبوتات، كأنّها ترحِّب بنهاية الزمان الوشيكة باعتبارها بداية جديدة


إنّ كافة الثيمات التي نفخت الحياة بروايات السيد ديليلّو علي مدي السنين الفائتة، حاضرة بقوّة في زيرو ك- مِن غواية التقانة ووسائط الإعلام الجماهيريَّة، إلي قوّة المال والخوف من الفوضي. لا تمتلك هذه الرّواية- أو تطمح لامتلاك- محواً سيمفونيَّاً للعالم السفلي، بل هي أشبه بمقطوعة من موسيقي الحجرة. لكن بمجرّد أن تنفض الرّواية عن نفسها بدايتها المتكلّفة، تذكّرنا زيرو ك، بأيام زهو السّيد ديليلّو  ككاتب ووعيه بالأشكال الغريبة المتلويَّة التي يُمكن للمخاوف البشريَّة السرمديَّة أن تتخذها في الألفيَّة الجديدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق